"أظن أن الخوف ليس لأنه يهودى ولكن الخوف كما نعرف دائما أن أي معلومات سرية تأتى إلى قائد يكون من الصعب تحديد ما إذا كانت حقيقة أو خدعة جديدة من جبهة العدو"، بتلك الكلمات كان رد ألان جريش على سؤال: "لماذا لم يصدق عبد الناصر خطة العدوان الثلاثى الذي كشفها له كورييل؟، ليبقى السؤال الذي بدأنا به الجزء الثاني: "إذا لماذا رفض في رأيك عبد الناصر تكريمه بعد التأكد من حقيقة ما كشفه كورييل"، أجاب: "في الحقيقة لا أملك أي جواب"، هنا قاطعته قائلا: "لا تملك أي جواب ولكن من المؤكد أنك تملك استنتاج لما حدث حينها"، أكمل مبتسما: "أظن أن التكريم واستعادة الجنسية كان من الصعب أن يحدث لأن أحد الأسباب وبصراحه أنه يهودى، فالاتصالات بين هنرى والمقربين حول عبد الناصر ضاعت بعد رحيل الأخير ولم نستطع معرفة تفاصيل الحقيقة الكاملة وراء ذلك ولكن في رأيي يهوديته كانت سببا في عدم عودته لمصر".
هنا سألته: "وماذا إذا عن التاريخ وكورييل هل أنصفه من وجهة نظرك؟!، أجاب: "بالتأكيد التاريخ لم ينصف كورييل في مصر وليس وحده، فحتى الشيوعيون المصريون لم يعد حقهم حتى الآن، فالحركة الديمقراطية التي كان يقودها هنرى كانت الأقوى، خصوصا ما بين 1946 و1947 وقت حدوث النكبة، وعلى ما أظن أن كورييل فهم ما لم يفهمه معظم الشيوعيين أن القضية الوطنية هي القضية الأساسية في مصر حتى مع الاستعمار الأوروبي، فلا يمكن أن تبنى تاريخ مصر إلا بعد جلاء كل الاستعمار بأنواعه، وذلك كان سببًا في تسمية الحركة الخاصة بـ"الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى"، ولكن لما سافر كورييل إلى فرنسا اتخذ الحزب الشيوعى الفرنسي قرارا ضد أحد القادة لأن له علاقة مع كورييل وكان الحزب الشيوعى الفرنسي من أكبر الأحزاب الشيوعية في هذا الوقت، وعلى إثره اتخذ الحزب الشيوعى المصرى قرارا بفصل كورييل، ولكن الحزب الشيوعى الفرنسي قام بعمل شيء أشبه بالنقد الذاتى لما حدث بالقرن الماضى، وخصوصا بعد قتل كورييل، وذلك كان مهم جدا لكورييل، ولكن أظن أن الأهم أن يعترف الشيوعيون المصريون بالدور الذي لعبه هنرى كورييل".
حينها قلت له: "هل بعد كل ما حدث لكورييل كان يكن الحنين لمصر أم تحول بكامل طاقته إلى عداوة لبلد لم تحترمه حتى بعد موته؟، أجاب مؤكدا: "حنينه لمصر كان كاملا وحتى 1957 كان هدفه الوحيد أن يعود لمصر، ولكن كان مستحيلا أن يحدث ذلك، وفى هذا الوقت بدأ يفهم أنه لن يعود فدخل في تأييد الجبهة الجزائرية، وسجن في عام 1961 وخرج مع اتفاقية استقلال الجزائر وقامت الأخيرة بالاعتراف بدوره ودور كل من قاوم من أجلها على عكس ما حدث ومازال يحدث في مصر الآن".
هنا توقفنا ونقلتنا الذاكرة إلى شحاته هارون، وسألته عن علاقتهما سويا، وموقف هارون في البقاء في مصر، قال: "أولا أظن أن موقفه كان شجاعا جدا في قراره للبقاء ذاك الموقف الذي لم يستطع الكثير أن يتخذه واستسلموا لما حدث لهم".
وتابع: "دعنى أقول لك أن اليهود دائما ما تكون علاقتهم أقوى بالوطن، أما بالدين فعلاقتهم خفيفة، فهم دائما ما يشعرون بأنهم نسيج من الوطن، فانا مثلا امى يهودية وأبويا هنرى كورييل وانا معنديش أي علاقة مع الدين، لا يمكن أن أقول أنه لا علاقة لى باليهود، ليس لأسباب مبدأية وليس خوفا من اضطهاد اليهود، فأنا حتى آخر لحظة يضطهد فيها اليهود سأقول أنا يهودى وبعد ذلك سأقول أنا لا علاقة لى باليهودية، ومثلما كان يقول شحاته هارون دائما "لكل إنسان أكثر من هوية وأنا إنسان.. فأنا مصرى حين يضطهد المصريين.. أسود حين يضطهد السود.. يهودى حين يضطهد اليهود.. فلسطينى حين يضطهد الفلسطينيون"، وده كان من الفكر الشيوعى وأحد الأفكار اليهوديه، فاليهود مكنوش شعب أو أمه، فكان من السهل أن يتنقلوا من مكان لآخر، وفى الماضى لم يكن هناك أي فرق بين اليهودى والمسيحي والمسلم، فجميعهم بشر".
أخبرته عما قاله لى خبراء التعليم: "انت عاوزنا ندرس حقيقة اليهود المصريين للطلبة"، وهو ما ذكرته تفصيلا في الحلقات القادمة، وعن رأيه في هذا الأمر قال: "مهم جدا أن يدرس الأطفال تاريخ بلدهم الحقيقي، فالمصرية ليست فقط المسلمين ولكن هي الآن مزيج بين المسلمين والمسيحين، وفى القديم كان معهم اليهود الذي ما زال هناك بعض منهم، وكان جميعهم جزءا من بناء الدولة الوطنية المصرية، ولا يوجد أي مانع أن ندرس مثلا تاريخ هنرى كورييل وننقد ما فيه من خطأ مثل تأيده لتقسيم فلسطين، ولكن لا نمحية نهائيا من التاريخ".
وتابع معاتبا الإعلام: "اظن أنه قبل أن ينفذ هذا الكلام في التربية يجب أن ينفذ في الإعلام، مع العلم أننى لا أعنى أن يقول كل الناس أن كورييل بطل، فأنا موقفى من هنرى من الممكن أن يختلف مع غيري، ولكن أعنى أن يتحدث الإعلام بالحقيقة ودور الحركة الشيوعية في هذا الوقت، وأظن أن ما حدث في 2011 من ثورة الشعب جعلت العديد من الشباب يبدأ البحث في تاريخ ما قبل 1952 وهو تاريخ مهم في حياة المصريين".
واستطرد: "الهوية شئ صعب في العالم العربى، فيجب أن نعترف أن الإنسان لا يحمل هوية واحده، فمثلا في فرنسا نعلم أن هناك اضطهاد ضد المسلمين، ولكن في نفس الوقت ممكن أن تكون "فرنسي.. مسلم.. ولك علاقة خاصة مثلا مع مارسيل وهى مدينة في الجنوب"، فالشخص هنا يمثل ثلاثة هويات لا تتضارب مع بعضها، أتذكر أننى يوما ذهبت لعمل حوار مع شباب تتراوح أعمارهم ما بين الـ14 والـ15 عام في حى صعب العيش به في فرنسا، هم يعترفون أنهم مسلمين ويرفضون هويتهم الفرنسيه، لما وجدوه من اضطهاد فرنسي للإسلام فقلت لهم "انتو ممكن تكونوا مسلمين وفرنسيين"، فلا يوجد هوية واحده ضد كل الهويات الأخرى، كما اننا نعلم تماما أن هناك تيارات إسلامية تقول أن كل من هو غير مسلم ليس فقط خارج بناء المجتمع، ولكن تكفر الكثير من المسلمين أنفسهم، وتعتبر أنه لا علاقة لهم بنسيج الوطن.
وعن تعامل الإعلام مع القضية اليهودية وقت النكسة، قال: "الحقيقة أنا مش عارف أنا شخصيا محستش اضطهاد ضد اليهود في 1956 لأنى كنت طفل ولكن في 1967 كان هناك أشياء كثيرة في الإعلام سلبية جدا، فكانوا دائما يستخدمون عبارات ضد اليهود مثل "سنذبح اليهود.. سنقضى عليهم"، ولم يفرقوا تماما بين اليهود وإسرائيل، وأتذكر قبل الحرب كانت إذاعت صوت العرب تكرر كثيرا قصة ذبح اليهود وهو مايخالف الإنسانية، فحتى الحرب لا أراه مبررا لما حدث، ونحن نعرف تماما أن عبدالناصر لم يكن يعلم شيئا مما يحدث على الأرض، وكان عبد الحكيم عامر ينقل له عكس ما يحدث.
ذكرت في البداية تلك السيدة التي أرادت الاعتذار لليهود المصريين، كيف برأيك أن يقدم هذا الاعتذار وهل سينقص شيء من الدولة، قال صراحة: "يجب إحترام مصر لدور اليهود في التاريخ وأنا متفائل أن الربيع العربى فتح باب حوار جديد من ناحية تقوية التطرف، والذي بدأ الضغط على المجتمعات لتعيد التفكير في تعديل فكر الهوية، وأظن أن اعتذار مصر لمن طردوا شيئا لا يقلل من مكانتها، ولكن ليس اعتذارا ماديا بل اعتذار عن طريق تصحيح التاريخ والاعتراف بما قاموا به، وليس فقط لليهود بل لكل ما قبل 1952، فالتاريخ ليس إسلاميا فقط، والهوية الأساسية مصرية تجمع بين المسلمين والمسيحيين، كما أظن إن الشباب هيقدر يغير وده مسئوليتنا كلنا ومسئوليتكم انتم كشباب، أنا أظن أن هناك أشياء إيجابية تحدث هذه الأيام في مصر بالنسبة للقضية اليهودية، مثل الأفلام التي تحاول أن تتحدث عنهم وكل تلك الأقلام التي تكتب وتنقل الصورة بصدق".
في النهاية ختمنا الحوار بقصة خروجه من مصر، وكان واضحا ذاك الأسي والحزن الذي كان يظهر على عينه وهو يحكى ما حدث له، قال: "اتولدت في شارع سليمان باشا وطبعا كل ما آجى هنا بنزل في وسط البلد ومش بقدر أعيش في مكان تانى، يوم خروجى من مصر كان صعبا، وقتها في حركة التأميمات حصل تأميم لشركة والدى وكان هو في الخارج وقال إحنا مش هانرجع تانى".
وأكمل: "أمى استطاعت الحصول على فيزا للخروج وقبل السفر بيومين استدعوها في المصلحة الرسمية وسحبوا منها الفيزا الخاصة بها ونسوا أن يأخذو فيزتى أنا وأخى فأخذتنا أمى وسفرتنا، وبعدها بيوم سألوها عننا فأخبرتهم أننا سافرنا وبقيت هي ممنوعة من السفر من شهر فبراير إلى ديسمبر، وكان صعب جدا علينا جميعا، ورفعت قضية ضد الدولة وسافرت بعدها، كنت أنا في عمر الـ14 عاما وأخى في عامه الـ17 وكانت فرنسا هي البلد التي سافرنا وعشنا بها".