عقدت جمعية نقاد السينما المصريين، الأحد الماضي، ندوة عن استخدام الشريط الخام في الأعمال السينمائية، وذلك بحضور المخرجة هالة القوصي، ومدير التصوير عبدالسلام موسى. بجانب استخدام الخام في السينما بصورة عامة، تطرق النقاش، الذي أدارته الناقدة السينمائية أمنية عادل، إلى الرحلة الصعبة التي خاضوها في صناعة فيلم "شرق 12"، وكذلك إعادة إحياء الخام واكتشاف عوالم التحميض.
وخلال الندوة، استهلت المخرجة هالة القوصي حديثها بأن مسيرتها مع الخام بدأت قبل 31 عامًا، حينما كانت تعمل كمصورة فوتوغرافية بمجال الإعلانات التجارية، وهذا شَكل نوعًا من الارتباط بسحر الشريط الخام وقدرته الفريدة في خلق جماليات الصورة، وما زاد من تعزيز هذا الجانب هو خلفية "القوصي" الإبداعية الثرية كونها فنانة تشكيلية لها إسهامات في مجال النحت، لذلك تولي أهمية بالغة بالصورة وتكويناتها، فهي لم تكن بعيدة يومًا ما عن هذه العوالم الساحرة. ولكن مع تقلبات العصر وانحسار الخام في مواجهة الرقمي، شعرت "القوصي" بالغربة وسط هذا التحول الجديد، تقول القوصي: "بكيت عندما صورت بكاميرا ديجيتال لأول مرة في حياتي".
حلم "القوصي" مع تصوير فيلمها الأحدث "شرق 12" على شريط خام، بدأ يتشكل قبل 8 سنوات، فهي تدرك أن المخاطر عالية والمشروع سيكلف الكثير ولن يقتنع به منتج يبحث عن الربح لا الخسارة، لذلك قامت بإنجاز فيلم قصير بعنوان "لا أنسى البحر"، تم تصويره على شرائط الخام، حتى تتمكن من إقناع المانحين بضرورة تنفيذ هذا المشروع بهذه الرؤية.
إن رحلة "القوصي" مدعومة بإصرار مدير التصوير عبدالسلام موسى على خوض مغامرة شبه مستحيلة، كانت مليئة بالكثير من الصعوبات والصراعات مع أوجه من البيروقراطية الأصيلة والمترسخة، ولكن وسط كل هذه التعقيدات اللوجستية والفنية... لماذا كان الخام هو أفضل وسيط لتصوير هذا الفيلم؟
أكدت القوصي خلال الندوة، أن اللجوء لتصوير الفيلم على شرائط الخام لم يكن من باب الرفاهية أو الحنين للماضي، وإنما كان لخدمة فكرة الفيلم. تم تصوير "شرق 12" على شرائط بمقاس 16 ملم للمشاهد بالأبيض والأسود التي تعمل بمثابة مرادف للواقع، و35 ملم للمشاهد الملونة التي ترمز للخيال، وبالتالي أرادت المخرجة من المشاهد منذ البداية أن يتوقف عن طرح الأسئلة حول متى وأين تتم هذه الأحداث، وهو ما دفعها للتلاعب دائمًا بفكرة عدم وجود فجوة واضحة بين الواقع والخيال، وبين الرغبة والخوف. وهذه المعادلة لا يمكن تحقيقها من خلال التصوير الرقمي، وفق تعبير صناع الفيلم.
إن اتخاذ القرار بتصوير الفيلم على شرائط الخام لم يكن العقبة الوحيدة أمام "القوصي"، لكنه فتح الباب على أزمات عدة تخص استخدام هذا الوسيط في تصوير الأعمال السينمائية في مصر على وجه التحديد. أولى هذه العقبات كانت إشكالية استيراد خام الأفلام من الخارج وكيفية تمريره دون اللجوء إلى إجراءات التفتيش الروتينية إذا ما تم فتح بوبينات (علب) الشرائط وتعرضها للضوء أو لأجهزة الأشعة السينية والتي قد تؤدي إلى تلفها نظرًا لحساسيتها الشديدة وبالتالي خسارة أموال طائلة بسبب تكلفة الخام العالية.
الإشكالية الثانية التي واجهت "القوصي" وفريقها في مراحل ما بعد الإنتاج، تمثلت في صعوبة طباعة وتحميض هذه الشرائط خارج مصر بسبب إجراءات العبور التي قد تهدد بخسارة المواد المصورة. أما في الداخل، فمعامل التحميض بمدينة الإنتاج الإعلامي متهالكة وتحولت مع الوقت إلى أماكن مهجورة، فكان لابد من إعادة إحياء المعمل من جديد حتى ينجز مهمته على أكمل وجه.
هذه الرحلة الشاقة خاضها مدير التصوير عبدالسلام موسى، الذي يمتلك خبرات سابقة في التصوير السينمائي على شرائط الخام، بمساعدة عدد من المتخصصين القائمين على المعمل، حيث قاموا بوضع خطة لإعادة بث الحياة داخله مجددًا، تمثلت في إنشاء وصلات بديلة لتزويد المعمل بالمياه وجلب مولدات كهربائية لتزويد المعمل بالطاقة وكذلك تجهيز المواد الكيميائية المستخدمة في عملية التحميض. كل هذه الجهود مدعومة بتوفر الإرادة وشجاعة القرار هي ما جعلت "شرق 12" يرى النور كما يريده صُناعه.
ما بين مرحلتي ما قبل الإنتاج وما بعده، هناك مرحلة التصوير والتي لم يتوفر خلالها أي رفاهية لدى "القوصي" للتجريب، فالتجريب هنا لا يعني خسارة الوقت فقط، وإنما الكثير من المال أيضًا. ترى المخرجة أن "الخام فاضح للهواة" سواء وراء الكاميرا أو أمامها، وبالتالي قامت "القوصي" باختيار فريقها التقني أو التمثيلي بعناية شديدة حتى لا يكون هناك مجال للخطأ أو الإعادة أمام الكاميرا، نظرًا لمحدودية شرائط الخام المستخدمة في عملية التصوير. فكانت تستغرق وقتًا كافيًا في التحضير لبروفات التمثيل أو حركة الكاميرا قبل كل مشهد، حتى يتم الحصول على الأداء والصورة المطلوبين من أول لقطة. لهذا استعانت بأسماء تمثيلية مخضرمة، نذكر منها على سبيل المثال الفنانة القديرة منحة البطراوي، التي سبق أن شاركت "القوصي" في فيلم "زهرة الصبار، وكذلك الفنان القدير أحمد كمال، بجانب أسماء واعدة مثل عمر رزيق، وفايزة شامة.
إن أهمية فيلم "شرق 12" لا تنبع فقط من كونه الفيلم المصري الذي يصل لمسابقة "نصف شهر المخرجين" بمهرجان كان السينمائي بعد نحو 36 عامًا من آخر مشاركة مصرية في المسابقة من خلال فيلم "سرقات صيفية" للمخرج يسري نصر الله، ولكن هو بمثابة توثيق لمغامرة شديدة الجرأة لم يكن يدري صناعها مدى نجاحها من عدمه لولا تحليهم بالإرادة وإيمانهم بفكرتهم. فكما تروي الحكاءة (منحة البطراوي) في فيلم "لا أنسى البحر"، أن كل شخص ليس له وجود حتى يحصل على حكاية، تحصل "القوصي" بالفعل على حكايتها الخاصة والتي ستظل حية في أذهان الكثيرين للأبد.