علمتنا التجارب أن كل شئ مهما بدا فى نظرنا سخيفًا قد يكون صحيحًا فى يوم من الأيام. فعندما تتبدل المقاييس الفكرية التى اعتدنا عليها فى تفكيرنا؛ قد يصبح معقولاً غدًا ما كنا نقول عنه اليوم أنه غير معقول.
لقد اعتاد الإنسان على رؤية الأرض مسطحة وثابتة فى مكانها، ثم رأى الشمس تخرج من الشرق وتختفى من الغرب، فاعتقد أن هذا أمر بديهى لا يجوز الشك فيه، ولما جاء كوبرنيقوس Nicolaus Copernicus وأصدر كتابه المسمى «عن دوران الأجرام السماوية» والذى نُشِرَ بعد وفاته (1473 - 1543)، والذى قال فيه بأن الأرض هى التى تدور حول الشمس. أحدث صدور هذا الكتاب نقطة تحول فارقة فى تاريخ العالَم والعلم، لأن معرفتنا وتفكيرنا قد تأثر تأثرًا عميقًا بالكشف العلمى الذى حققه «كوبرنيقوس»، فالقول بأن الأرض لا تحتل مركز العالَم ليس مجرد حقيقة فلكية، وإنما هو تأكيد بأن الإنسان لم يعد هو مركز الكون، وأن كل ما يبدو لنا عظيمًا وهائلاً هو فى الواقع أقل أهمية عندما يقاس بمعايير الكون.
ولنأخذ مثالاً واحدًا من هذه «البديهيات» التى حطمتها نظريات العلم الحديث؛ وهو مفهوم «الزمان». فالناس اعتادوا على التفكير فى مفهوم الزمان على أساس الثوانى والدقائق التى تمر بهم. وإذا سألتهم متى بدأ الزمان ومتى ينتهي؟ وهل بدأ الزمان من نقطة لم يكن قبلها زمان؟ وهل ينتهى الزمان فى مساره إلى أن يصل إلى لحظة ليس بعدها زمان؟ فلن تحصل منهم على إجابة، وسوف يلوذون بالصمت وهم يمطون شفاههم خشية أن تذهب بهم مثل هذه الأسئلة إلى مستشفى المجانين. (د. على الوردي، مهزلة العقل البشري، ص 136)
جاء أينشتين أخيرًا؛ وقال: إن «الزمان» لا يمثل مشكلة، إنما المشكلة كامنة فى عقول الناس الذين اعتادوا على النظر إلى الزمان بوصفه مجموعة اللحظات التى تمر بهم، وصار هذا التصور عندهم عن الزمان من البديهيات التى ينبغى التسليم بها.
ولو أمعنا النظر لوجدنا أن مشكلة «المكان» تشبه مشكلة «الزمان» إلى حد كبير. فالمكان؛ أو هذا الفضاء الذى تسبح فيه الأجرام السماوية، أين يبدأ؟ وأين ينتهي؟ وهل هناك فى الكون نقطة معينة ينتهى عندها المكان بحيث لا يكون مكان بعده؟
يقول أينشتين إن هذه المشكلة من صنع عقولنا نحن، ونتيجة من نتائج عادتنا الفكرية؛ ففى رأيه أن الكون محدب، وهو يحتوى على أبعاد أربعة لا ثلاثة، فبجانب الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والارتفاع، هناك بعد رابع هو «الزمان». والفضاء الكونى ينحنى نحو البعد الرابع الذى هو الزمان. لقد قام أينشتين بحل مشكلتى الزمان والمكان بضربة واحدة، وصار الزمان والمكان شيئًا واحدًا فى نظره هو «الزمكان». ولقد تحقق العلماء من صحة ما ورد على لسان أينشتين. وقد حدث عام 1922 كسوف الشمس كسوفًا كليًا، فذهب الفلكيون إلى أستراليا؛ حيث كان الكسوف هناك تامًا وواضحًا. وأخذوا يرصدون النجوم بآلاتهم الدقيقة. وقد دهشوا حين وجدوا النجوم الواقعة وراء الشمس تظهر عندهم فى أجهزة الرصد؛ ومعنى هذا أن الشعاع الصادر من تلك النجوم لابد قد انحنى حول الشمس ووصل إليهم. ولما قاموا بقياس درجة انحناء الشعاع اكتشفوا إنها مطابقة لدرجة انحناء الفضاء كما تنبأ أينشتين تمامًا. (المرجع السابق، ص 138)
فتحت نظرية أينشتين فى مفهوم الزمان والمكان؛ أو مفهوم «الزمكان» - كما يسميه أينشتين - بابًا للخروج من عتمة الفكر القديم الذى مازال سائدًا فى مجتمعاتنا العربية الإسلامية. فالزمان هو بُعد رابع فى الفضاء يشبه أبعاد الطول والعرض والارتفاع، ومعنى هذا أنه ليس مجموعة من الثوانى والدقائق التى تمر بنا؛ إنه بالأحرى خط ممتد بين أيدينا كخط الطول مثلاً؛ ونحن الذين نمر عليه خطوة بعد خطوة. وهو إذن لا يمر بنا وإنما نحن الذين نمر به. ويمكننا تشبيه الإنسان بالنسبة للزمان كراكب الدراجة الذى ينظر إلى الأرض فيراها تتحرك تحته مسرعةً، كأنها تمر به والواقع هو الذى يمر عليها وهى واقفة. فالزمان بماضيه وحاضره ومستقبله، خط ممتد فى الكون وهو واقف فى مكانه لا يأتى ولا يذهب. (المرجع السابق، ص ص 139 - 140)
الأفكار والمعتقدات التى كانت تسكن العقول فى عصر «بطليموس»، والتى كانت تقول بأن الأرض هى مركز الكون، تلك الأفكار والمعتقدات مازالت هى ذاتها التى يروج لها اليوم بعض الدعاة وتجار الدين، أولئك الذين ما برحوا يروجون بين المسلمين تلك التصورات العلمية التى عفا عليها الزمن، والتى كانت سائدة فى عصر ما قبل النهضة العلمية منذ مئات السنين. أمثال هؤلاء الدعاة لن يقبلوا عن تخلف المسلمين بديلاً!! رغم أننا نعيش فى القرن الحادى والعشرين، فإن بعض الدعاة قد نجح فى تشكيل تصور بعض الناس عن العالَم، بحيث أتى هذا التصور متطابقًا مع تصور عصور التخلف العلمي، التى نظرت إلى الأرض بوصفها مركز الكون.
*أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس