بعدما سمعنا من جميع الأطراف
داخل مصر كان هناك طرف واحد متبقٍ يجب أن نسمع منه شهادته لتقارن مع كل تلك الشهادات
التي جمعناها وهم يهود مصر الذين هاجروا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان التواصل
في البداية صعبًا لأسباب عديدة أهمها "من أنا وما هي الجهة والسبب الرئيسي لأن
أطرح تلك التساؤلات وأقوم بإخراج دفاتر قديمة كانت قد انتهت وتم إغلاقها" كان
هناك حذر دائم من الطرفين والتي كانت من ناحيتي تتمثل في الحرص الشديد على التأكد من
حقيقة هوية الشخص الذي أتحدث معه كي لا أقع في فخ نصابي المعلومات، ومن ناحيتهم كان
هناك حذر من أنني أتبع لجهة سياسية وسنستخدم تلك المعلومات في أغراض غير سليمة.
بدأت في تعريف نفسي والغرض من وراء أسئلتي التي كان أهمها
الحديث عن وقائع خروجهم وحقيقة ما ناقشناه في الحلقات الماضية وكان هناك هجوم من بعض
المصريين المسلمين على ما أكتب.. ومحاولتنا للهروب من الاتهامات الجاهزة بالتطبيع مع
الكيان الصهيوني التي توجه لكل من يدخل هذه الحلقة الحساسة.
في البداية حاولنا التواصل مع "ليفانا زامير" المسئولة عن الجالية
اليهودية المصرية في إسرائيل ولكن رفضت الحديث وفضلت الصمت ومن ثم بدأنا الحديث مع
"فيفان
فراحي" وهى إحدى اليهود المصريات اللائي تم تهجيرهن فترة الخمسينيات والستينيات
ذهبت لفرنسا مع عائلتها ومن ثم انتقلت إلى إسرائيل في البداية سألناها عن قصة خروجها
من مصر وتفاصيل حياتها هناك أجابتنا "السبب الأساسي وراء خروجنا أن عبد الناصر
أخد كل ممتلكاتنا وشركة القطن بتاعت أبويا في مينا البصل اضطررنا وقتها نروح فرنسا
لأنهم قبلونا كلاجئين بدون جنسية وكان لازم نرجع جنسيتنا المصرية."
وأكملت "دايما كنت بحلم أرجع أعيش تاني في إسكندرية لكن للأسف ما
كنش ينفع الوضع كان مختلفًا حتى أصدقاءنا المصريين من وقت ما خرجنا التواصل ما بينا
إنقطع خوفا منهم من الدخول مع الحكومة المصرية في أي صراعات أو مشاكل.
سألناها ما إذا واجهتها صعوبات في فرنسا باعتبارها يهودية مصرية قالت
"الصعوبات اللي قابلناها في بلدنا الجديدة إن الفرنساويين كانوا باردين ومش ودودين
زي أصدقائنا المصريين"، وأنا حاليًا أعيش في تل أبيب بعد 50 سنة في فرنسا، والحياة
جميلة زي إسكندرية عندنا نفس البحر ونفس الأكل ونفس العقليات.
سألتها عما يقال عنهم إنهم خونة قالت بتعجب "ما اعتقدش إن الناس شايفينا
خاينين إحنا اتولدنا وعشنا هناك زي أي مصري لولا الظروف ماكناش خرجنا".
وأخيرا ختمت حديثها القصير معنا موجهة شكرها لعبد الناصر قائلة "
شكرا لعبد الناصر لأنه كان السبب في خروجنا وتواجدنا الآن في بلد متحضر جدا
".
ولكن كان لـ"أيدجر بربى" وجهة
نظر قد لا تختلف كثيرا عن سابقتها ولكنها كانت مهمة جدا، حيث إنه من اليهود المصريين
الذين هاجروا إلى أمريكا ولم يذهبوا لإسرائيل غير أن له دورا فعالا في بلده الجديد.
في الدباية عرضت عليه كل أسئلتي وبدأ هو يجيب كما يريد، بدأ إيدجر بتأكيده على أن السؤال الأهم في تلك القضية هو "مدى التعصب الإعلامي المصري في التعامل مع القضية " ويقول أن الإجابة على هذا السؤال هي المربط الفرس في تلك القصة التي مازال هناك الكثير من الأمور غير المعلنة تدور حولها.
ويشرح وجهة نظره قائلا "الفكرة الأكثر انتشارا وايمانا في مصر أن الدول التي فر اليها كل اليهود هي إسرائيل وانهم ذهبوا اليها بسعادة وانضموا فورا للجيش الإسرائيلي تاركين البلد التي ولدوا فيها مثبتين أنهم قد تدربوا على أن يكونوا جيشا سريا زرع في مصر منذ فترة طويلة، معدين ليكونوا كولوم الخماس (colum) وبناء على أن طردهم من مصر كان مبررا رغم انهم لم يطردوا انهم سرقوا الملايين عند فرارهم من مصر وإلا كيف حققوا هذا النجاح العظيم في بلدتهم الجديدة لذلك صودرت ممتلكاتهم وأيضا لم يستطيعوا أن يطالبوا نظيرا لهذه الممتلكات هذه الأكاذيب والمنطق الملتوي مثال على خدمة الأطماع الشخصية ونظريات المؤامرة التي انتشرت في مصر عن طرد اليهود أنا أتعرف على قناع التعصب عندما أراه.. ولا يمكنك أن تسأل هذا السؤال الساذج!".
في هذه النقطة سألناه عن حقيقة سفر اليهود خارج مصر ومايتذكره من أحداث
وقتها فأجاب "معظم اليهود المصريين لم يذهبوا إلى إسرائيل، معظمهم ذهب إلى الولايات
المتحدة ومن ذهب منهم إلى أمريكا وإسرائيل كانوا يبحثون عن مكان يستطيعون أن يعيدوا
بناء أنفسهم بدون الخوف من أن يطردوا بسبب أنهم يهود، ذهبنا إلى باريس بحقيبة سفر واحدة
و4 جنيهات مصرية، كنا لاجئين دينين، بقينا معا في غرفة واحدة باردة لمدة عام، وساعدتنا
المنظمات الخيرية اليهودية الأمريكية التي تاسست في 1890 لمساعدة اليهود الهاربين من
أوربا".
ثم يكمل "حصلنا على تأشيرة من الولايات المتحدة وعشنا أول 5 سنوات
فقراء لكن أحرار، جدي من جهة والدي توفى بمفرده بعد مغادرة مصر بـ 3 أسابيع، توفي في
إسرائيل بقلب مكسور وجدي من جهة أمي حاول الانتحار بعد وصولنا الولايات المتحدة بـ
3 أشهر، ثم أصيب بانهيار عصبي وتوفى، على الأرجح بإرادته ويده هذا هو حجم الضغط الذي
تعرضنا له آنذاك.
وعن تعايشهم في بلدهم الجديد قال "نحن الآن محامون، وأطباء ورجال
أعمال وأيضا حاصلين على جائزة نوبل، نحن فخورون بما قدمناه من إسهامات لدولتنا بالتبني
وهذا ما خسرته مصر معظمنا التحق بالكليات، وأعدنا بناء أصولنا وكرامتنا".
ثم قال لي "انت قد سألت ما إذا كنا نريد العوده..! نعود لنحضر اطفالنا
الأمريكيون لارض تصديرها الرئيسي هو الشباب المشرق والشابات ذات العقول المنيرة، الذين
يحتاجون إلى العيش في جزء آخر من العالم لكي يحصلوا على الحرية والفرصة، فمصرنا قد
ذهبت وضاعت واختقت باختفاء جيلي".
انتقل بيننا الحديث إلى قضية لافون الشهيرة وعما فعله بعض اليهود المصريين بعملية تفجيره تورط فيها الموساد وكانت أحد وأهم الأسباب الرئيسية وراء التضييق على اليهود في مصر وخروجهم قال " كل مرة بحاول اساعد في حوارات عن قضية افون لما بتسأل عنها كقضية منطقية عن طرد اليهود من مصر أقصد طردهم بعد مصادرة كل ممتلكاتهم لكن الغريب أن القضية لم يكن في محتواها أي قنابل انفجرت ومفيش حد اتجرح وماقدرش احدد ليه السنيما هي الهدف المفترض.. فالسينما ارتادها اليهود بشكل قوي وعرضت أغلب أفلامها أفلامًا أمريكية ومع ذلك الحوادث دي استخدمت لطرد 70000 يهودي".
وتابع "وعلى الجانب الآخر ولما حصلت أحداث 11/9 المصريون والمسلمون كانوا متورطين وباستخدام المنطق المصري المسلمين كان لازم يطردوا من الولايات المتحده وأوروبا لكن كان الاختلاف في أني دافعت عن أصدقائي المسلمين بعد أحداث 11/9 ولو حد من الطوائف اليمينية السياسية حاولوا يطردوهم ما كنتش هفضل ساكت لا بالأقوال ولا بالأفعال، يمكن معظم المصريين فاكرين إن اليهود هم السبب ورا أحداث 11/9 تبعا لنظريات المؤامرة بس في 3 من أصداقائي ماتوا يومها".
ولكن سأله أحد الحاضرين في النقاش هل هناك مبرر يستحق أن يترك الشخص بلده وأرضه؟
أجاب": عندما تخبرك البلد التي ولدت بها انك غريب، عدو اجنبي بدون اصول أو كرامة، انت مجبر أن تعيد بناء حياتك، والآن البلدة التي ولدت فيها تجبرك أن تبتعد عنها كي تعيش ليس امامك أي اختيار، إذا كنت تعتقد اننا قد غادرنا عن طيب خاطر!.. فجدودي الـ 2 قد ماتوا بسبب كسرة القلب والحسرة بإرادتهم بسبب إجبارهم على مغادرة مصر، القليل جدا من اليهود الذين تركوا مصر لم يذرفوا الدموع.. والقليل جدا من اليهود الذين غادروا مصر غادروها عن طيب خاطر، فتأثير كيف كانت مصر وشعبها، عندما نتذكرهم واضح جدا ".
وتابع بلهجة شديدة " إذا كانت نيتك أن تقول انظروا إلى اليهود إنهم يحاربون مصر، اعلمتم اننا كنا على حق!! فأنا سوف أجيبك فيجب أن تعلم أن ثلث اليهود المصريين ذهبوا إلى إسرائيل والباقي ذهب إلى الولايات المتحدة، العديد من اصدقائي الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة حاربوا وماتوا في فيتنام.. هم حاربوا هناك لأن الولايات المتحدة الآن هي دولتهم، الالمان الأمريكيون حاربوا المانيا في الحرب العالمية الثانية لأن الولايات المتحدة كانت وقتها دولتهم، الإيطاليون الأمريكيون حاربوا الإيطالي موسوليني لأن الولايات المتحده كانت دولتهم آنذاك.. واليابانيون الأمريكيون انضموا للجيش الأمريكي وحاربوا لصالحه، فمصر هي التي هاجمتنا بأخذها هوياتنا منا وجعلتنا مشردين بلا هوية واجبرتنا على الرحيل اخذت كل شيء باستثناء 4 جنيهات مصرية والقوانين المصرية المضادة لليهود فصلت خصيصا لهم، فلا يمكنك تأسيس عمل إلا وكان بالضرورة أن يكون شريكك مسلمًا".
وأخيرا ختم بقصة خروجه من مصر قائلا " انتظرت في باريس بعد مغادرتي لمصر نحو عام للحصول على التأشيرة ثم انتقلت إلى نيويورك في الولايات المتحدة، وكما قلت الولايات المتحدة.. حيث إن معظم أعمامي وعماتي وأبنائهم غادروا.. الجميع ترك مصر في العام 1961.. وفي الواقع ذهب 5 فقط من أقاربي إلى إسرائيل من أصل 45 منهم من ذهب إلى سويسرا وآخرين بقوا في فرنسا و6 ذهبوا إلى إنجلترا.
وفى النهاية ختم قائلا "أنا عارف إن في جزء من الأجيال الأصغر في مصر حسوا بأن في ظلم اتمارس مع يهود مصر.. أنا مرحب جدا ومقدر لطفهم وتأييدهم رغم أنه بعد 60 سنة.. قريبا وكفضول على التاريخ، في يوم في المستقبل، في إحدى شوارع مصر، سيقول أحدهم إنه كان هناك شعب يهودي في مصر في أحد الأيام، يهود اعتبروا مصر منزلهم، في وقت كانت فيه الرحمة عادة، هذا الشخص يدعى "إنسان".
على هذا النحو حدثنا أيضا الكاتب اليهودى إبراهام فار والذي
قام حديثا بنشر كتاب تحت عنوان "17 شارع الشيخ حمزة" حاول من خلالها تجسيد
تاريخ عائلته اليهودية التي طردت من مصر وظلت عاشقة لها حتى النهاية، سافر إبراهام
مع أهله إلى إسرائيل، يقول إبراهام إنه ولد في القاهرة ويعمل الآن في إسرائيل روائيا
كاتبا ورئيس شركة dci وهى شركة متخصصة في البرمجيات وأجهزة الكمبيوتر للكليات والجامعات، متزوج
ويعيش في إسرائيل درس الفنون المسرحية والأدب الإنجليزي في تل أبيب.
تحدث معنا على وطنه الذي كان يرى فيه دائما الوطن الأول له حين كان طفلا
صغيرا فهو من الجيل الرابع من اليهود المصريين، ورغم ذكرياته التي وصفها بالمريرة وقت
خروجه مع عائلته من مصر لكن ما زال يتذكر العديد من ذكرياته الجميلة فوالده كان يعمل
موظفا في شركة شل، ووالدته كانت مدرسة وكان من عائلة متوسطة.
عن قصة خروجه يقول " أنه وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية بأيام
اعتقل والده في معسكر بالصحراء لمدة 18 شهرًا وحين وصلت الحرب إلى مدينة العلمين وقتها
نداءات القومية العربية بدأت تتعالى وبدا الكل يعادى اليهود وحين تم اعتقال والده كان
الملجأ الوحيد للخروج من هذا الاعتقال هو الموافقة على السفر خارج البلاد نهائيا دون
عودة وهو ما اضطرت عائلته للموافقة عليه ويشرح أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي أعلنت
استعدادها لتوفير المأوى لهم دون قيد أو شروط.
كما عاتب الكاتب على من يكتبون التاريخ وقال "يجب على كل من يسطر
تاريخ أمة أن يبتعد تماما عن أي تدخل للضغوط السياسية وأن يكتب بصدق لأن هذا ما سيحاسب
عليه الزمن فيما بعد، كما أشار إلى إعجابه الشديد بالكاتب الكبير نجيب محفوظ وأنه يسعى
دائما لترجمة رواياته.
وعن علاقة مصر بإسرائيل أكد أن على الدولتين أن تتعاملا بحسن الجوار فكلاهما
تعاني من العمليات الإرهابية وعدوهما واحد "إيران".