"عمال مصر" لا يمكن أن تتحدث عن تلك الطبقة دون أن تتذكر
أو يذكروك هم بـ"يوسف درويش" أحد أهم محامى العمال والمدافعين عنهم خصوصًا
في فترة الأربعينيات، كان يهوديًا وأسلم أثناء أحداث الخروج وما عاناه اليهود في مصر
من تفجيرات وتهديدات خصوصًا عقب نكسة 67 كما ذكرنا في حلقاتنا السابقة ولكن على حد قول
أقاربه ومن حوله إن إسلامه لم يكن بسبب الاضطهاد ولكن كان لحبه ورغبته فى التقرب من
الشعب المصرى أكثر.
"يوسف درويش" ليس من المهم أن نتحدث عن مكان وسنة ميلاده ولا دراسته ولكن الأهم أن نذكر موقفه
العدائي ضد الصهيونية رغم كونه يهوديًا وما كافأته به الدولة آن ذاك، اشتهر يوسف درويش
بمعاداته للكيان الصهيونى معتبرًا إسرائيل دولة مغتصبة للحقوق والأراضي، وهو ما قاله
أمام لجنة تقصى الحقائق التابعة للأمم المتحدة، والتي أقيمت في مصر عام 1947 وأكد أمام
اللجنة أن إسرائيل دولة عنصرية سرقت أرض شعب، كما أضاف من قبل أنه فى نفس الوقت كان
يوزع منشورات ضد الصهيونية في شارع عماد الدين أمام جروبى.
اشتهر درويش
بتنظيمه مؤسسات تاريخية لتنظيمات العمال والفلاحين، والذي كان لها صدى واسع في واحدة
من أشهر القصص التي عاشها درويش حين قامت الحكومة المصرية بغلق مكتبه الخاص بالرغم
من أنه كان قد أسلم في ذلك الوقت، ولكن لأن عائلته مازالت يهودية وظنًا من أنه مسلم
على الورق حينها قام العمال "مسلمون ومسيحيون" أو بالمعنى الأدق "مصريون" بجمع
100 ألف توقيع لإعادة فتح مكتبه الذي كانت أبوابه دائمًا مفتوحة لهم دون أى تفريق وبالفعل
نجحوا في إعادة فتحه من جديد.
كان يوسف درويش يهتم
كثيرًا بالقضايا السياسية، وكان وفديًا مثل الكثير من المصريين وقتها ومن المواقف التي
تذكرها عائلته دائمًا أنه عندما عاد سعد زغلول من المنفى بمالطة، كان يبلغ وقتها 13
سنة ذهب إلى محطة مصر ليستقبل مع الشعب المصري سعد، وكان يتردد على بيت الأمة دائمًا
ولما توفي سعد زغلول ارتدى اللون الأسود عامًا كاملاً.
كما كوّن مع كل
من حامد سلطان وتوفيق عبدالواحد ومحمد شفيق "الذي صار فيما بعدد موظفًا ببنك
مصر" وبهاء الدين كامل "والد الدكتور حسين كامل بهاء الدين" جمعية
في تولوز عام 1931 تحت اسم "جمعية الطلبة العرب"، والتي كانت تعمل من أجل
الاستقلال ومحاربة الاحتلال، وقد انضمت إليها الغالبية العظمى من الطلبة العرب في تلك
المدينة ومن بينهم جزائريون والذين أصبحوا بعد ذلك من قادة الثورة الجزائرية.
حياة يوسف درويش زاخرة
بالمواقف التي من الصعب أن نذكرها في حلقة أو اثنتين ومواقفه ضد العدوان الصهيونى كانت
واضحة وضوح الشمس دون أي تشكيك وهو من السهل أن تعرفه من خلال البحث عبر الإنترنت عن
هذا الشخص الذى كلما سألوه عن تحوله من اليهودية إلى الإسلام كان يقول "أنا إنسان" ولكن ظل السؤال الأبرز فى عقول كثيرين "ما هو
سبب إسلامه الحقيقي؟!" كان ذلك السؤال في منتصف حديثى مع ابنته الدكتورة
نولة درويش الباحثة والمترجمة والمهتمة بحقوق المرأة وعضو مؤسس في جمعية المرأة الجديدة.
"نولة درويش" لا تختلف كثيرًا عن والدها لذا اختارت أن تخطو على خطواته
في الحياة السياسية برغم ما شاهدته في صغرها من كثرة الاعتقالات التى تمت فى حق والدها
وتعذيبه داخل السجون.. في إحدى العمارات في شارع هارون في الدقى وجدتها تنتظر في الميعاد
المحدد دون أي تأخير، كنت قد أخبرتها مسبقًا أننى أقوم بعمل تحقيق استقصائي عن حقيقة
حياة اليهود وخروجهم من مصر، جلست معها وبدأنا حديثنا بخصوص المعبد الذي تحدثت عنه
في الحلقة الأولى وذكرت أنه تم السطو عليه وتحويله إلى حضانة ومن ثم مكتب للشئون الإدارية..
وسط نظرات الحزن وابتسامة صغيرة قالت "يا ابنى ده تاريخ بلد قبل ما يكون تاريخ دين
أو طائفة.. المفروض إننا نحافظ عليه."
كان
حديثنا غير مرتب فكنا نقتبس معلومة من هنا ومعلومة من هناك، وكأن الذاكرة فتحت أمامنا وأصبحنا نغترف منها
بطريقة عشوائية وممتعة، سألتها عن مصر القديمة التي لم أرها أنا ولا أبناء جيلي نظرت
مشمئزة قائلة: "أنا عندى 66 سنة عمرى ما شفت التعصب بتاع النهارده كل واحد بيتكلم
عن نفسه ومش شايف غير إن هو اللى صح والباقى كله غلط، زمان ماكنش فيه حاجة اسمها يهودى
ومسلم ومسيحي كان كله بيسعى على أكل عيشه وكله مصرى كنا عايشين مع بعض كلنا واحد."
حدثتنى أيضًا عن
ضيقها الشديد لما حدث لابنتها الفنانة بسمة من هجوم
غير مبرر لأنها من أصول يهودية، وقالت "كنت قاعدة وقتها في اجتماع وكان موجود
نقيب الصحفيين مكرم محمد أحمد وقال لى قدمى شكوى للنقابة وفعلًا قدمت والنتيجة كانت اعتذارًا
على موقع النقابة"، قاطعتها مازحًا "وهو موقع النقابة حد بيشوفه طب حضرتك
بقى إيه المضايقات اللى عشتيها وانتِ صغيرة؟.
بعد لحظات من
الصمت واستدعاء الماضى قالت "بص أنا دفعت تمن إن أبويا شيوعى ومسجون، يعنى أفتكر
مرة إن كان عندنا زيارة لوالدى وبسبب الزيارة دى عاقبونى في المدرسة، وبهدلونى لمجرد
إنى زرت والدى الشيوعى المسجون".
وجهت
لها سؤالى الرئيسي في التحقيق عن تعامل الإعلام مع القضية اليهودية في مصر وقت الخروج
هل كان بحيادية؟..
أجابت في كلمات
محدودة "الإعلام أيام عبدالناصر كان حكومى كله"، بعدها ذكرت
لى قصة غلق مكتب والدها وتابعت: "ما بين عامي 1959 و1964 تم القبض عليه وكان
هذا أقسى شيء وتمت محاكمته محاكمة عسكرية وأعلن أنه عضو في الحزب الشيوعى آن ذاك وتم
الحكم عليه بـ10 سنين، وفى عام 1973 أيام حكم السادات تم القبض عليه وسجن 3 أشهر، ومن
ثم سافر إلى الجزائر في نفس السنة إلى عام 1980 وبعدها انتقل إلى تشيكوزلوفيكا إلى
عام 1986 ومن ثم عاد إلى مصر إلى أن رحل عام 2006.
هنا
سألتها عن حقيقة إسلامه فقالت: "على ما أعتقد أن اعتناقه للإسلام لا علاقة له باضطهاد
اليهود ولكنه كان محبًا للعمال والاندماج بينهم ولذلك السبب أسلم."
ثم قالت وهى تضحك
بخجل "كنت في مدرسة الليسيه باب اللوق وكانت المدرسة دى تابعة للبعثة الفرنسية
العلمانية ولم يكن في منهجها مادة الدين لكن بعد عام 1956 وحركة التأميمات الكبرى تم
تأميم المدرسة، وإضافة مادة الدين لها وفي حصة الدين كان يظل المسلمون في الفصل والمسيحيون
يذهبون لفصل آخر واليهود لم يكن لديهم مادة دين فكانوا بينزلوا الحوش يلعبوا.. كنت
صغيرة واخترت إنى ألعب مع اليهود في الحوش وقتها بابا عرف وبهدلنى وضربنى وقالى إنتِ
مسلمة وانا أقوله لا أنا يهودية كنت مصرة على كونى يهودية علشان أفضل في الحوش، بعدها اضطريت حضور حصة الدين".
أكملت ضاحكة:
"كنت طفلة وقتها ومش فاهمة أي حاجة من حصة الدين وسقطت في الامتحان ولما روحت دخلت
الأوضه وأول ما سمعت صوته عملت نفسي نايمة علشان مايزعقليش لما يعرف إنى سقطت في مادة
الدين".
تلك القصة الطريفة
التي حكتها نولة درويش دون أن
أسألها كانت بمثابة الإجابة على أهم سؤالين كان الأول عن مدى اقتناع درويش بإسلامه،
والثانى هل حقًا كما ذكرنا لاحقًا أن مادة الدين لم توضع في المدارس إلا بعد خروج اليهود
كافة من مصر كان هذا السؤال الشائك الذي كذبته ماجدة هارون،
والذي يؤكد أن الدولة كانت بالفعل لديها خطة محكمة للإقصاء.
تطرق
بيننا الحديث عن اليهود في مصر وحياتهم، وما يثار دائمًا أنهم من أغنياء البلد قالت: "مش صحيح
أنا جدى أبو أبويا كان صايغ وبيشتغل بإيده وكان بيتكلم عربى بس وكمان كان مش متعلم،
أنا أسمع عن إن كان فيه باعة متجولين ولما كانوا بيحبوا يصلوا وهما متواجدين في قرية
مافيهاش معبد كانوا بيدخلوا يصلوا في الجامع، ويهود مصر بالذات كانوا بيصوموا اثنين
وخميس".
ثم قاطعت الحديث
قائلة: "مرة كنا في وقفة احتجاجية عند مجلس الدولة تقريبًا في 2008 وفجأة لقيت
واحد بيسلم علىّ وبيقولى "أنا جاى أحيكي باسم عمال المحلة لإنك بنت يوسف درويش"
وقتها قعدت أعيط إن لسه الناس فاكرة والدى وإنه أثر فيهم ووقف جنبهم لدرجة إنهم لغاية
النهارده عارفينه ومش ناسيينه، كان مناضل وله ثقل في وسط عمال مصر".
انتقلنا بالذاكرة
سويًا إلى عهد عبدالناصر وعن حقيقة
حكمه وما فعله باليهود أكدت وبكل صراحة أن الناصرية كانت سبب ما نعيشه الآن قائلة بجرأة
"الناصرية كانت سبب البلاوى إلى احنا فيها دلوقتى
كفاية إن أكبر عهد اتسجن فيه اليسار كان عبدالناصر والفكر القومى بطبعه فكر إقصائي
مابيحبش أي حد عكسه وده شيء متأصل في الطبع العربى".
قاطعتها ضاحكًا "أنشر الكلام ده يا دكتورة؟" ضحكت وقالت: "آه انشر
إنت تعرف إن اليهود في عهد عبدالناصر ماعملوش حاجة هو اللى كان خايف، أنا أفتكر
وأنا صغيرة كنت بشوف أصحاب العمارات بيرموا لليهود حاجتهم في الشارع وده حصل قدام عيني
في شارع يوسف الجندى، وابتدى يتلعب في دماغنا علشان نكره اليهود لغاية ما وصلنا للى
وصلنا ليه النهارده".
تابعت
بجرأة: "إحنا كشعب محتاجين إعادة تربية لكل المستويات واللى حصل زمان كانت سياسة
دولة مرسومة تحاول بكل حنكة إقصاء اليهود بكل الوسائل".
سألتها عن ما
إذا أتيحت لها الفرصة في أن ترسل رسالة لشباب جيلي ورسالة لعبدالناصر وحكومته قالت
"للشباب أقول ابحثوا عن التاريخ الحقيقي لبلدكم فهو تاريخ غنى جدًا
بسبب كل ما يحتويه من تنوع دينى واجتماعى وثقافى، للناصريين لن أقول أكثر من
"منكم لله".
أخبرتها بأن الكاتب الصحفى
صلاح عيسى قال لى إن اليهود في السجون المصرية لم يمسهم أحد
بسوء وهو عكس ما ذكره الراحل شحاتة هارون في كتابه فقالت "في كتاب "تاريخ
يهود النيل" هتلاقى في الفصل الأخير شهادة حية من واحد يهودى اتسجن في حرب 67
واتعامل بصورة لا إنسانية".
هنا كان لنا وقفة
أمام كتاب "تاريخ يهود النيل" لصاحبه جاك حسون اليهودى المصرى الذي رحل في
أحداث الخروج والذي له قصه غريبة سنذكرها في الحلقة القادمة وكيف كان ليوسف درويش دور
مهم في ترجمة الكتاب وعلاقته بجاك حسون وشحاتة هارون وكيف رثى صديقه هارون قبل وفاته،
عن رأى الكاتب الصحفى مصطفى السعيد أحد من كان له علاقة بيوسف درويش وعدد من اليهود
المصريين.
الخروج الثاني (7)