الثلاثاء 01 أكتوبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

البوابة ستار

في "كان" 2014.. البزنس في الفن.. الإسموكنج في الأتوبيس.. والمقاومة السورية في باريس!

مهرجان كان
مهرجان "كان"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في مهرجان "كان" تلتقي كل التناقضات. أفضل ما في المهرجانات وأسوأها. الفن والتجارة. الغالي والرخيص. العقل المبدع والجسد المتعري. الأصالة و"الموضة". الانفعالات الإنسانية العميقة، والمظاهر الاحتفالية البراقة. أرقى ما وصل إليه فن السينما، وأحط ما وصل إليه النصب باسم الفن.
في "كان"، وربما في "كان" فقط، أو في "كان" أكثر من أي مكان آخر، يمكنك أن تكون خارجا من دار العرض باكيا محطما بسبب البؤس البشري الذي شاهدته على الشاشة، أو مستغرقا في التأمل والإحساس بالجمال الكوني عقب مشاهدتك لتحفة فنية نادرة، فيستقبلك على الأبواب صوت الأغاني الشعبية الصاخب وتدهم عينيك المرهقة ألوان السجادة الحمراء والإسموكنج الرجالي الأسود وفساتين السهرات النسائية الفاقعة، وتغرق في بحر من المعجبين الذين يصرخون إعجابا بنجمة أمريكية مراهقة، بطلة لفيلم تجاري تافه، لا تكاد تفقه شيئا عن الفن أوالثقافة.
في "كان" ترى أحدث الأفلام، نعم، لكنك سترى أيضا أحدث وأغلى أنواع السيارات. عشرة ملايين جنيه تسير على عجلات في الشارع. وسترى أحدث خطوط الموضة. فستان لا تتجاوز مساحته خمسين في ستين سنتيمترا ربما يتجاوز ثمنه خمسين أو ستين ألف جنيه! قد تفكر عندها باسما: ألهذا السبب تحاول النساء هنا توفير أكبر عدد ممكن من السنتيمترات؟!
لا تتصور مع ذلك أن الأثرياء المشاهير فقط هم الذين يعيشون هنا. هذا الثراء الفاحش يجذب أيضا كل الطامحين والطامحات إلى المال والشهرة، وحتى الطامحين والطامحات إلى وجبة عشاء وكأس من النبيذ مجانا.
على الناصية، وسط أمواج النساء، قد تلتقي بكيت بلانشيت تتبختر وسط حراسها، وقد تصطدم بعاهرة مسكينة تلف جسدها المعروض للبيع بجيب قصيرة وسترة ضيقة تبرز مفاتن البضاعة.
في عرض الشارع، وسط البدلات الإسموكنج الفاخرة، التي يبدو وكأنها توحد بين المدعوين الرجال، قد تلمح جورج كلوني، وقد تبتسم من رؤية شاب يصل الحفل على دراجة، أو رجل كبير يقفز إلى الأتوبيس، وكلهم يرتدون الإسموكنج!

"أنا" أسامة محمد وأشلاء السوريين
في اليوم الثاني من فعاليات مهرجان "كان"، في دورته السابعة والستين المنعقدة حاليا، عرض فيلم "الماء الفضي: بورتيريه ذاتي لسوريا" للمخرج السوري أسامة محمد، وهو الفيلم العربي الثاني المشارك في المهرجان بعد فيلم "تمبوكتو" الموريتاني المشارك في المسابقة الرسمية.
أسامة محمد واحد من أفضل المخرجين السوريين، وهو من القلائل الذين انتقدوا النظام السوري الديكتاتوري في أفلام سابقة وإن كان بشكل رمزي وغير مباشر بالطبع.
بعد الثورة التي اندلعت في سوريا عام 2011 هاجر أسامة محمد إلى فرنسا ليتابع الثورة من هناك!
في فيلمه الجديد يشن هجوما حادا وقاطعا ضد نظام بشار الأسد...ولكن هناك مشكلة. ما هي؟ سوف أشرحها بعد لحظات.
قبل حضوري إلى "كان" مباشرة شاهدت فيلم "سلالم إلى دمشق" الذي صنعه مخرج سوري آخر هو محمد ملص، وذلك ضمن أسبوع أفلامه الذي عقد في سينما "زاوية" التي أسستها ماريان خوري في القاهرة.
فيلم ملص مصنوع في سوريا، وسط الصراع الدموي الدائر، وهو مزيج بين الروائي والوثائقي حول مجموعة من الفنانين والمثقفين السوريين يقيمون في منزل واحد في قلب دمشق عندما تندلع شرارة الثورة حولهم. الفيلم ينتقد النظام بضراوة، وقد تم تصويره خلسة داخل البيت، وبالرغم من ملاحظاتي النقدية السلبية عليه، إلا أنه، على الأقل، يمتلك شجاعة المواجهة والمقاومة الحقيقية، التي يجب أن تكون من الداخل، وليس عبر عواصم أوروبا.
فيلم أسامة محمد مصنوع في فرنسا، وهذا يمكن التغاضي عنه، وهو عبارة عن إعادة مونتاج للقطات من الـ"يوتيوب" والإنترنت لفظائع وأهوال الثورة السورية، لم يقم أسامة محمد بتصوير مشهد واحد منها. المشاهد الوحيدة المصورة خصيصا للفيلم قامت بتصويرها فتاة كردية تعيش في حمص اسمها سيماف بدرخان شاركت في الثورة ضد النظام ولكنها إضطرت أيضا للهرب إلى فرنسا عقب سيطرة متطرفي "الجيش الحر" على المدينة. أسامة محمد كتب اسم الفتاة كمشاركة معه في صنع الفيلم الذي لم يصور منه لقطة...وكل ذلك يمكن التسامح معه.
الفيلم عبارة عن مشاهد وثائقية تم تجميعها ولصقها داخل سياق ينظمه صوت الراوي، أسامة محمد نفسه، قبل أن ينضم إليه بالقرب من منتصف الفيلم صوت الفتاة الكردية.
ما لا يمكن قبوله في هذا الفيلم هو صوت الراوي: تعليق طويل وممل، طنطان وركيك ومدع للشعرية والبلاغة، حول أحداث الثورة السورية منذ لحظة بدايتها في "درعا"... تعليق طويل لا ينتهي من عشرات العبارات الإنشائية معظمها يبدأ بكلمة "أنا"!
عشرات وعشرات من اللقطات القاسية والمؤلمة للتعذيب والسحل والقتل، لا يتورع أسامة محمد عن عرض أكثرها قسوة وإيلاما، ولكن التعليق الصوتي المصاحب كثيرا ما يتجاهل عذابات البشر الموجودين في الصور ليتحدث عن مشاعر وهموم أسامة محمد الذي يعاني من الشعور بالذنب لأنه جبن وغادر البلاد في الوقت الذي كان ينبغي أن يبقى فيه ليحقق "نضاله" الذهني على الأرض.
هذه الشاعرية المفتعلة تعكس في تصوري نوعا من الخواء النفسي للمثقف البورجوازي العاجز عن التفاعل مع الواقع والمشاركة فيه، وهذا الهوس بجلد الذات هو في تصوري استمرار لهوس النرجسية وعشق الاستعراض وتعرية الذات.
ما لا يمكنني التسامح معه في هذا الفيلم تحديدا هو تلك القدرة الفذة على الحديث عن هموم الذات لشخص يقف وسط وفوق جثث وأشلاء البسطاء.
مع ذلك، وحتى لا أغبن الفيلم تماما، يجب أن أقول أنه مبني جيدا على مستوى المونتاج واستخدام المؤثرات البصرية والسمعية والايقاع، وهو مؤثر بالطبع على المستوى الإنساني، خاصة إذا لم يكن قد سبق لك رؤية هذه المشاهد المروعة من قبل على الانترنت أو في نشرات الأخبار. من هذه الناحية قد يكون الفيلم بمثابة صدمة شعورية، وأعتقد أن هذا هو السبب الوحيد وراء إختيار الفيلم للعرض في مهرجان "كان".