الثلاثاء 28 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

حقوق الإنسان مبدأ حضاري أم استعمار جديد؟ "4"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حقوق الإنسان فى العصور الوسطى
تزخر الكتب المقدسة – والذى يعنينا منها كتب اليهود والمسيحيين والمسلمين– بالعديد من النصوص والمعانى المؤيدة لقضايا حقوق الإنسان، ويتضح ذلك لمن قام باستقراء تام لتلك الكتب من أجل أن يبحث فيها عن قضايا تمس جوهر وجود الإنسان. ويمكن القول إن التسابق لإثبات توافق الأديان مع حقوق الإنسان يؤدى– فى أحيان كثيرة– إلى تعسف فى الاستدلال من جهة، والتجاوز عن كثير من النصوص المخالفة للقانون الدولى الإنسانى من جهة أخرى. وقد ركزت الكتب المقدسة على علاقة الإنسان بربه وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وربطت الإيمان والكفر بمدى صحة تلك العلاقة وعدم صحتها، ولهذا السبب فقد حفلت هذه الكتب بقوانين وتشريعات تبيّن ما على الإنسان من واجبات وما له من حقوق. 
بالنظر إلى الديانة اليهودية فى أصولها الأولى، نجد أن اليهودية قد غرست فى نفوس أتباعها اعتبارات المصلحة القومية، وقواعد العناية بالشعب ومصائره؛ ونادت بالجزاء على الفضيلة والعقاب على الرذيلة. وجاءت أسفار الشريعة لتصوغ القوانين الأساسية التى وصفت كل عدالة يقوم بها الإنسان إلى الدين الموصى من قِبل الرب أى المحارب الصعب المراس، ودونت أحكاما تدعو إلى العدالة بين الشعب؛ ففى سفر «إشعيا»– الإصحاح الثالث آية ١٢- «يدخل الرب فى محاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم.... واصفهم بأنهم سلبوا البائسين حقهم وسحقوا الشعب»؛ لقد صارت تلك الشريعة تضيق النطاق على الحياة الإنسانية؛ حيث جعلت كل مظاهر الحياة موضوعات للهداية الإلهية. وفى هذا الإطار توضح بعض المصادر التاريخية أوجه الشبه بين تشريعيات «حمورابي»، والحقوق التى علمها موسى- عليه السلام- لشعبه، ويظهر ذلك جليًا فى نظام القصاص الذى يقوم عليه التشريع اليهودى كما جاء فى سفر «الخروج»– الإصحاح ٢١ آية ٢٣-٢٧- «وإن حصلت أذية تعطى نفسًا بنفس وعينًا بعين وسنًا بسن ويدًا بيد ورجلًا برجل... وجرحًا بجرح ورضا برضا». وقد وجد نظام مشابه لنظام القصاص فى بلاد الرافدين ولدى الإغريق فى الألواح الاثنى عشر. 
ودعا الأنبياء الاجتماعيون فى أسفار بنى إسرائيل إلى مفاهيم العدل والحق والاستقامة، واهتموا بدور الضمير فى صياغة الحقوق ووجوب خضوع السلوك لمنطق العقل فى ممارسة الترغيب والترهيب الذى يدفع بالمرء إلى الاتجاه الصحيح أو الاتجاه الخاطئ؛ كما أكدوا أن الفضيلة التى يأتى بها المرء أو الرذيلة الصادرة منه لا علاقة لها بشقائه وسعادته. ويبدو أن هذه الشرائع كانت تشير إلى بعض الأحكام المتعلقة ببعض القيم الأخلاقية وتنظيم العلاقات الإنسانية وفرض العقوبات، فنكاد نجزم أنه لا يظهر شىء من ملامح حقوق الإنسان– ما عدا حق الحفاظ على الحياة والتملك– فى الشرائع التوراتية، وهى كشريعة «حمورابي» تختلف عما نجده من بعض الإشارات فى الحضارة المصرية إلى بدايات الشعور بهذه الحقوق، خاصة موضوع التشديد على العدالة، وأيضًا فى الإشارة إلى المساواة والقليل من الحرية. 
أما المسيحية فقد دعت إلى حرية العقيدة والتسامح والمساواة ومحبة الإنسان لأخيه الإنسان، مستهدفة من وراء ذلك تحقيق مثل أعلى للإنسانية ومحاربة التعصب الدينى الذى أفرزه أحبار اليهود وكهنتهم. وحمل السيد المسيح- عليه السلام- إلى البشرية قانونًا إنسانيًا تتجلى فيه جميع الحقوق التى تصون الكرامة للشخصية البشرية. فالإنسان فى رأى المسيحية الحقة يستحق الاحترام والتقدير، وأن السلطة المطلقة لا يمارسها إلا الله، وهى بذلك قد رسمت حدودًا فاصلة بين ما هو دينى وما هو دنيوى من أجل تنظيم المجتمع الإنساني. لقد جاءت المسيحية بمبادئ إنسانية خالصة لترسخ ثورة روحية وأخلاقية رفيعة المستوى لتنقذ المجتمع بأسره من المادية البغيضة التى زرعها اليهود فى نفوس الناس، وتلغى التمايز الطبقى والدينى لتحل محله المحبة والتسامح بأفضل أشكاله الإنسانية. 
وقد وقف المناخ السياسى الذى كان سائدًا فى أوروبا فى تلك المرحلة– فى العصور الوسطى– حائلًا أمام تحقيق المبادئ التى جاءت بها المسيحية نتيجة سيطرة البابوات وتحكمهم فى مصير الإنسان الأوروبى آنذاك. وخير دليل على غياب حقوق الإنسان فى تلك الفترة، الحروب الصليبية التى أعلنوها على شعوب الشرق الأوسط والاستيلاء على أراضيها، وما نجم عن ذلك من انتهاك حقوق الإنسان فى تلك المناطق المحتلة؛ وبالتالى تم تشويه حق الإنسان الطبيعى فى إيجاد حياة كريمة. ولقد أجمع الباحثون على أن واقع حقوق الإنسان فى أوروبا المظلمة فى مرحلة القرون الوسطى قد طغى عليه قتل الحرية الشخصية وحرية الاعتقاد وحرية التعبير عن الرأى وغيرها من الحريات التى طمست ملامح حقوق الإنسان الأوروبى فى شتى العصور، نتيجة سيطرة النبلاء ورجال الكنيسة على مقاليد الدين والدولة، وإقصاء الطبقات الأخرى وتعريضها للعقوبات الوحشية والتعذيب والمحاكمة بطرق التحكيم الكنسي، أو ما يسمى بـ«محاكم التفتيش»... وغيرها من وسائل إبادة الإنسان.