الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

د. محمد سليم شوشة يكتب:"شال أحمر يحمل خطيئة".. صخب الحياة في أسطر قليلة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في المجموعة القصصية "شال أحمر يحمل خطيئة" الصادرة عن دار روافد تفضل الكاتبة المصرية سعاد سليمان ألا تترك الميدان الذي تجيد اللعب فيه، فتميل إلى ذلك النوع من القصص القصيرة صغيرة الحجم لتستثمر قدرتها على التكثيف وتمكنها من الجملة السردية القادرة على إنتاج دلالات تتسم بالتخلخل والتشعب والتوالد، فالدلالة عندها لا تأخذ شكلا نمطيا سطحيا بقدر ما تتسم بالتخلخل والقدرة على إنتاج دلالة متفاعلة أو منفتحة على تأويلات عديدة، على نحو ما نرى في هذا الاقتباس: (أنت لون الحنان يا أبي، ولكنك لم تنتبه، مهرتك الصفراء التي اصطفيتها لا تليق بك. ألم تدر أنها هجين شرس، تعشق الصهيل تحت الذئاب والثعالب والكلاب؟ توالى على عرينك كثيرون، لم يشفع كرمك وودك ومحبتك، لم تكن تقل رجولة عن أنصاف يلهبون أشواق أمي للرغبة). المجموعة ص7. فهنا نحن بإزاء عدة سمات تصنع خصوصية هذا السرد وقيمته الجمالية والدلالة التي ينتجها، ابتداء من اللغة المجازية المراوغة التي تجعل الشخص نفسه يأخذ لون الحنان، وهي صورة جديدة من الناحية البيانية، ومن جهة التركيب النحوي أو ما يعرف بعلم المعاني فالشخص نفسه هو لون الحنان، وهو ما ينتج تطابقا تاما بين الشخص ومفهوم الحنان الذي يتحول لدى ابنته إلى لون ليكون أكثر ثقلا وحضورا من المعاني المجردة. وبتجاوز هذه السمات البلاغية إلى ضمير المتكلم الذي يفضله الخطاب السردي في هذه القصة حيث تستحضر الابنة الأب الغائب لتحدثه أو لتكتب إليه رسائلها الكاشفة، وتأتي قمة الغرابة من قيمة هذه الأسرار التي تكشفها الابنة فهي في الأساس تعري خطيئة أمها المدفونة عن انحياز تام ومعاداة كاملة وصريحة لهذه الأم. اللغة المجازية تكاد تكون مهيمنة وهي رافد مهم من روافد ثراء الدلالة في سرد هذه المجموعة، فتنزاح الأم عن صورتها إلى وليفة أسد تدخل لعرينه الذئاب والثعالب والكلاب. في إشارة إلى علاقات الأم المتعددة، ولكن في مستوى أعمق للدلالة فحتى يكون متاحا للابنة أن تصف هؤلاء الرجال مع والدتها فإننا نكون بإزاء ملاحظة ممتدة وبالتالي علاقة ممتدة لسنوات، فعدد الرجال الذين كانوا في فراش الأب يلهبونها – وفق لغة النص- عرفتهم الابنة عن قرب وصنفتهم بما يوحي بعلاقة ممتدة زمنيا لأعوام. في تصوري أنه من أعلى مراتب الأدب تلك اللغة التي تحتاج لتفكيك جمل قليلة في صفحات للبحث في معطياتها الدلالية ومن ثم الجمالية، لأن التكثيف في النهاية قيمة جمالية مهمة بما وراءها من اختزال لوقت القراءة وتحفيز على إعمال العقل والمشاركة في كشف دلالات النص. يمثل صراع الابنة مع أمها مفارقة مركزية ينبني عليها السرد ويتوالد من مراحل هذا الصراع ويشكل مصدرا مهما للامتداد والاسترسال لكن الكاتبة تنحاز بشكل واضح إلى المساحة السردية المكثفة ضيقة الحدود اللغوية وتنفتح في الوقت ذاته على حدود أخرى خارج البنية اللغوية لتكون محفزة للقارئ على إنتاج قصته الخاصة وربما روايته المرتكزة على هذه القصة القصيرة وعلى علاماتها المركزية وبخاصة الدورق الأخضر الذي كان بديلا للأب في غيابه وربما يكون إشارة أو فنارا يجلب العشاق لهذه الأم في غياب الأب أو يعرفهم بوجوده فيبتعدون مؤقتا. وتمثل هذه القصة أكثر القصص طولا وتتأسس كلها على هذا النسق التخاطبي – إن جاز التعبير- أو الاستحضار للغائب الذي غابت عنه الأسرار برغم قربه من مصدرها أو بئرها متمثلا في جسد زوجته الخائنة الذي يبدو مستغلقا على الرجل بينما تمثل الابنة مفتاحا لأسرار أمها. 
لا تقدم هذه المجموعة القصصية أنماطا اعتيادية من العلاقات الثابتة مثل علاقة الاندماج مع الأب أو استحضاره عن لهفة في كل الأحوال، بل تتعرض القيم والعلاقات التي تطرحها لنوع من الخلخلة والتبدل، فهذا الأب يتحول في قصة أخرى إلى صورة مختلفة يقترن فيها حضوره بالعقاب وبالبلل الذي لا تعرف أهو بلل في فراشه أم دموع الفراشة التي كانت إياها وتكونها باستمرار. 
وتمثل المفارقة روحا عامة تسري في سرد المجموعة فتمنحه التماسك النصي وتمنح النصوص طاقة حركية نابعة من التحولات فتكون أكثر دهشة وتشويقا. فيكون هناك نوع من التحول من الحال إلى نقيضها ومن الموقف إلى موقف مناقض مفاجئ أحيانا أو على الأقل تكون المفارقة منتجة للتعارض والصراع الدرامي بين الشخصيات.
يشير خطاب المجموعة كتابيا عبر علاماته التنسيقية والبدء بواو العطف إلى علامات الاختزال والحذف التي توحي بالغائب من علامات النص وتحفز على التفاعل بالتخيل وإقامة شراكة مع القارئ في إنتاج المشاهد المحذوفة ومحاولة العمل على استكمال الناقص من ملامح الشخصية وفق النسق الحاضر من بنية النص وعبر مساراته الواضحة. وهذه السمات ترتبط بهذا النوع من السرد القصصي الذي يحضر الحذف فيه بكل قوة وفق نمط خاص في السيرورة، وحال من الشعرية السردية المرتكزة على قدرة العلامات الحاضرة في النص على الإيحاء وغالبيتها علامات لغوية لدى الكاتبة قدر كبير من الوعي بوظائفها وقدراتها الاختزالية، مثل واو العطف كما ذكرت وتغييب جملة الصلة بشكل تام، وغياب (لأن) التعليلية وجملة الشرط والتركيز على الجملتين الفعلية والاسمية بشكلهما البسيط ودون امتداد التعلق عبر حروف الجر. ويمكن ملاحظة هذه السمات في هذا المثال. (.... وعين تتدفق رغبة وتشع بهجة، وأخرى منكسرة لا تشي إلا بالفراغ، فكيف جمع بينهما ذو الوجه الوسيم على هذه الكيفية من التناقض؟). فهذا السؤال في بداية القصة ينفتح على الغائب من النص أو على ما يمثل ذاكرة له يجتر منها علاماته، فيكشف عن صاحب الوجه الوسيم الذي يمثل شخصية رئيسية في القصة تحضر دون مقدمات على نحو ما يحدث في السرد الأوسع فضاء كالرواية أو القصص القصيرة الأكثر اتساعا، ليتأكد أن فكرة التقديم أو التمهيد السردي غائبة تماما في هذا النوع من القصص التي تشبه كرة القدم الخماسية التي تعتمد فكرا مختلفا في كرة القدم عن النوع الآخر الرئيسي الذي يعتمد على أحد عشر لاعبا وكذلك تتطلب مهارات خاصة تعتمد على استغلال المساحات الضيقة والتمريرات القصيرة. ونراها تبدأ قصة أخرى على هذا النحو: (.... ورأيت مدينتي). لتحيل واو العطف على المحذوف والعلامات الغائبة من النص التي تشير إليها النقاط أو الفراغ الذي تعبر عنه هذه النقط، بما يعني أن البداية بشكل مباشر وواضح جاءت من منتصف هذا العالم الذي ينقله السرد ومن عمقه أو من اللحظة الأكثر ثقلا ووطأة. 
يغلب على هذا النوع من القصص القصيرة غياب اسم الشخصية بحيث تبدو مجردة وعامة قابلة للتطابق مع الإنساني المطلق وتنفتح عليه، فهي محض شخصية دون تسمية أو تحديدات تضيّقها، بينما لدى سعاد سليمان ليس الأمر على هذا النحو فهي تدخل النوع من منطلق قدراتها الخاصة في السرد دون أطر نوعية مسبقة، ومن ثم تكون لها ممارستها السردية الخاصة بها داخل هذا النوع، فكثير من الشخصيات لها أسماؤها التي تحمل دلالات إضافية نابعة من الاسم إلى جانب أن الاسم يمنحها نبضا وحيوية ويتجاوز بها الإطلاق وكونها مجرد رمز أو (س) و(ص) من البشر إلى عالم مكتمل ونابض وحقيقي يتفاعل معه المتلقي بدرجة أكبر. لذا نجد عددا كبيرا من الأسماء مثل ياسمين وناصر وغيرهما، بينما تحضر شخصيات تاريخية مثل رمسيس الثاني وأحمس والإسكندر الأكبر ومحمد على، والحقيقة فأنا أختلف مع هذه تحديدا فالإسكندر ليس مصريا وربما لا يختلف عنه كثيرا محمد على حتى وإن كان من أول الحكام غير المصريين الذين يرتكزون بدرجة ما على الإنسان المصري في تأسيس دولتهم، وإن لم يختلف نظامه في تبعيته للدولة العثمانية المحتلة وما طبقته على المصريين من الجباية والسخرة وتقسيم الأراضي على رجالهم من دون المصريين في إقطاعيات لم تتخلخل إلا بخطة عبد الناصر بعد 23 يوليو 52. فإذا كانت الكاتبة تستحضر حاكمين استعماريين أو غير مصريين لمباركة حركة مصرية تراها ضد الظلم فهي في ذاتها مفارقة تستحق التأمل، ولكن هي في النهاية في إطار المضمون أو القيم الدلالية المطروحة من النص ويمكن الاختلاف حولها بعيدا عن الشكل الفني والقدرات السردية وخصوصية الصوت وإمكاناته الفنية. وإن كانت قد أحست بهذه المفارقة بالتحديد مع محمد على الذي جعلته مشتتا بين تشجيع الثائرين أو تقريعهم والتعامل معهم بوصفهم فلاحين في دائرته السنية، ففي المجمل فإنا حضوره في القصة على هذا النحو يبدو غريبا وفخا دفع للسقوط فيه هذه الفكرة من الحيرة بين التشجيع والتقريع التي كانت خاصة بمحمد على تحديدا، بينما كان التاريخ منفتحا أمام النص على شخصيات تاريخية أخرى معروفة بالوطنية مثل سعد زغلول ومحمد فريد والنحاس وعبد الناصر، اكتفت من بينهم باستحضار عبد الناصر ليمثل خاتمة للنص وتأكيدا على موافقة نهائية أو مباركة أخيرة لخطوات الغاضبين لأجل العدالة والحرية بوصفه رمزا لهما. 
تطوف المجموعة مع عدد كبير من القضايا والأسئلة القديمة الجديدة مثل الحب والحرب والثورة والتحولات التي عاشتها مصر على مدى العقود الأخيرة، بينما تبدو حركتها هذه مع هذه المسائل والقضايا مرتكزة على الإنسان الذي هو المحور الثابت والقاعدة التي لا تتغير، وربما يكون للمرأة حضور خاص وهذا أمر طبيعي مع صوت سردي نسوي لا يخفي انحيازه للمرأة وإن كان في الأساس يؤثر الحقيقة على هذا الانحياز، ليكون انحيازا مشروطا بقدر ما تملك المرأة من البراءة والعطاء وغيرها من القيم الإيجابية والمثالية التي تغلف بها أبطالها أو بالأحرى أرواحهم. 
تشتبك كذلك المجموعة مع الموروث من العادات والتقاليد ويحاول السرد تفكيكها أو خلخلتها، على نحو ما نرى في قصة بيت الولد التي تقارب تقديس الولد على البنت ويرى أن خلفة البنات لعنة وعقاب وبالتالي فهي فرصة للمعايرة، وغيرها من التصورات عن العقم وعادات النساء في الحسد والحقد في هذه الأمور المعروفة التي تكون بين الضرائر على نحو خاص ويتم مقاربتها هنا على نحو مغاير من سرد مختلف يؤمن برؤيته الخاصة للحياة وللأشياء ويدرك أنه يمتلك الزاوية التي تخصه ويطل منها على الحياة وقلما يشاركه فيها آخر. 
بينما تبدو القصص الأكثر جمالا في المجموعة هي التي تأسس سردها على ضمير المخاطب الذي يجعل الصوت مباشرا من القلب ويعبر وجدانيا عن صاحب الصوت في شكل رسائلي مفعم بالحيوية والتدفق والانفعال الذي يجعل القصة أكثر تصديقا والجرعة العاطفية أكثر ثقلا وإقناعا، وهو ما نراه في أكثر من قصة منها (قلب موشوم على قدم) بحيث تبدو مساحة الحب هي المنطقة الخاصة بمهارات سعاد سليمان وقدراتها السردية الخاصة التي تجد سبيلها بشكل مباشر نحو الكيفية السردية المناسبة بشكل عفوي فتلجأ إلى ضمير المخاطب الذي يجسد شخصيتين في حوار مسرحي له إيقاع عال ودون تراوح أو وتيرة متفاوتة وذلك منبعه قلة مساحة النص الذي لا يحتمل تراوحا في الإيقاع ويميل إلى الرسائلي المكثف والمختزل والنابع من القلب مباشرة.