ظُروف حالكة الظلمة والقسوة عاشها المصريون المُقيمون في السودان، بعد أن تبدلت الأوضاع الهادئة نسبيًا بين ليلة وضحاها؛ بعد بركان الغضب العسكري، الذي تفجر في السودان، وبث الرعب والفزع في قلوب القاصي والداني؛ فمروحيات الطائرات الحربية لا تتوقف عن التحليق في السماء؛ وباتت الدبابات تملأ الشوارع، وسط استمرار قصف غاشم ورصاص طائش لا يُفرق بين مدني وعسكري. جاء تحرك مصر بالفعل لا بالقول، لإجلاء رعاياها وآخرين حول العالم، تاركة رسالة «أينما تكونوا تُؤمِنكُم المحروسة». فمن ليبيا واليمن تارة، ومن الصين وأوكرانيا وأفغانستان والسودان تارة أخرى، كانت يد مصر العليا مُغيثة العالقين.
نور سمير: الأشقاء فى السودان ساعدونا للهروب من جحيم الحرب.. والجيش حملنا لبر الأمان
«عُمرنا ما جه في دماغنا إنهم يرجعوا بالهدوم اللي عليهم».. تلك الجملة القاسية بدأت بها والدة طالب الفرقة الثالث بالثانوية العامة في السودان نور محمد سمير، حديثها لـ«البوابة»، بعد أن جاءت الحرب هادمة لأحلام أسرة مصرية بسيطة تعيش بإحدى قرى مركز قويسنا بمحافظة المنوفية، والتي كانت تعتقد أن مُكوثهم بالسودان سيمتد لسنوات طويلة.
فبعد 12 عامًا من عمل الزوج مُحاسبًا في إحدى الشركات بالسودان؛ والتحاق الابن البكر للأسرة بالثانوية السودانية؛ أتت الحرب طاوية سنوات العمل والتعلم، قاطعة مسار التحاق البنت الصغرى للأسرة بالثانوية السودانية بعد اندلاع حربٍ قاسية ألمت وآلمت السودان الشقيق.
ويسرد الطالب الذي حصد المركز الأول في الصف الثاني الثانوي بمدرسة العالمية في السودان؛ لـ«البوابة» كواليس رحلة إنقاذ حياته هو وأبوه من جحيم الحرب؛ بعد أن انتشلتهما طائرة حربية أقلعت من القاعدة الجوية بـ«وادي سيدنا» هابطة في مطار شرق القاهرة؛ بعد اندلاع حرب قاسية توشك على تدمير الأخضر واليابس في العاصمة السودانية الخرطوم.
عاش «نور» برفقة أبيه لمدة عامين السودان، وتحديدًا بالقرب من منطقة المطار في العاصمة السودانية الخرطوم، بعد أن أقنعته أسرته بالسفر مع أبيه واستكمال مسيرته التعليمية في السودان؛ ليلتحق بالصف الثاني الثانوي بمدرسة العالمية، فتفوق دراسيًا وحصد المركز الأول على زملائه في المدرسة، وهو الأمر الذي دفعه للاستمرار والالتحاق بالصف الثالث الثانوي في المدرسة ذاتها، أملًا في تحصيل أعلى الدرجات ومن ثم العودة إلى وطنه مصر؛ والالتحاق بإحدى جامعاتها.
ويكمل قائلًا: كانت الأمور تسير بطبيعتها المُعتادة في الخرطوم قبل الـ 15 من أبريل 2023؛ ولكن في اليوم المذكور انقلبت الدنيا رأسًا على عقب؛ بعد اندلاع اشتباكات مُسلحة دامية لا تفرق بين مسلح وأعزل؛ لتتبدل الحياة الهادئة الطبيعية لحجيم متواصل؛ وبات الموت أقرب ما يكون للإنسان.
على مدار 7 أيام منذ اندلاع الاشتباكات في الحي الذي أسكن فيه بالقرب من حي المطار في الخرطوم؛ مكثت أنا وأبي في عزلة وظلام دامس، فالتيار الكهربائي مُنقطع بشكل كامل وشح المياه ضرب الحي الراقي واختفت خدمات الإنترنت والاتصالات؛ ولا يسمع إلا أصوات المدافع والرشاشات ولا يرى سوى الجُثث والحرائق والانفجارات، وأصبحنا محاصرين داخل جدران منزلنا فالخروج من المنزل يعني الموت المُحقق.
أيام معدودة حتى تمكن الأشقاء في السودان من تأمين رحلتنا من حي الطائف في الخرطوم، إلى القاعدة الجوية في وادي سيدنا، والذي مكثنا به 3 أيام لتسيير عشرات الرحلات الجوية منه إلى مصر ودول أخرى، حتى تم نقلنا بطائرة حربية إلى مطار شرق القاهرة، ومنه إلى منزلنا بمركز قويسنا بمحافظة المنوفية.
يُؤكد «نور» في حديثة لـ البوابة، أنه خلال الـ3 أيام التي مكث فيها بالقاعدة الجوية في وادي سيدنا بالسودان، كانت مصر تسير جسور جوية يوميًا للقاهرة لنقل المصريين من السودان، وكانت الأولوية لكبار السن والمرضى وذوي الهمم والحوامل والأطفال؛ ولم يكن الأمر مؤرقًا فالتعامل معنا داخل المطار كان على أعلى مستوى، وكانت تقدم لنا الخدمات والمعونات والمساعدات اللازمة؛ لافتًا إلى أنه فور إخبار السلطات في المطار بأنه يُعاني من مرض السكري، كان في صباح اليوم التالي صاعدًا برفقة أبيه على متن الطائرة لإجلائهم إلى العاصمة المصرية القاهرة بسلام وأمان، والذين يستقبلونهم في المطار بالورود والترحاب.
من قلب النار لبر الأمان فى القاهرة.. شاذلى: الخارجية طمأنتني والجيش أنقذ ابنى من بركان غضب الحرب فى السودان
يسرد والد الطالب بالصف الثاني بكلية الطب البشري في الخرطوم، مُصطفى شاذلي محمد، لـ«البوابة» كواليس رحلة عودة نجلة من قلب النار لبر الأمان في القاهرة، مؤكدًا أن نجله كان يقطن في شارع الـ 60 بالخرطوم، وفور اندلاع الحرب السودانية؛ انتقل بعد نحو 3 أيام إلى حي المعمورة جنوب الخرطوم بمساعدة عدد من الزملاء السودانيين؛ ولكن كان الخطر يقترب منهم كلما فروا منه؛ فالوصول إلى المعمورة لم يكن سهلًا على الإطلاق خاصة وأن الدوريات العسكرية التابعة للدعم السريع استوقفتهم؛ ولكن بيان حالتهم وجنسيتهم المصرية كانت بطاقة العبور وسط الرصاص والقذائف التي تكاد تواصل الليل بالنهار.
ويضيف «شردي» والقيم بمحافظة الفيوم، مكث نجلي برفقة زملائه في حي المعمورة نحو 4 أيام؛ وفي اليوم الخامس والذي كان يوافق 22 من أبريل تواصلت مع وزارة الخارجية المصرية طالبًا المُساعدة لإجلاء نجلي وأصدقائه من بركان الغضب العسكري الذي يجتاح الخرطوم.
يسرد الأب لـ«البوابة» قائلًا: "كان اتصالي بالخارجية مُجرد استكمال للمساعي المتعددة لإنقاذ نجلي؛ وكنت أعتقد أنه لن تكون هناك استجابة، أو ربما لن يتم الرد من الأساس على اتصالاتي، خاصة في ظل الأوضاع المُلتهبة وتواجد آلاف المصريين في السودان؛ ولكن مكالمتي للخارجية كانت مُطمئنة لأقصى درجة ممكنة.
ويختتم الأب حديثه مع «البوابة» بقوله: «مكنش فارق معايا أي حاجة غير رجوع ابني بالسلامة.. إحنا حقيقي عايشين في بلد كبيرة وقيادة حكيمة.. كون أن الجيش المصري يحرك طائرات لرجوعهم لأوطانهم.. فهذا فخر وعزة يعجز اللسان عن وصفه.. فكل الشكر والسيادة والريادة للقيادة الحكيمة».
طالب طب بشري: أهالي قرية رام الله السودانية خاطروا بأنفسهم من أجل سلامتنا.. والهلال الأحمر المصري أوصلنا لمنازلنا مجانًا
حين اندلعت الحرب في رمضان، اعتقد الطالب بكلية الطب البشري بجامعة المنهل محمد السيد أنها فترة قصيرة مثل المظاهرات التي عاصرها من قبل في السودان؛ ولكن تطورت الأوضاع سريعًا وطال الدمار الخرطوم، بما فيها منطقة شرق النيل التي كنت يُقيم بها؛ وساءت الأوضاع وحاصرت قوات الدعم السريع محل سكنه وبات الدخول والخروج مُحرمًا خوفًا من موت مُحقق. هكذا بدأ ابن مركز طهطا بسوهاج حديثه مع «البوابة» راويًا كواليس هروبه من حرب السودان حتى وصوله أرقين المصري الحدودي.
ويقول «السيد» اشتد وطيس الحرب وبدأت قوات الدعم السريع في مواجهة قوية مع الجيش بالأسلحة الثقيلة والخفيفة؛ حتى إن كثافة الرصاص كانت يخترق الحوائط؛ فيما نمكث نحن- المصريين- محبوسين محاصرين داخل غرف السكن مغلقين الأبواب والنوافذ؛ ومع شدة الاشتباكات كان النزول للدور الأرضي ضروريًا؛ خوفًا من انهيار المبنى الذي يضم 4 طوابق أغلبها من الطلبة المصريين فوق رؤوسنا.
ويضيف، عايشت النزاع العسكري الذي يواصل الليل بالنهار لمدة 7 أيام بحي النصر بمنطقة شرق النيل؛ وسط انقطاع تام لـ الكهرباء والمياه ونفاذ المواد الغذائية وفساد ما كان تم حفظه في الثلاجات؛ فلا مأكل ولا مشرب ونهاية الحياة تقترب كل يومٍ عن اليوم الآخر. ومع وصل نحو 32 عربة مُصفة لقوات الدعم السريع في اليوم الرابع من الاشتباكات ازدادت الأوضاع سواءً؛ إذ اقتحمت قوات الدعم السريع مسكننا بالأسلحة؛ والذي يحتوي على «3 شقق بنات + شقة بنين» وسط تهديدات ونهب وسرقة للمتلكات الخاصة؛ ولكن حسن الحظ كان الاقتحام لـ الشقة التي يسكن فيها 7 طلاب من البنين.
اقتحام الشقة دفعنا لاتخاذ قرار الهروب واللجوء بعيدًا عن فوهة الجحيم في شرق النيل؛ ولكن القرار كان صعبًا وخطرًا للغاية؛ وسط انعدام شبه تام للمواصلات وارتفاع أسعارها لـ 5 أضعاف بسبب اختفاء البنزين؛ ولكن كان أمامنا خياران: الأول أن نذهب لولاية الجزيرة خارج الخرطوم؛ والثاني اللجوء إلى منازل أصدقائنا السودانيين في منطقة رام الله الريفية وهو ما وقع عليه الاختيار بسبب الأمان.
دارت بيننا نحن الطلبة المُشاورات والمُناقشات وتمكننا من إبرام اتفاق مع سيارة ميكروباص لتنقل نحو 32 طالب وطالبة مصريين على دفعتين لمنطقة رام الله الريفية؛ ولكن قوات الدعم المحاصرة للسكن رفضت خروجنا؛ لولا صاحب السكن ذلك الرجل السوداني الذي ظل يتفاوض لأكثر من ساعتين متواصلتين حتى تمكن من إقناعهم وسُمح لنا بالخروج.
ترجلنا لمسافة ليست بالطويلة؛ واستقللنا الميكروباص متوجهين إلى رام الله؛ وساعات معدودة؛ ووصل 32 طالبًا وطالبة مصريين إلى رام الله السودانية؛ ليفتح أهالي القرية أذرعهم لنا بالترحاب مُوفرين لنا أماكن للإقامة والمأكل والمشرب مجانًا؛ وكانوا يُلبون لنا كل مُتطلباتنا.. بل وصل الأمر للمخاطرة بأنفسهم من أجلنا؛ على مدار يومين كاملين مكثنا في رام الله حتى استقر الأمر على التحرك بـ«الباصات» نحو المعابر الحدودية المصرية السودانية؛ مؤكدين أنهم كانوا يتواصلون مباشرة مع السفير المصري بالسودان الذي لم يتأخر عن مساعدتهم، ولكن كانت الخطورة في وصولهم؛ فاجتمعوا على السفر لـ معبر أرقين.
يكمل «محمود» سرد مسيرة النجاة من قلب نار السودان قائلًا: مكثنا 48 ساعة في الطريق حتى وصلنا إلى معبر أرقين السوداني أولًا؛ التحرك بالأتوبيس كان صباحًا فقط وإذا جاء الليل نبيت في الاستراحات على أن يكون التحرك فجرًا؛ إلى أن وصلنا إلى المعبر السوداني، وهنا كانت المفاجأة عدم إلغاء رسوم عبور الخروج؛ وقد سدد 30 شخصًا الرسوم، إلا أنا وزميل آخر فقد نفدت الأموال؛ ولكن الضابط السوداني حين علم بالأمر عافانا من الرسوم المستحقة.
دقائق معدودة؛ حتى وصلنا لمعبر أرقين المصري لنجد الهلال الأحمر المصري في استقبالنا على الرحب والسعة؛ فرحين بعودتنا؛ ومن ثم تم إجراء علينا الكشوف الطبية والاطمئنان على سلامتنا إلى جانب توزيع المياه والأطعمة المغلفة وأدوات النظافة الشخصية؛ وكان الاستقبال راقيًا؛ إلى جانب المساعدة في إيصال الأشخاص لمنازلهم وتوفير سبل النقل والمواصلات المجانية لهم؛ أما إتمام أمور الجوازات في المعبر المصري كان في غاية السهولة والسلاسة وكانت هناك سرعة كبيرة في إنهاء أختام العبور لأرض السلام والأمان.
محمد ماهر: الحرب أمامنا واللصوص خلفنا والموت يطوف فوق رؤوسنا.. ويد مصر كانت العون والسند
قُبيل ساعة تقريبًا من أذان مغرب يوم الخامس عشر من أبريل الماضي؛ استيقظ محمد ماهر الطالب بالفرقة الثالثة بكلية الطب والجراحة بالجامعة الوطنية في السودان، على دوي أصوات الرصاص ومروحيات الطائرات التي كانت تحلق فوق مسكنه الكائن في تقاطع شارعي «جوبا والستين» وسط العاصمة السودانية الخرطوم؛ فالطائرات الحربية لا تتوقف عن التحليق في السماء؛ والدبابات تملأ الشوارع والقصف يستهدف المباني وألسنة النيران تخرج في كل مكان؛ مكثت مختبئًا بين جدران منزلي لـ3 أيام حتى تمكنت من التواصل مع زملاء مصريين في الجامعة اتفقنا على الهروب سويًا من أهول حرب ضروس لا تفرق بين مدني وعسكري.
أتممنا الاتفاق فيما بيننا على مُحاولات للاتفاق مع أحد «باصات النقل» لتسيير رحلة للفرار من الحرب في الخرطوم إلى القاهرة؛ مُقابل 125 ألف جنيهًا سودانيًا؛ ما يوازي 200 دولار للفرد؛ واتفقنا على نقطة تلاقي تقاطع شارع "مشتل والستين" وقد تجمع 15 طالب وطالبة «6 طالبات-9 طلاب» في نقطة التلاقي وسط انتشار مُكثف لدوريات الدعم السريع؛ فاختبئنا في الشوارع الجانبية في نقطة التجمع المتفق عليها، وأصبحنا مُحاصرين فـ«الحرب أمامنا.. واللصوص من خلفنا.. والموت يطوف فوق رؤوسنا».
وبعد عناء سفر 3 أيام من وسط الخرطوم وصلنا أخيرًا إلى مطار دنقلا؛ وهنا لمسنا حقًا جهود مصر التي لا تغيب عن أبنائها، فمنذ اندلاع الحرب لم نتواصل مع السفارة المصرية في السودان؛ ولكن فور وصولنا إلى مطار دنقلا كانت الأمور تسير بكل سهولة وبساطة وسرعة كبيرة؛ فخلال ساعتين فقط منذ وصولنا لمطار دنقلا أقلعت طائرة حربية وعلى متنها نحو 110 أفراد إلى مطار شرق القاهرة؛ وقدموا لنا عصائر ومياه على متن الطائرة؛ وفور وصولنا مطار شرق القاهرة واستُقبلنا استقبال الأبطال العائدين من الحرب.