«التحرير»، هو صلب العملية الإعلامية برمّتها، وجوهر الرسالة، وملك المشروع، وبه يمكن
إثارة النزعة الإنسانية لدى القراء، والتعبير بدقة عن السياسة التحريرية وأهداف
الموقع.
و«إدارة التحرير»، هي العمود الفقري لأي
موقع إخباري، ويتوقف عليها النسبة الكبرى من نجاحه، في تحقيق أهدافه ورسالته
الإعلامية، وبها يمكن التعبير بدقة عن السياسة التحريرية؛ عبر إثارة ذهن القراء إلى الموضوعات التي تحرك أفكارهم ووجدانهم.
وتضم «إدارة التحرير»، في أي موقع، فريق
عمل متنوع المهارات والمواهب والقدرات، وكلما كانت تلك الإدارة بما تحويها من
أقسام وأفراد، تعمل بكفاءة عالية، في إنتاج المحتوى الصحفي، الذي يلفت انتباه
الجمهور، ويلقى احترامه وتقديره؛ كان من السهل على الموقع، تحقيق أي أهداف يريدها.
وتعمل «إدارة التحرير»، على تنفيذ الإطار
الفكري والفلسفي والسياسة التحريرية للموقع، وتحديد القواعد والضوابط التي يلتزم بها
شاغلو الوظائف، وترتيب طبيعة العلاقة بين فرق العمل، وتوزيع الأنشطة والمهام
المختلفة، واختصاصات الإدارات والأقسام، وتعيين السلطات والصلاحيات التي تخول
للمستويات المختلفة، وتحديد أسس المحاسبة والمساءلة وحدودها، وترتيب نمط الإِشراف،
الذي يحكم العلاقات بين القادة والمرؤوسين.
ورغم مرور أكثر من 20 عامًا، على ظهور
المواقع الإخبارية، في العالم ومصر، فإنها لا تزال تعاني الكثير من المشكلات، فيما
يخص مفهوم الصحافة الإلكترونية، خصوصًا في الجانب التحريري، وهو ما رسخ انتشار
الأخبار المثيرة والفاضحة، وهدد مصداقية الصحافة بشكل كبير، ما دفع الجمهور إلى شن
هجمات عنيفة على الإعلام، بشكل عام، والمواقع الإخبارية بصفة خاصة؛ بسبب تقييد
السياسة التحريرية، والاعتماد على الطابع الاستبدادي، الذي كان يستخدم في الصحافة
الورقية.
واتضح هذا بشكل كبير، من حالة الفوضى،
التي اجتاحت المواقع، خصوصًا في الفترة بين ثورتي 25 يناير و30 يونيو وما بعدها،
وهو ما أدى إلى زيادة حدة الاستقطاب داخل المجتمع المصري، فلم تستطع المواقع
الإخبارية في مصر؛ القيام بدور وطني يجمع شمل المصريين في تلك الظروف العصيبة، وهو
ما كشف العوار الذي أصاب الإعلام المصري بصفة عامة، وأصاب المجتمع بحالة من فقدان
ثقة.
كما أصبح المحتوى المنشور على المواقع في
مصر، لا يتمتع بالحد الأدنى من اللغة السليمة، ومليئًا بالأخطاء الإملائية
والنحوية، التي لم تعد في مجال اهتمام إدارات التحرير، ناهيك عن مشكلات النقل، دون
أي حساب للملكية الفكرية، فالسرقات أصبحت السمة الشائعة في أغلب المواقع، ما يقلل
من قيمة المحتوى الأصلي، ويضيع مجهود إدارات التحرير للحصول على المعلومات.
فأغلب المواقع، تعاني من حالة تنظير
سلبي، فلا يوجد أسلوب ثابت للكتابة، حتى داخل الموقع الواحد، فتارة تجدهم يعتمدون
على القوالب الصحفية القديمة «الهرم المقلوب، والمعتدل»، وأخرى تكتب الأخبار دون
تقييد، ويتحججون في الحالتين بالمرونة التي يجب أن تتمتع بها الكتابة باعتبارها
عملًا إبداعيًا، وأحيانًا الاتكال على إمكانية تعديل المواد بعد النشر، باعتبار أن
كل شيء قابل للتعديل أو الحذف، وهذا خطأ كبير.
- إن تمتع المواقع الإخبارية بهذه الصفة،
لا يعني أن يسود الإهمال عملية النشر والتغاضي عن الأخطاء، ما دامت هناك إمكانية
للتعديل، لأن ذلك يؤثر فيما بعد على ترتيب الموقع في محركات البحث، فضلًا عن ذلك
يهدد الصورة الذهنية للموقع لدى القراء، ففي الوقت الذي يمكن لأي قارئ معرفة مثلًا
أسلوب الكتابة في موقع مثل «بي بي سي»، لا يمكنه التعرف على أسلوب الكتابة في أي
موقع مصري.
وهناك مشكلة أخرى، متعلقة بنوعية
المحتوى، فلا يزال محررو المواقع الإخبارية، يتعاملون مع المواد الصحفية بنفس معاملة
الصحافة الورقية، وتجد المواقع تارة تعتمد على الكتابة البرقية السريعة، القائمة
على الخبر القصير، وأخرى تستخدم الكتابات المتعمقة، وللأسف هذا ليس في إطار
التنوع، ولكن إدارات التحرير ليست لديها معايير واضحة لنوعية الموضوعات التي
تستهدف بها القراء.
فيما أثرت «الذهنية الورقية»، التي
انتقلت للعمل في المواقع الإخبارية سلبيًا، حيث تعامل معها على أنها مجرد نافذة
ووعاء لنشر المضمون الصحفي، وليست كوسيلة إعلامية لها خصائص وسمات مختلفة كثيرًا
عن الصحف المطبوعة، وهو ما أثر على المنتج الصحفي النهائي.
وتسببت «الذهنية الورقية»، في مشكلات
أخرى كثيرة، أثرت بالسلب في جميع مراحل العمل في المواقع الإخبارية كـ«التصميم،
والتحرير، والإعلان، والترويج»، وتسببت في إغلاق عدد كبير من المؤسسات الإعلامية،
وعزوف أخريات عن إنشاء إصدارات إلكترونية لمطبوعاتها، وهناك أمثلة كثيرة لنهج
التطوير في الصحف القومية.
كما فشلت المواقع الإخبارية في تقديم
منتج إعلامي يمكنه التكيف مع الاهتمامات الفردية لكل قارئ، بعيدًا عن الاتجاه
الرئيسي لوسائل الاتصال الجماهيري، الذي يميل نحو المركزية أو تجميع الجماهير
«Massification»؛ بمعنى نقل الرسائل الإعلامية
نفسها إلى كل الجماهير، أو توحيد الرسائل وتعدد الجماهير المستقبلة لها.
ولم يطرح أي موقع -حتى الآن- خدمة تقديم مواد إعلامية، وفقًا لاهتمامات القارئ
الخاصة، تحقيقًا لمبدأ المعلومات، حسب طلب المستخدم«Information on Demand» ،
أو ما يمكن القول إنه شخصنة الأخبار «Personalized News Services» بمعنى تزويد المستخدمين بخدمات الأخبار الشخصية.
وتتضح هذه السمة المهمة للمواقع
الإخبارية في المواقع التجاوبية، إذ تتيح للقراء حرية الاختيار ما بين الموضوعات
المختلفة، أما باختيار كل المحتوى المنشور على الموقع ما يسمى «Full
Content»، أو جزء منه وأقسام معينة للتعرف عليها، وما يطلق عليه «Push Content»،
وفيه يحدد المستخدم، قائمة تتضمن كل المجالات التي تهمه فتظهر له فقط، وسنتعرف
أكثر عليها، في الجزء الخاص بالتصميم التجاوبي، وكيف يحدث ذلك، خصوصًا في
التطبيقات المحمولة.
لكن المشكلة السابقة، أضاعت على المواقع
الإخبارية، فرصة استغلال السمات التفاعلية، التي تعد ميزة تنافسية، تتضح فيها قدرة
إدارة التحرير في الموقع على التواصل والاتصال مع القراء، وتحمل انتقاداتهم ودعم
المشاركة الإيجابية -خصوصًا التعليقات- ومقالاتهم وإبداعاتهم، وأيضًا الاستطلاعات
والاستفتاءات التي تعطي مساحة كبيرة للقراء لإبداء آرائهم.
فالعلاقة في السابق بين «الصحيفة الورقية»
و«القراء»، كانت هامشية ومن جانب واحد، وكان من الصعب رصد ردود الأفعال على عكس
المواقع الإخبارية، التي تمتلك خيارات اتصالية متعددة، تجعل القراء جزءًا من الحدث،
ومشتركين فيه، وهو ما ساعد في تحويل الجمهور من مستقبلين سلبيين إلى مستخدمين
إيجابيين، يمكنهم المشاركة بأشكال أكثر نشاطًا.
حتى التحديث المستمر -الذي يعد من أهم المزايا التنافسية، التي تتمتع بها الصحف الفورية، عن نظيرتها المطبوعة- لا تحكمه ضوابط معينة، فأولويات النشر ضائعة بين طيات التدفق الرهيب للمعلومات، وهو ما يحتم ضرورة وضع ضوابط تحفظ عملية الانتقاء، وهو ما سبب مشكلات في ديناميكية النشر، فمثلًا تجد موقعًا ينشر في الساعة الواحدة 60 خبرًا، وفي أوقات أخرى ينشر خبرًا واحدًا في الساعة!
«الخلاصة»؛ أن السمات الجديدة
التي تتمتع بها الصحافة الإلكترونية، جعلت مهام إدارة التحرير أكثر صعوبة، عما كان
من قبل في الصحافة الورقية، كـ«الفورية، والآنية»، وأسقطت المحتوى الصحفي في
المواقع الإخبارية المصرية؛ لينتهك مواثيق الشرف الصحفي كافة.
إن «الفشل الذريع» لمديري المواقع
الإخبارية، في إنتاج مواد صحفية جيدة تستهوي القراء، وتقدم لهم خدمة معلوماتية
تثير أذهانهم، وتدفعهم للتفاعل بشكل جيد، وتجلب زيارات كثيرة، يمكن استغلالها في جلب
الإعلانات، وإحداث التأثير والإقناع؛ دفعهم إلى اللجوء لشراء الزيارات الوهمية بدلًا
من العمل بجد والاجتهاد عبر تطوير المحتوى الصحفي.
للتواصل:
علي التركي
مدير عام تحرير موقع «البوابة نيوز»
Ali_turkey2005@yahoo.com
مقالات تهمك:-
مبادرة لإنقاذ الصحافة الإلكترونية «1»
لماذا «جوجل» منقذ الصحافة الإلكترونية؟ «2»
لماذا تخسر المواقع الإخبارية مع «جوجل»؟ «3»
كيف تربح المواقع الإخبارية؟ «4»
الكيان المؤسسي في المواقع الإخبارية.. الفريضة الغائبة «5»
فن صناعة المواقع الإخبارية.. «التخطيط» «6»
تصور مبدئي لإنشاء موقع إخباري ناجح «7»
شركات الإنترنت وتدمير «صحافة الفيديو».. «8»
كيف تحمي موقعك من النصابين؟ «9»
«مسمار جحا» في قانون الصحافة «11»
«أنا منافق إذا أنا موجود».. «12»
عن أزمة الصحافة.. كيف تصنع بطلًا من ورق؟ «13»
العلاقة بين الصحفي والمصدر «تجارة رقيق».. «14»
«التصميم التجاوبي» والمواقع الإخبارية «15»
«الذهنية الورقية» تحرق المواقع الإخبارية «16»
الصحافة الورقية «ماتت».. والإلكترونية مريضة بـ«التوحد»! «17»
«الصحافة» و«فيس بوك» صراع دائم وهدنة مؤقتة «18»
عبدالله كمال ونبوءة المحتوى المتعمق في المواقع الإخبارية «19»
هل تستطيع «الذهنية الإلكترونية» صناعة صحيفة ورقية؟ «20»
كيف جعلت الصحافة الإلكترونية «العلم في الراس والكراس»؟ «21»
لماذا تلجأ المواقع الكبرى إلى «الزيارات الوهمية»؟! «22»
المعايير الرئيسة لتقييم جودة المواقع الإخبارية «23»
لماذا كتاب «صناعة المواقع الإخبارية»؟ «24»
"صناعة المواقع الإخبارية".. مهام فريق التسويق «25»
صناعة المواقع الإخبارية.. التسويق لا يعني الزيارات فقط! «26»
10 أخطاء تسويقية تقع فيها المواقع الإخبارية؟ «27»
الخطة التسويقية للمواقع الإخبارية «28»
كيف نختار المعلومات الصالحة للنشر؟ «29»
دراسة السوق وتحديد الأهداف التسويقية للمواقع الإخبارية «30»
استراتيجيات ومحاور خطة التسويق في المواقع الإخبارية «31»
6 مهام رئيسة لقيادات المواقع الإخبارية «32»
«دورة النشر» في المواقع الإخبارية «33»
هل اجتماعات التحرير مضيعة للوقت؟ «34»
المشكلات التحريرية في المواقع الإخبارية «35»
السياسة التحريرية.. لعنات وتجاوزات «36»
4 عناصر تتحكم في السياسة التحريرية «37»
كيف نضع السياسة التحريرية للموقع؟ «38»
المحتوى الصحفي القصير.. المشكلات والتحديات «39»
المحتوى المتعمق.. نكون أو لا نكون! «40»
كيف نختار موضوعات الـ«Top Story»؟ «41»
المراجع التحريري.. المهام والصلاحيات والمسئوليات «42»
المراجع اللغوي.. المهام والمسئوليات والصلاحيات «43»
سكرتير التحرير.. المهام والصلاحيات والمواصفات «44»
رئيس القسم ونوابه.. المهام والصلاحيات والمواصفات «45»
مدير التحرير.. الواجبات والمسئوليات «46»
رئيس التحرير.. المهام والمسئوليات والصلاحيات «47»
الاستراتيجيات الصغيرة.. كيف يفكر مديرو المواقع الإخبارية؟ «48»
كيف يفكر مديرو المواقع الإخبارية الكبرى «49»
كيف يفكر مديرو المواقع الإخبارية المتوسطة؟ «50»
الميزانيات الكبيرة تصنع مواقع صغيرة أحيانًا! «51»
كيف تعمل المواقع الإخبارية متناهية الصغر؟ «52»
كيف تدار المواقع الإخبارية الصغيرة؟ «53»
كيف تدار المواقع الإخبارية المتوسطة؟ «54»
التنظيم المؤسسي للمواقع الإخبارية «55»