لم تعد الحياة لطبيعتها منذ ذلك الحين، فقد بهتت الألوان وانطفأت الروح والأضواء، وصار نور الشمس بعيدًا وتشققت جدران المنزل حزنًا وأسفًا، وبات كل شئ غريبًا عما عهدناه، وتغير طعم الأشياء ولم تعد الكلمات تجدي نفعًا في وصف ما تحمله النفوس من آلام، فقد غاب نور البيت ومشرقة في غمضة عين، لم نضع هذه اللحظة في الحسبان، فقد كان العوض والسند وما تطمح إليه النفوس من أحلام بعد وفاة والده قبله ببضعة أشهر فحسب، بهذه الكلمات بدأت الأم المثالية السيدة "منى الشحات" حديثها عن فقدانها لنجلها الوحيد "محمد" إثر حادث مفاجئ وهو في عمر السابعة عشر، قد كان وسيمًا خفيف الظل والروح وله عشرات الأصدقاء والمحبين الملتفين حوله باستمرار، يصفونه بمكارم الأخلاق وينعتونه بأجملها فقد كان ذو شهامة ومروءة، وأفعاله تسبق رحلة عمره القصيرة بسنوات وسنوات.
وأضافت أنها تأتي لزيارة نجلها كل أسبوع ولم ولن تنقطع عن زيارته مهما كانت الظروف، وأنها في معظم زيارتها تجد أصدقاؤه مواظبين على زيارته منذ خمس سنوات ويقومون بزراعة الورود والصبار وتنظيف المكان المحيط بقبره، وعن ليلة وفاته تقول أنه كان ملازمًا لفراشه منذ ما يقرب من 10 أيام بسبب كسر في ساقه إثر مباراة ودية لكرة القدم خاضها مع رفاقه، ولكن قد ناداه القدر يومئذ فقام بفك الجبس عن طريق "سكينة" وهاتف زملاؤه وطلب منهم الخروج لأنه مصاب الملل والضجر من الجلوس بالمنزل، ومر على زملائه في الملعب وبادلهم التحية وانطلق مع رفيقيه بصحبة عكازه لعدم قدرته على المشي بشكل طبيعي، ثم العودة للمنزل سريعًا قبل أن تعود والدته من العمل لرفضها القاطع خروجه وهو مصاب ولإحساسها بأن هناك مكروهًا يتربص له في طريقه، ولكن باغته القدر واندفعت سيارة مسرعة لتصطدم بشكل عشوائي في "التوكتوك" الذي يقله هو ورفاقه، نجا السائق وزملاؤه وكان هو الفقيد الوحيد الذي وافته المنية في ساعات معدودة، فقد اخترقت اسياخ الحديد في صدره وغرق الرصيف بدماؤه الذكية ونقلوه إلى المستشفى سريعًا، وبمجرد علمي بالحادث اندفعت مسرعة إلى هناك فرأيت دمًا يملأ الرصيف في طريقي للمشفى، فقلت لهم " أنا شميت ريحة دم محمد على الطريق" وبمجرد رؤيتي له في المشفي فقد فارقت روحه الحياة دون إنذار، أما عن الأيام المعدودة قبل وفاته، فتقول والدته أنه قام بحلق شعره "زيرو" فتعجبت قائلة " ده شعرك أغلى حاجة عندك حلقته إزاي"، ليرد بتلعثم شديد لم يعهدوه وأنه ظل لأيام يواجه ثقل في الكلام و"تهتهة" وصعوبة في النطق، وقام بتوديع أخواته البنات الأربعة في ذلك اليوم ثم ذهب إلى قضائه المحتوم.
وقالت "أم شيماء"، أن الله قد أمدها بالقوة والصبر لأنها وجدت نفسها في غضون أقل من عام مسؤولة مسئولية كاملة عن رعاية أربعة بنات كانت أكبرهم في المرحلة الثانوية، وأصغرهم لم تكمل مرحلتها الإبتدائية بعد، وأنها تعمل في أحد المراكز الطبية منذ ما يقارب من 12 عامًا، وقد استجمعت قوتها بصبر وعزم وإرادة من الله لسد احتياجات الأسرة التي أصبحت بلا أب ولا أخ في بضعة أشهر، قائلة "لم أحظى بنصيب كبير في التعليم، فكان هدفي الأكبر هو تعليم أبنائي ودخولهم الجامعة والتحاقهم بوظائف"، كان الحمل ثقيلًا على والدهم فعملت في تجارة الملابس والسلع وقمت بافتتاح أكثر من مشروع تجاري داخل المنزل للمساهمة في احتياجات وضروريات أبنائي الخمسة التي لا تتوقف، وقد زاد الحِمل كثيرًا بعد وفاة والدهم، فساهمت شيماء الإبنة الكبرى التي تعمل مدرسة إنجليزي بعض الشئ في مصاريف البيت قبل أن تتزوج، وكذلك آية التي تعمل في مجال التمريض وقامت بتجهيز نفسها من أساسيات عدة قبل زواجها منذ سنتين، أما تقى ورقية لم يكملوا دراستهم بعد ولكنهم يسعون بجهد وإخلاص لإدخال السرور على قلب والدتهم، مضيفة أن شباب قريتها يستمرون في السؤال عنها وزيارة قبر نجلها ووضع الورود أمامه، قائلة" بشوف محمد فيهم وفي محمد ابن شيماء بنتي"، مشيرة إلى أن حفيدها الأكبر شديد الشبه بنجلها الوحيد وأنها تحبه وترعاه وقد تمسكت بالحياة بعد قدومه، داعية الله أن يلهم بناتها الصبر والسلوان في فقدان سندهم الوحيد بعد الله، وأن يزيل الله العقبات من طريقهم ويحققن نجاحًا أسريًا واجتماعيًا وعلميًا طيلة حياتهن الباقية.