أثار ظهور فيلم "حسن ومرقص" منذ عدة سنوات تساؤلات عديدة حول كوهين تلك الشخصية الثالثة التي كانت متواجده بالمجتمع وتم تجسيدها من خلال فيلم "حسن ومرقص وكوهين" في 1954، وكان أهم وأبرز الأسئلة التي تم إثارتها في ذاك الوقت عن أوجه التشابه بين الفيلمين، ولعل أبرز ما بدأ يدور في الشارع المصرى حينها كان حول اسم الفيلم وعلاقته باندثار اليهود من مصر واعتبارهم جزءا من خارج النسيج المصري!
ولو كانت الإجابة بلا، فإذن لماذا تم اختيار هذا الاسم بالتحديد؟ لكشف هذا السر كان لنا حديث مع المخرج الشاب أمير رمسيس أحد تلاميذ الراحل يوسف شاهين وصاحب فيلم "عن يهود مصر".
أمير مخرج فيلم "عن يهود مصر" الذي تحدث فيه خلال جزأين عن حقيقة خروج اليهود، واستطاع خلال فيلمه التواصل مع من سافر منهم وما زالوا على قيد الحياه ليؤرخ حكاياهم المختلفة، ولكن قبل الانتقال إلى ما قاله أمير عن تلك القضية، يجب أن نتذكر تاريخ اليهود في السينما المصرية، ومراحل تطورها بالنسبة للقضية اليهودية، ولعل أبرز الأسماء التي دائما ما تطرح في المناقشات حول السينما واليهود هي الفنانة ليلى مراد، وهى من عائلة "موردخاى" والتي تعد أكبر عائلة فنية مصرية يهودية، فمنها ليلى مراد، ومنير مراد، والأب زكى مراد، ولن ننسى سميحة وملكة مراد، ولكن لم تكن تلك العائلة هي الوحيدة ضمن العائلات اليهودية، فكان هناك العديد من الممثلات اليهوديات أمثال نجوى سالم، والتي أسلمت فيما بعد، ولم يكن لها أي انتماءات صهيونية، وكانت تدعم الجيش المصرى دائما في الحرب، وعقب نكسة 67 كما لا يخفى علينا نجمة إبراهيم صاحبة الدور الشهير "ريا وسكينة" والتي دعمت الجيش المصري ماديا لتسليحه ضد إسرائيل، وأسلمت هي الأخرى.
وكما وجدت ممثلات يهوديات
كانوا مخلصين للوطن كان هناك أيضا من خانوا مصر أمثال رقية إبراهيم، والتي اشتركت في
قتل عالمة الذرة المصرية سميرة موسى، وهناك بعض اللغط حول الفنانة كامليا، وعلاقتها بإسرائيل.
وحين نتحدث عن بداية صناعة السينما في مصر دائما ما يذكر اسم ليس متداولا بين أبناء الجيل الحالى، ولكنه كان من أهم صناع السينما المصرية، وهو "توجو مزراحى" صاحب أحد أهم استديوهات، كان ذلك عام 1928، كما أنه في عام 1897 تم افتتاح شركة الطيارات، والتي كانت من أوائل شركات الإنتاج في مصر، وكان المساهمون فيها 12 شخصا منهم 7 يهود، في النهاية بين من خانوا ومن وقفوا بجانب مصر القضية لا يمكن أن تختصر في ديانة، بل من الممكن أن تكون في أشخاص، فكما وجد الخائن وجد الطيب وكلاهما من نفس الديانة.
على هذا النحو بدأنا الحديث مع المخرج الشاب أمير رمسيس، وعن سبب اتجاهه في البحث في هذه القضية الشائكة، حيث أكد أن عائلته كانت لها الفضل الأول في تربيته على أن الجميع مصريون، ولا مكان للعنصرية، وكمن السبب الرئيسي في عمل هذا الفيلم هو ما تعرض له أثناء تصويرة فيلهم "إسكندرية نيويورك" مع المخرج الراحل يوسف شاهين، حيث قال "كان هناك مشهد في الفيلم أن يقوم أحد الأبطال بوضع ورده على قبر اليهود في الإسكندرية، وبسبب هذا المشهد هاج كثيرون ونصحوا شاهين بأن يحذفه من الفيلم نهائيا، وظلت المضايقات والنصائح نحو أسبوع كامل، ولكن شاهين في النهاية رفض وأصر على أن يبقى المشهد ولكن للأسف في النهاية كانت مدة الفيلم أكبر من اللازم وكان من المفترض أن نقوم بحذف بعض المشاهد التي لن تؤثر على السياق العام للفيلم، وكان هذا المشهد من ضمن من وقع عليهم الاختيار بحذفهم".
وتابع "ما حدث أثناء الفيلم جعلنى أبدأ في التفكير حول طبيعة اليهود، ففى البداية قرأت الكثير
عن هنرى كوريال، ومن شدة إعجابى بشخصيته بدأت أبحث عن كل ما يتحدث عنه، وقررت أن أقوم
بعمل فيلم عن حياته، ولكن في النهاية استقريت على أن أبدأ بتصوير فيلم كامل عن واقعة
خروج اليهود من مصر وحقيقة ما تعرضوا له من اضطهاد وبدأت أقرا الكثير عنهم وأتعرف على
شحاتة هارون ويوسف درويش وغيرهم الكثير من الأبطال اليهود الذين تم نسيانهم ".
وعن التغيير الجذرى الذي حدث في السينما المصرية وتصوير اليهود على أنهم بخلاء وذو شكل وطابع خاص أجاب "بالطبع حين قررت الدولة إقصاء اليهود من مصر كان للسينما المصرية دور مثلها مثل جميع المؤسسات ففيلم "حسن ومرقص وكوهين" لم يكن له أي علاقه بتمثيل الوحدة الوطنية فالثلاثة جاءوا في صورة نصابين، ولكن كان انعكاسا واضحا لحياة المصرين أن ذاك مثل مثل فيلم "فاطمة وماريكا وراشيل" ولكن بعد قضية الخروج بدأت السينما المصرية في تصوير اليهود بأن لهم شكل غريب ومثير للضحك، كما تعمد الكثير بتصويرهم بخلاء من خلال شخصية كوهين، وبدأت مسلسلات الجواسيس تتكاثر لتبث في الأذهان فكرة اليهودى الجاسوس "
وعن فيلم حسن ومرقص قال: لا أجزم أن القضية مقصودة ولكن ما حدث من إقصاء كوهين من القصة سيتكرر بنفس السيناريو مع مرقص ويوما ما سنعرض في السينمات فيلم "حسن السلفى" فما حدث بالأمس لم نتعلم منه اليوم.
وعلى هذا النحو سألناه عن كواليس فيلمه وما رأه في عيون أبطاله أثناء التصوير أجاب "من الطبيعي أن يكون هناك حنين لديهم لبلدهم التي تربو فيها، ولكن الحديث عن مسألة العودة لمصر مرة أخرى حديث لا جدوى له، فليس منهم من بات يستطيع العودة مرة أخرى لمصر والحياه فيها، حيث أصبحت أعمارهم جميعا كبيرة في السن ومن خرج من مصر في سن صغير وما زال يتمتع بصحة جيدة الآن من الصعب أيضا أن يترك حياته التي تعود عليها وبدأها ليأتى هنا إلى مصير غير معروف، لم أشعر منهم بعدم الوطنية ولكن شعرت بالندم على ما حدث لهم".
"ولما كنا بنقابل بنت حلوة مكناش بنسألها انتى بتصلى إزاى" بتلك الجملة كانت إجابته حين سألناه عن رأى الراحل يوسف شاهين عن القضية حينما كانت تثار حوله وخصوصا ما ذكره من المشاكل التي حدثت أثناء تصوير فيلم إسكندرية نيويورك ".
وعن تعنت الرقابه مع أجاب "أكد أن حصوله على الموافقة أتت بعد الكثير من عمليات الشد والجذب والنقاش التي استمرت لفترة ليست بقصيرة".
وفى النهاية وبعد رحلة طويلة استطاع أمير من خلال فيلمه أن يؤكد بصورة غير مباشرة أن معظم اليهود الذين خرجوا من مصر لم يذهبوا إلى إسرائيل ولكن ذهبوا إلى أوروبا حيث قابلهم وقام بالتصوير معهم.
أنهينا حديثنا
وسألته عن ما إذا كانت باستطاعتى أن أرى الفيلم كاملا، فأخبرنى أنه سيعرض خلال يومين
في افتتاح قاعة ثروت عكاشه في مدينة السينما بالهرم، وهنا كان لقائي مع ماجدة هارون
رئيسة الطائفة اليهودية في مصر، ولعلها كانت من مفارقات القدر اللطيفة أن نتقابل سويا
في افتتاح قاعة ثروت عكاشه الذي كان مساندا في مذكراته لليهود المصرين، ولم يغفل دور
هنرى كورييل كما ذكرت من قبل.
في البداية تحدثت
معها بشأن المعبد الذي تم تحويله إلى حضانة ومكتب للشئون الإدارية، والذي كنت تحدثت
عنه بالتفصيل في الحلقة الأولى ومن ثم بدأ عرض الفيلم بجزئية، والذي ظهرت فيه ماجدة
في الجزء الثانى تتحدث عن وضعهم في مصر، وكيف صارت حياتهم من بعد ما كانت مليئة بالنغم
أصبحت صامته، وعلى حد قولها أصبح اليهود المتبقون في مصر والذي لا يتعدى عددهم التسعة
أشخاص يدفنون بعضهم بعضا، ولعل ما آثار حفيظة المتواجدين هو مشهد من ضمن المشاهد الأخيرة
في الفيلم الذي تحدث عن كل ما يخص اليهود كانت تقف فيه ماجده هارون وسط مقابر يخيل
لك في الوهلة الأولى أنها "مقلب زبالة" لتكتشف في النهاية أنها مقابر اليهود
بالبساتين والتي لا يعرفها الكثير من اليهود في مصر، وقفت بجانب أختها الراحلة نادية
هارون على قبر والدهما شحاتة هارون وبدأت تبكى.
" شحاتة هارون " ذاك الاسم الذي لا يعرفه الكثير
هو مصرى يسارى يهودى ولد في يناير 1920 تتلمذ في كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول، ومن
خلالها توطدت علاقته باليسار، وبها توثقت علاقته باليسار المصري كان أحد وأهم مؤسسي
"الرابطة الإسرائيلية للكفاح ضد الصهيونية" في أبريل 1947 جاء ذلك في محاولة
لتأكيد مصرية يهود مصر ورفضهم للكيان الإسرائيلي.
لعل أبرز ما ذكر
عن هارون هو موت ابنته الكبرى منى حيث أصيبت في الخمسينيات بمرض اللوكميا، وكان علاجها
يتطلب السفر للخارج ولكن حين تقدم لطلب تأشيرة سفر قابلته الجهات المعنية بأنه إذا
قرر السفر فستكون التأشيرة بلا عودة ليكمن هنا القرار الصعب، والذي حسمه هارون بشخصيته
العنيدة، وقرر أن يظل داخل البلاد وماتت ابنته لتكون قربانا قدمه لبلاده ليظل باقيا
فيها.
كانت مكافأة هارون على تلك التضحية مكافأه عظيمة، حيث تعرض مكتبه لفرض الحراسة من الدولة عام 1956 ولم تكن تلك النهاية بل كانت للدولة مكافأة عددية له حيث تم اعتقاله عدة مرات بين عامي 1967 و1975 وذلك كان بسبب الشك في ولائه للبلاد لأنه " يهودى".
كما تعرض هارون للعديد من المضايقات سواء خارج أو داخل السجن وما ذكره في كتابه "يهودى في القاهرة" بداية من أحداث 48 مرورا بالخمسينيات إلى أن تفاقمت المشكلة عقب النكسة، والذي قال في مقدمته "أنه يولد المرء مصريا يهوديا فهذا قدره، وأن يعيش منذ مقتبل عمره في ظروف الصراع العربي- الإسرائيلي فقد يدعو هذا القدر وهذه الظروف إلى أن يغلب أحد مكونيه على الآخر أو يقبل العيش بهما معا، بينما لو أضاف إلى قدره الموروث والظروف المفروضة، نظرة واعية بالقوانين الموضوعية التي تحكم المجتمع البشري، فإنه يدرك عندئذ أنه إنسان".
ورغم كل ما لاقاه من تعذيب رفض هارون الخروج من مصر بل طلب عقب نكسة 67 أن يتطوع في الجيش المصرى محاربا، وأرسل إلى النقيب أحمد خواجه قائلا "عزيزي أحمد، تحية كفاح أبعثها إليك مع استمارة التطوع.. تاركًا لك اختيار المكان الذي أستطيع فيه أن أؤدي حقي وواجبي في المعركة، إذ أعتبر مجلس النقابة قيادة لي" ولكن كانت مفاجأة الدولة الثالثة له بالرفض خوفا من يهوديته وتم سجنه أن ذاك.
كان ما يلقاه شحاتة هارون من تعذيب كان يزيد من إصراره على البقاء داخل البلاد، فهو معروف دائما بيساريته ونضاله وعدم خضوعه للواقع، كما أنه كان يردد دائما "لن أترك مصر حتى لو قطعوا رقبتي، إنها وطني وحقي وواجبي، وأنا رجل محام لا يفرط في حقه ولا يتهرب من واجبه، ثم إنني لم أشعر في أي وقت من الأوقات بأن شعبها قد لفظني، وعندما قبض على وجدت عشرات من المواطنين معي في السجن، ووجدتهم من مختلف الأديان والمعتقدات، ولم أشعر بأنني عوملت معاملة تختلف عنهم".
وكما كان هارون مصريا في حياته كان أيضا مصريا في موته، حيث رفضت ماجدة هارون أن تأتى بحاخام إسرائيلي للصلاة على جثمانه تكريما لرحلته قائلة إنه لا يمكن بعد كل هذا النضال أن يصلى عليه شخص من إسرائيل، هكذا بدأنا الحديث داخل قاعة ثروت عكاشة عقب الانتهاء من عرض الفيلم تحدثت ماجدة عن أمور عديدة تخص النظرة الاجتماعية لها حين يقرأ أي شخص في بطاقتها الشخصية أنها يهودية ظنا منهم أن اليهودى ليس يشبهنا ولكن له شكل وطابع خاص به ودائما منحنى وبخيل.
أكدت ماجدة أكثر من مرة على أنها ترغب في تسليم الحكومة المصرية ما لديها من تراث يخص مصر بأكمله، فهو قبل أن يكون تراثا يهوديا هو تراث مصري، فهى تمتلك الكثير من الآثار اليهودية، كما أن لديها السجلات التي تخص حياة اليهود ومواليدهم منذ عهد سيدنا موسي عليه السلام، كما طالبت الحكومة أكثر من مرة بعمل متحف للآثار اليهودية، كما هو الوضع بالنسبة للمتحف الإسلامي والقبطى ولكن الدولة رفضت قائلة "مش وقته".
تحدثت أيضا عن وصية والدها بعدم استقدام أي حاخام إسرائيلي للصلاة عليه وكشفت عن ما يحدث لها دائما أثناء تواجدها بالمصالح الحكومية لاستخراج أي أوراق رسمية خصوصا وأن بطاقتها مكتوب بها " يهودية".
ولفتت نظر الحاضرين عن ما حدث لوالدها من اعتقالات كما ذكرناها وأنه في عام 1967 عقب النكسة تم القبض على معظم الذكور اليهود وظل والدها في السجن مدة 3 شهور.
تمنت أن يتم افتتاح
مكتبه ثقافية داخل أحد المعابد اليهودية أو أن يتم عمل جلسة ذكرية إسلامية مسيحية يهودية
داخل المعبد وأن تشهدها قبل موتها.
تحدثت أيضا عن ما يحدث لمقابر اليهود في البساتين
من عمليات نهب وسرقة للرخام المتواجد بها، كما أنه وبكل أسف أصبحت تلك المقابر مراحيض
لسكان المنطقه ومرتع للأغنام، وكان الدين لم ينه عن ذلك حفاظا على حرمة الميت أيا كان
دينه.
لم يكن حديث ماجدة
هارون مختلفا كثيرا عما تحدثت عنه في الصحف العديد من المرات، ولكن أثناء بحثى وفى
إحدى اللقاءات الخاصه بها وجدتها تحكى أحد القصص المؤلمة التي عاصرتها قائلة "بنتى فمرة قالتلى أنا مابحبكيش علشان انتى عاهرة يهودية ماحسيتش بنفسي غير إنى
ضربتها وبعدها عرفت إن في المدرسة الأطفال بيقولوا ماتلعبوش معاها دى أمها عاهرة يهودية" كانت بنتها في ذلك الوقت طفلة صغيرة، وللعلم أن لماجدة هارون أطفال مسلمين ومسيحيين
فقد تزوجت مرة بمسلم ومرة بمسيحي، وعن سبب ذلك أكدت أكثر من مرة أنها رفضت الزواج من
يهودى حتى لا يعانى أولادها مما عانت هي منه، وأن يكون لهم عائلة يفتخرون بها.
كان رد فعل ابنة ماجدة هارون يحتاج منا للتوقف قليلا من الوقت والتواصل مع خبراء التعليم عن الذي يمنع أن يدرس هؤلاء الأطفال الفارق الكبير بين اليهودى والمصرى، وهو ما سيجيب عليه سالم الرفاعى الخبير في مناهج التعليم في الحلقة القادمة، والتي سنكشف فيها غموض منع التصوير في معبد بن عزرا المتواجد في مجمع الأديان، وما المقصود من وراء هذا الطمس، ورد رسمى من دار الإفتاء المصرية على كل التعديات التي تحدث بشأن المقابر اليهودية بالبساتين.
الخروج الثاني (5)