تحاول روسيا استغلال عملية طوفان الأقصى التي شنتها حركات المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ لخلق رواية لصالح موسكو في العالم العربي، والتي روجت من خلالها لإهمال الولايات المتحدة الأمريكية للحقوق التاريخية المشروعة للشعب الفلسطيني، الأمر الذي عزز شرعية روسيا ووجودها في العالمين العربي والإسلامي.
وفي هذا السياق، فإن هذه العملية ألقت بظلالها على التحولات الكبيرة التي تمر بها العلاقات الروسية الصهيونية، ولاسيما أن جاءت بعد أسابيع قليلة من توقيع الطرفين لاتفاقية تعاون كبيرة في سبتمبر الفائت، وكان هذا الاتفاق، الذي قوبل باعتراض رسمي من الخارجية الأمريكية، تأكيدًا من تل أبيب على عدم تأثير الحرب الأوكرانية على جهودها الرامية إلى تعزيز علاقاتها مع موسكو، وسببًا لتجاهل الضغوط الأمريكية، الهادفة لعزل روسيا على المستوى الدولي.
وما يعضد ذلك هو الموقف الإسرائيلي الرافض لتسليم واشنطن وحلفائها في الغرب أنظمة دفاع صاروخية لأوكرانيا، بل ورفض مساعدة كييف عسكريا حتى لا تتأثر علاقتها مع موسكو، ولكن، فإن ذلك كان بمثابة ورقة ضغط لدى تل أبيب كانت تلوح بها وقت الحاجة في مواجهة روسيا.
نقطة تحول جديدة
بعد ١٠ أيام من هجوم المقاومة الفلسطينية المفاجئ على مستوطنات قطاع غزة في ٧ أكتوبر٢٠٢٣، تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هاتفيًا مع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وأعرب عن تعازيه في مقتل عدد من ضحايا الهجوم، لكنها خطوة جاءت متأخرة بعض الشيء من وجهة نظر تل أبيب بالمقارنة مع الدعم الكبير الذي تلقته تل أبيب من زعماء الدول الغربية الذين أعلنوا تضامنهم مع إسرائيل على الفور.
وفي هذه المحادثة، أعلن بوتين استعداده للمشاركة في الحل السلمي لهذه الأزمة، في حين أعربت معظم الدول الغربية عن دعمها الكامل للهجوم على غزة، لكن بعد المكالمة، اتخذت روسيا خطوات أثارت غضب الكيان الصهيوني، بما في ذلك استخدام حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة وإدانة حماس.
ومن ناحية أخرى، قدمت موسكو مشروع قرار بديل يطالب بوقف فوري ودائم للحرب في غزة، وقال مندوب روسيا في الأمم المتحدة في ذلك: "إننا سمعنا ادعاءات حول وجود قواعد لحماس في المستشفيات والمساجد، ولكن حتى الآن لم نر أي وثائق في هذا الصدد".
وكان الإجراء الذي أثار غضب الكيان الصهيوني أكثر هو استضافة وزارة الخارجية الروسية لوفد من حركة حماس برئاسة أحد قادة الحركة موسى أبومرزوق، وهو ما أدانه الكيان. وفي هذا الصدد، اتهم مندوب الصهاينة في الأمم المتحدة جلعاد إردان، موسكو باستغلال هجوم حماس للتغطية على عملياتها المكثفة في أوكرانيا، وقال إن روسيا هي آخر دولة يمكنها تلقين إسرائيل درسًا أخلاقيًا.
وعليه، طالب البعض في إسرائيل بتغيير السياسة تجاه موسكو وشددوا على ضرورة توحيد المواقف في الغرب بشأن تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا، لكن إسرائيل تدرك جيدًا أن هذه الأسلحة المتقدمة من الممكن أن تقع في أيدى روسيا، والتي يمكن أن تتشاركها مع إيران التي يمكن أن تستغلها لتهديد الطائرات المقاتلة الصهيونية بشأن التحليق في الأجواء السورية.
بدء التوتر بين موسكو وتل أبيب
ظهر التوتر بين روسيا وإسرائيل مع بدء الحرب في أوكرانيا ومع تعميق العلاقات الإيرانية الروسية والتي اتضحت في تعزيز التعاون الوثيق فيما بينهما في مواجهة العقوبات التي فرضها الغرب وإرسال طائرات بدون طيار من طهران إلى روسيا. واتضحت هذه البوادر في عهد الحكومة الإسرائيلية السابقة، عندما قال وزير الخارجية آنذاك يائير لابيد في أبريل ٢٠٢٢ إن روسيا ارتكبت جرائم حرب في أوكرانيا.
وهو ما وصفت الخارجية الروسية في بيان مفصل حينها تلك التصريحات بأنها غير مقبولة، مؤكدة على أن إسرائيل تحاول صرف الانتباه عن الوضع في أوكرانيا إلى معاناة أكثر من ٢.٥ مليون فلسطيني في الضفة الغربية ومعاناة المواطنين في غزة. وفي الشهر التالي، دعت موسكو وفدًا من حماس برئاسة موسى أبو مرزوق، ثم استضافت رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية، ثم قامت وزارة العدل الروسية بتعليق أنشطة المنظمة اليهودية في القدس بموسكو، والتي تم تصفية أعمالها فيما بعد.
استغلال موسكو للحرب في غزة
ومع بدء الحرب الأخيرة على غزة حققت موسكو إنجازات كان أبرزها صرف الانتباه عن الحرب في أوكرانيا وانخراط الولايات المتحدة الأمريكية في جبهة جديدة، ما أدى إلى تقليص إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا. كما حاولت موسكو تسليط الضوء على زيف الادعاءات الغربية حول حقوق الإنسان والعدل العالمية وشرعية المؤسسات الدولية، فضلًا عن النزاهة والشفافية التي تتمتع بها القوى الغربية. وبالتوازي مع ذلك، تحاول روسيا إظهار حرب غزة كسبب لفشل السياسات الغربية في الشرق الأوسط، الأمر الذى يكشف عن ضرورة السعي نحو نظام عالمي جديد يتسم بالتعددية القطبية لإصلاح ما فشلت به الأحادية الأمريكية، وإظهار نفسها كوسيط وباحث عن السلام لإصلاح ما أفسدته الهيمنة الأمريكية على العالم، التي لديها الاستعداد الكامل لتعزيز شن الحروب لمساعدة حلفائها.
وفي هذا السياق، شددت روسيا على أنها لا تعتبر حماس منظمة إرهابية، والشاهد على ذلك، أنها استضافت وفدا منها بعد عملية طوفان الأقصى، وبالتالي، يمكن القول إن روسيا تستخدم الحرب في غزة لتعزيز مكانتها الدولية واستغلال تداعياتها للتنديد بالجرائم الغربية في حق الإنسانية وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط.
في النهاية، يمكن القول إنه تجمع روسيا والكيان الصهيوني علاقات جيدة؛ حيث كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أول رئيس روسي يزور الكيان المحتل في عام ٢٠٠٥ ثم في عام ٢٠١٢، وخلال العقود الثلاثة الماضية، كانت لروسيا والكيان الصهيوني مصالح مشتركة، وأعربتا عن قلقهما إزاء ما سمي بثورات "الربيع العربي". ولم تكن إسرائيل مستاءة من التدخل العسكري الروسي في سوريا عام ٢٠١٥، لأنها رأت فيه عقبة أمام توسع حزب الله اللبناني وقوات الحرس الثوري الإيراني في جنوب سوريا بالقرب من الجولان المحتلة.
وتطلبت هذه الاعتبارات تعزيز العلاقات العسكرية والدبلوماسية بين إسرائيل وروسيا من أجل منع نشوء صراع فيما بينهما في سوريا والتنسيق بشأن الهجمات على أهداف سورية وإيرانية في سوريا، وأيضًا كانت تل أبيب تأمل من علاقاتها المتقدمة مع روسيا في أن تقف هذه الأخيرة كحجر عثرة أمام التوسع الإيراني في سوريا. وبالتالي، يمكن القول أن التوتر سيكون العنوان الذى سيخيم على العلاقات بين موسكو وتل أبيب خلال الفترة القادمة، ولكن ستجبر المصالح المشتركة كلا الطرفين على خفض حدة التصعيد والحفاظ على الحد الأدنى من التنسيق.