الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ورحل مبارك.. بطل لن يتكرر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في آخر لقاء جمعنى بالرئيس الأسبق حسنى مبارك في صيف 2018 بمنزله في مصر الجديدة ظهر عليه الضيق والحزن.. كان قد أجرى عملية تغيير مفصل بعد سقوطه في الحمام.. قلت له ياريس حتعدى إن شاء الله.. ابتسم وقال أنا مش مهم.. أديت رسالتى للبلد وضميرى مرتاح.. واستطرد: المهم علاء وجمال أتمنى أن أرى براءتهما وأنا على قيد الحياة.. اتظلموا بسببي.. أجبته: ياريس ربنا يديك طول العمر.. واليوم بعد أن أبلغنى سكرتيره اللواء حسين محمد حسين الخبر الحزين.. عادت بى الذاكرة فورًا إلى آخر حوار معه، وكأن المولى عز وجل أراد أن يحقق أمنيته قبل أن تنتقل روحه إلى بارئها.
لن أكتب اليوم عنه كرئيس وزعيم عملت معه 22 عامًا عاملنى خلالها كوالد، ولكن سأتناوله كبطل عسكرى حقق نصرًا في أكتوبر 1973، وظل حتى اللحظة الأخيرة من حياته متمسكًا بشرفه العسكرى، وبدا هذا واضحًا في شهادته أثناء محاكمة الإخوان..طلب منه القاضى الجليل شرين فهمى أن يتحدث عن اقتحام السجون والمؤامرة مع حماس وحزب الله. فقال احضر لى إذنا من السلطات العليا لأتكلم..هذا التزام رجل في نهاية حياته ما زال متمسكًا بشرفه العسكري.. إننى أقول بكل ثقة إن هذا البطل لم يفت في عضده الألم الجسدى والنفسى وسنوات السجن في طرة وشماتة البعض فيه لكنه لم يحزن إلا في مناسبتين عندما لفقوا قضية البورصة لأبنائه وعند مرض زوجته أطال الله في عمرها..أروى جزءًا من تاريخه العسكرى الذى لايختلف عليه أحد، ويعلمه كل من خدم معه في القوات المسلحة.
إن حرب أكتوبر التى نذكرها الآن بعظيم الفخر تبدو بالنسبة لكثيرين مكللة بالخزى.. وإذا كانت معركة 73 قد نقلتنا من الظلمات للنور، فلا بد أن نتعلم منها أهم درس، وهو كيف نكتب تاريخًا حقيقيًا.. إن غربان التاريخ السياسى والعسكرى - كما وصفهم الأستاذ أنيس منصور- لم يخجلوا أن يقولوا إن أكتوبر تمثيلية اشترك فيها السادات وجولدا مائير.. وأن الزعيم الراحل يستحق جائزة الأوسكار وليس جائزة نوبل للسلام.. وكان الراحل الأستاذ هيكل هو أول من تبنى هذا النهج قبل أكتوبر مدعيًا النبوءة السياسية والعسكرية زاعمًا أن النابلم سيحرق القناة إذا فكرنا في عبورها.. وأن جيشنا سيدفن في مقبرة بارليف الذى لن يقدر على تحطيمه سوى قنبلة ذرية!!
ولقن الأستاذ هيكل جوقته من الكومبارس الذين صعدوا للمسرح بعد انتهاء الحرب ليعرضوا لنا مسرحية «الكذبة الكبرى» وهى أن السادات سطا على خطة سابقة وضعها جمال عبدالناصر.. أى أن ناصر وضع خطتين إحداهما لهزيمة ساحقة في 1967 وأخرى لنصر مؤزر في 1973.. خرافات التاريخ السياسى والعسكرى في مصر جعلت المصريين يحزنون على عبدالناصر المهزوم أكثر من السادات المنتصر.. مشكلتنا أن التاريخ عندنا هواية.. والمصيبة أن يكتب الهاوى تاريخ المحترف.
من أجل ذلك صدقنا- عندما كرهنا مبارك- أن الضربة الجوية مبالغ فيها، وأنها لا تحتاج أكثر من 12 طائرة كما أشار هيكل، وأنه ليس صاحب الفضل فيها.. وظللنا نهيل التراب على من نكره ونرفع من نحب لمصاف الأنبياء.. إن مصر الحديثة تحتاج إلى عقول مفتوحة بدلا من الأفواه المفتوحة والجيوب المنفوخة.
وتسألنى ولك الحق لماذا اخترت أن تكتب عن مبارك كبطل حرب وليس كرئيس وارد قائلًا لأنه الوحيد الذى كتب رأيه من وجهة نظر عسكرية بحتة....
..
..
إن الميزة الأساسية للرئيس الأسبق مبارك أنه لم ينسب فضلا لنفسه بل لم يتحدث بضمير المتكلم إلا مرة واحدة.. يرصد الأيام والشهور والخطط ولا يخفى سعادته بتحطيم أسطورة سلاح الجو الإسرائيلى.
تبدأ الأحداث يوم 5 يونيو 1967 والرئيس الأسبق معلق بين السماء والأرض كما حكى لنا في إحدى رحلاته الخارجية عام 2007 ومعه خمسة طيارين يبحثون عن مطار يهبطون فيه ولا يجدون ردًا من غرفة العمليات.. ولاحظ أن مبارك كان في الـ39 من عمره آنذاك وهى سن متقدمة لطيار، ومع ذلك أقلع في رحلة استكشافية بناء على طلب من طيارى سرب القاذفات الثقيلة (ت ى 16).
ما ستقرأه هنا ليس دفاعًا عنه، ولكنه استرشاد بقائد ظل في الميدان 6 سنوات يخطط ومعه آخرون لكسر موردخاى هور قائد سلاح الطيران في أكتوبر ويونيو.. مبارك كشف لنا أسرار عملية «طوق الحمامة» التى نفذتها إسرائيل ضدنا في 67 والمأخوذة من العسكرية الأنجلوفرنسية في نهاية الحرب العالمية الثانية.. من ثم يعتبر الرئيس الأسبق أن الخطة التى وضعها مع زملائه- لم يقل أبدًا أنها خطته وحده- وسماها «صدام»، لم تنتصر على فكر إسرائيل فقط ولكن على الفكر الغربى كله.
ومثل الرسالة التى وجهها الريس زكريا «عبدالسلام المحجوب ثعلب المخابرات الذى أصبح محافظًا للإسكندرية ثم وزيرًا» إلى مدير المخابرات الإسرائيلية في نهاية مسلسل «دموع في عيون وقحة»، وقال فيها نشكركم على حسن تعاونكم معنا.. فإن مبارك أيضًا وجه رسالة شكر للجنرال موردخاى هور- الذى كان يمثل له شخصيًا عدوا يجب إذلاله- قال فيها إنكم استنفرتم المقاتل المصرى العظيم بغروركم وإمعانكم في التفاخر والكبرياء بأنكم لا تقهرون ونسيتم أن المصريين جبابرة.
ويضيف مبارك في رسالته الموجعة كقائد منتصر إلى خصمه المهزوم والذى كان قيد التحقيق من قبل لجنة أجرانات لبحث تقصيره وغيره من العسكريين الإسرائيليين خلال مجريات الحرب: «لقد أثبت المقاتل المصرى أنه ليس متخلفًا حضاريًا أو عاجزًا عن استيعاب أحدث أسلحة العصر والتعامل معها والسيطرة عليها فأنتم تعرفون جيدًا ماذا فعلنا بكم في أكتوبر وهى مجرد عينة لما يستطيع المقاتل المصرى أن يوجهه لكم».
إن هذه الرسالة توضح شيئًا مهمًا في شخصية مبارك، وهى أنه لا ينسى ثأره وهو ما قاله في إحدى خطبه بعفوية.. لو تعرضنا لاعتداء لن تمر 24 ساعة إلا وسآخذ حق بلدى وشعبى بإيدى!
عاد حسنى مبارك من بعثته في الاتحاد السوفيتى في أوائل 1967 وظل لمدة 6 أشهر كاملة لا يذهب لمنزله منشغلا في تشكيل لواء القاذفات المقاتلة.. سنه الصغيرة وقتها جعلته يتعرض لمكائد وفخاخ لإزاحته، لكن الفريق مدكور أبوالعز، قائد سلاح الطيران، كان في صفه.. يوم الاثنين 5 يونيو خرج التاسعة صباحًا ومعه خمسة طيارين تحت إلحاح منهم في طلعة تجريبية أو «تطعيمهم لمعركة منتظرة»- والتعبير من فم الرئيس شخصيًا- وهو في الجو عرف أن قاعدته الجوية في بنى سويف تحطمت.. بل وكل المطارات القريبة.
كان همه الأكبر إنقاذ طياريه وطائراتهم.. الطيار في كل العسكريات أهم من الطائرة.. بدأ في الاستغاثة بغرفة العمليات من جهاز اللاسلكى في طائرته، لكنه ظل صامتا صمت القبور.. لا أحد يسمعه.. لا أحد يسعفه.. حتى لو بأطيب الأمنيات.. أكله الغيظ من كم اللامبالاة.. أخيرًا ردوا عليه قائلين المطارات القريبة منك كلها دمرت.. هنا يبرز القرار اللحظى الذى يتخذه المحترف.. قدر المسافة من إسرائيل لمصر وأقصى مدى للطائرات وعرف أنهم لن يصلوا لمطار الأقصر إلا بعد نصف ساعة بعد أن يزودوا طائراتهم بالوقود.. اتجه إلى الأقصر.. هبطوا بطائراتهم وبعدها بدقائق تم تدميرها وأصبح المطار بأكمله خرابًا ودمارًا.
في وسط الغيظ والحنق هاتفه مسئول بغرفة العمليات وطلب منه تنفيذ الخطة «فهد» فكان طبيعيًا أن يفكر مبارك في توجيه السباب واللعنات له.. لكنه لم يفعل.. الخطة «فهد» كانت مجرد نظرية تعتمد على امتصاص الضربة الأولى من إسرائيل ثم نقوم بالرد عليها.. كيف هذا وقد خسرنا سلاح الطيران كله تقريبا.. شعر مبارك- كمقاتل- أن قلبه تمزق مثل طائراته الخمس.. فقد مبارك سلاحه دون أن يستعمله.. وكانت الرتبة التى يحملها والنسر على بدلته العسكرية يؤلمانه لأنه أضحى الآن ضابطًا في سلاح غير موجود.. لكن في هذه اللحظة بالذات أقسم هو وزملاؤه الخمسة على الثأر.. كيف؟!. لا يعرفون.. بماذا سيطيرون وما هى خطتهم.. لم يتنبأ أحد أن هذا الضابط هو الذى سيتولى إنشاء السلاح الجوى المصرى من الصفر وتدريب المقاتلين والتخطيط للانتقام.. ويكشف مبارك عن سر خطير عن نكسة 67 وهو أن إسرائيل بدأت تستعد لضرب الطيران المصرى على الأرض عام 1956 عقب العدوان الثلاثى.. لكن هذه قصة أخرى.