بصدور كتاب "آليات اشتغال التراث في المدونة الروائية العربية" للناقدة والباحثة الأكاديمية الدكتورة هويدا صالح عن معهد الشارقة للتراث، بثت القراءات النقدية التي قدمت على متنه صورة واضحة للمشهد الروائي الحديث.
وجاء فهرس الكتاب على النحو التالي:
1ـ المقدمة
2ـ التمهيد
أ ـ مفهوم التناص
ب ـ أنواع التناص ومستوياته
جـ ـ دور القارئ في البحث عن النصوص الغائبة
3ـ الفصل الأول: التعالق النصي بين الخطاب الروائي والخطاب الصوفي
أـ آليات اشتغال الخطاب الصوفي على الطرائق السردية واللغة
ب ـ اشتغال الزمن الصوفي في الفضاء الروائي
جـ ـ أثر الصوفية على تكوين الشخصية الروائية
4ـ الفصل الثاني: حوار النصوص الدينية في الرواية
أـ المرجعيات الدينية وتفاعلاتها النصية
1ـ القرآن الكريم والحديث الشريف كمرجعية تراثية في الرواية
2ـ قصص الأولين وسيرهم
3ـ نصوص التوراة والإنجيل وتوظيفها جمااليا
4ـ نصوص الأديان القديمة وتمثلاتها في السرد
ب ـ أنماط التراث الديني وتمثلاتها في رواية"ظل الأفعى"
ج ـ التفاعلات النصية في رواية"كتاب التجليات"
د ـ التناص مع القصص الدينية في رواية"مأساة واق الواق"
هـ ـ حوار النصوص الدينية في رواية "جبل الطير"
5 ـ الفصل الثالث: مزالق استرفاد التاريخ في الرواية العربية
أـ الفرق بين الخطاب التاريخي والخطاب الروائي
ب ـ لماذا يعود الروائي إلى التاريخ ليسترفده؟
جـ ـ مزالق توظيف التاريخ في الرواية
دـ مراحل تطور الرواية التاريخية العربية
هـ التمثلات الجمالية في سردية التاريخ
وـ جدل المتخيل التاريخي في رواية"حوبه ورحلة البحث عن المهدي المنتظر"
ي ـ المحاكاة الساخرة والمسكوت عنه في "ملاك الفرصة الأخيرة"
6ـ الفصل الرابع: التفاعلات النصية بين التراث الشفهي والرواية
أ ـ مفهوم التراث الشفهي
ب ـ التراث الشفهي بين الرفض والقبول
جـ آليات اشتغال التراث الشفهي في الرواية
دـ بنية الحكاية الشعبية في الرواية.."رمل الماية" أنموذجا
هـ تشكيل الشخصيات التراثية في الرواية
1ـ تحويل الشخصية التراثية إلى شخصية روائية
2ـ الشخصية التراثية نص غائب في الرواية
3ـ لغة النصوص التراثية في الرواية
4ـ الاحتفاء بالنص الرحلي في الرواية
7ـ الفصل الخامس: جماليات اللغة المحكية
1ـ تاريخ استخدام اللغات المحكية
2ـ الشفاهية في السرد الروائي
3ـ ما بعد الحداثة والانتصار للهامش
4ـ مسيرة العامية المصرية وتجلياتها في الرواية
أـ السردية المضادة في رواية"من حلاوة الروح"
ب ـ "بازل" الانتصار للهامش
8ـ الخاتمة
وجاءت المقدمة على هذا النحو:ــ
إن الرواية في سعيها إلى الانفتاح على الحقول المعرفية المتعددة تسترفد التراث بشتى تجلياته وأنواعه، وتتخذه نصا غائبا، تقيم معه جدلا فكريا، وربما يعود ذلك إلى ما أحدثته العولمة من هزة في الهوية الثقافية للكاتب العربي؛ مما دفعه إلى أن يعيد التفكير في البِنَى الفكرية والسوسيوثقافية التي تجعله يقاوم ذوبان الهوية الثقافية العربية، في خصوصيتها، في طوفان الثقافة العولمية التي لا تعترف بحدود وجغرافيا وأنساق ثقافية وهويات قومية.
وقد كان للمبدع العربي من العودة إلى التراث موقفين متناقضين: الأول رأى العودة إلى التراث وسيلة من وسائل الدفاع عن الهوية، فوقع في فخ تقديس التراث وعبادته، أما الشكل الثاني فقد ذهب إلى ثقافة أخرى مفارقة للتراث يستلهمونها، ويسترفدون عناصرها الثقافية.
وقد واجه المبدع الذي يرغب في العودة إلى التراث إشكالية فكرية، فالتيار الأول الذي قدّس أصحابه التراث ووقع في أتون الفكر الماضوي رأى في التراث مهربا سيكولوجيا وسوسيوثقافيا من مشكلات الحاضر والمستقبل، وما قوى إحساسه بذلك الفكر الإمبريالي الاستعماري الغربي الذي استعمر البلدان العربية لفترات طويلة وعمل على تذويب هويتها الثقافية.
أما أصحاب التيار الآخر، فقد وقفوا على النقيض من هذه الرؤية للتراث، حيث رأوا أن الحداثة ومسايرة معطياتها تدفعهم إلى الابتعاد عن التراث؛ والسعي حثيثا نحو الغرب ومعطياته الثقافية يستلهمونها، ويرون أن ذلك مسايرة للتطور والتقدم ورفضا لما يمثله التراث من راديكالية.
وينطلق أصحاب الموقفين، المتحمس للتراث والرافض له من وعي مغلوط بأن التراث مضاد للحداثة، وتتحفظ الباحثة على هذا التصور، فتراث كل أمة لا يعني أنه مضاد للحداثة. كما أن إفادة الروائي من هذا التراث يفترض بها أن تنزع القداسة عن ذلك التراث وأن تنظر إليه باعتباره نتاج الوعي البشري في التاريخ والمجتمع(1).
ومن ثم يجب التأصيل لوعي بالتراث يفيد من العناصر الحية فيه، ويدرس علاقته التاريخية بقضايا الماضي في ضوء القضايا والمشكلات والأسئلة التي يطرحها الحاضر (2).
إن الإفادة من التراث وتوظيفه في الفضاء الروائي ليس انتصارا للذات القومية وتأكيد على الهوية الثقافية فحسب، بل للبحث عن مشتركات ثقافية بين الماضي الغابر الذي يمثله هذا التراث والحاضر الآني الذي يعيشه المبدع في لحظات إبداعه الروائي، ومن ثم الوصول إلى مستقبل أكثر سواء لا يضع الإنسان العربي في صراع هوياتي يشتت انتباهه ويمنعه من أن يعيش راهنه، ومن ثم يعطله عن أن يتطلع لمستقبله.
إذن يجب دراسة التراث بأدوات معرفية معاصرة تفيد من المناهج الحداثية، وتتمكن قراءة التفاعلات النصية التي يحدثها هذا التراث في النص الروائي الماثل، كما تتمكن من قراءة التراث مع مراعاة الأنساق الثقافية التي أنتجته.
ومن ثم لا يجب أن نرى التراث مضادا للحداثة، وأن الحداثة لا تقف حائلا بين الإفادة منه واسترفاده وتوظيفه دون أن نقع في غواية النص وتقديسه.
والروائي العربي في ظل أفكار العولمة وما بعد الحداثة حاول أن يقيم روابط وأواصر بين الماضي والحاضر بأن يبحث في فضائه الروائي عن عناصر التراث المختلفة؛ ليقيم بها جدلا فكريا ومعرفيا ودراميا في نصه الماثل، ويسترفد التاريخ الرسمي والاجتماعي والتراث الشعبي والديني والصوفي لتنهض تفاعلات نصية قادرة على تقديم معرفة بالذات القومية وصولا إلى سؤال الوجود الذي يمكن أن تقدمه الرواية.
والتفاعلات النصية التي تنتهجها بعض الأعمال الروائية العربية تضع المتلقي أمام تقاطعات دينامية بين خطابي التاريخ والمعرفة. فالرواية الحداثية والمعاصرة حايثت سؤال الوعي لدى الإنسانية، في تعالقها بالماضي والتراث، بالحاضر والواقع، بالمستقبل والأفق. لكن استصدار هذه التقاطعات يستلزم وعيا روائيا يتمثل جيدا خلفيات الارتكان إلى المعرفة بوصفها مادة تتخلل الفضاء السردي مع المتخيل الروائي لتصل إلى الإجابة عن السؤال المعرفي والسؤال الجمالي في آن واحد.
والتراث يشمل: التاريخ الرسمي وما كتبته الجماعة الشعبية عن نفسها في فترة زمنية ما وتاريخها الاجتماعي، والتراث الشعبي غير المادي الذي أنتجته هذه الجماعة من عادات وتقاليد وأمثال وحكايات وسرديات تميز هويتها الثقافية، كذلك التراث الديني والصوفي الذي يمثل جزءا هاما من وعي الجماعة الشعبية بذاتها.
السرد الجديد والاشتغال التراثي في الرواية
لقد اتجه السرد الجديد الذي ينهض على التجريب إلى مفارقة المعيارية الجمالية. فيرفض السرد الجديد وجود ماهية مسبقة وقارة لجنس الرواية. وصارت الرواية تطمح إلى تذويب الحدود بين الأجناس الأدبية وغيرها وبين الخطابات المعرفية المختلفة؛ وهو ما وسع دائرة المرجعية التي هي منطلق التخييل، مما مكن الروائي من إعادة التوظيف الإبداعي للموروث السردي لعناصر التراث، سواء الصوفي، أو الديني، أو التاريخي،أو الشعبي ؛ سعيا إلى الانتصار لما هو منسي ومقصي من الذاكرة الجمعية.
وقد عرِّف سعيد يقطين التجريب بأنه "إفراط في التجاوز"(3 )
وهذا يعني أن النصوص التي تنهض على التجريب تسعى إلى تجاوز النماذج السائدة، من حيث الرؤيةُ، والقوالبُ الفنية، ومفارقة لما استقر في الذهن من جماليات الفن وطرائقه الكلاسية، ولا يقتصر هذا التجاوز وهذا المفارقة على مستوى اللغة وطرائق السرد، إنما يتعدى ذلك الفضاء الاستعاري الذي يمكن أن يسترفد عناصر التراث ويشتغل عليها.
والتجريب الروائي وعي جمالي حداثي بالكتابة، يشتغل على كل بنيات الحكي: السرد والوصف والفضاء الروائي والزمن والشخصيات، فما تحويه البنية السردية للرواية التجريبية، يطرح أسئلة جوهرية تفتقر إليها الكتابة التقليدية وموقفها الممتد بجذوره إلى ممارسة الإنسان للكتابة بشكل بسيط جدا(4 ).
والتجريب يسعى إلى إنتاج خطاب يمتح من التراث في طريقه لكشف الواقع عبر التخييل حتى لا يتحول النص الروائي إلى مجرد نص تراثي، فالتخييل شرط رئيس في وسم النص الروائي؛ فلا يتحول النص الروائي إلى مجرد نص يعتمد على التراث دون مساحات من التخييل؛ مما يحدث جدلا بين الإحالي (تجليات التراث) والتخييلي. كذلك يؤسس التجريب لخصوصية النص الروائي وتفرُّده، بـ " تجديد العوالم الروائية..فهو يقف ضد التقليد ويرفض التنميط والنمذجة والتحقيب"(5 ).
وكما أشرنا تنفتح الرواية بالضرورة على العديد من الحقول المعرفية، فالرواية لم تعد حكايات تروى، إنما هي نص متعدد الطبقات بما يحويه من خطابات ترتحل إلى الفضاء التخييلي من روافد عدة، أهمها لروافد التراثية ( التراث الصوفي ـ التراث الديني ـ التاريخي ـ التراث الشفهي )؛ لذا تحضر هذه الروافد التراثية كنصوص غائبة تقيم جدلا فكريا وجماليا مع النص الماثل؛ مما يثري الفضاء الروائي.
ويهدف الروائي،وهو يقيم جدلا فكريا بين النص التراثي الغائب والنص الماثل، إلى مساءلة التراث، ومحاولة سد ثغراته المفترضة؛ سعيا إلى الكشف عن الأنساق الثقافية التي أنتجت هذا التراث. وربما يعود ذلك إلى ما أشارت إليه الباحثة من آثار العولمة ومنتوجاتها الثقافية التي أحدثت هزة في الهوية الثقافية للكاتب العربي مما دفعه إلى أن يعيد التفكير في البنى الفكرية والسوسيوثقافية التي تكوّن وجدانه الجمعي.
ويتضمن الكتاب تمهيدا وخمس محاور تشمل عناصر التراث المختلفة، فيأتي التمهيد، يأتي التمهيد ليستجلي مفاهيم: التناص ومستوياته، والنصوص الغائبة والتفاعلات النصية التي هي وسائل الروائي لاستلهام هذا التراث، كما تستجلي الباحثة في التمهيد ما بعد الحداثة دور القارئ في البحث عن النصوص الغائبة.
أما الفصل الأول فيدور حول التراث الصوفي الذي يمثل أحد أهم عناصر التراث التي يذهب إليها الروائي؛ ليرفد متخيله السردي، لانشغاله بإثراء نصه بعناصر التراث القومي من ناحية ومن ناحية أخرى لأن التجربة الصوفية لها خصوصية فلسفية في الإجابة على أحد أهم أسئلة الوجود إلحاحا على الإنسان وهي علاقة الإنسان بالماوراء ومدى قدرته على فهم هذا العالم الغامض؛ لذا تمثل التجربة الصوفية حين ذاك فلسفة ورؤية للعالم لها خصوصية وخطاب مختلف ومغاير.
وتكشف الباحثة التعالق النصي بين الرواية والتجربة الصوفية، حيث توجد مساحة من الوعي بالطاقة الروحية الكامنة في تلك التجربة، وكأن الروائي يحاول من خلالها أن يقاوم القلق الوجودي الذي ينتاب إنسان هذا العصر، فيصبح النص الصوفي وسيلة مقاومة يتخذها الروائي ليفتح لذاته طاقات الضوء الكامنة ولتكون معبرا للخروج من الأزمات النفسية التي يمر بها إنسان هذا العصر؛لذا يلجأ الروائي إلى الاغتراف من الخطاب الصوفي، ويذهب إلى عالم الصوفية المتفرد والغامض، ويجعله محور متخيله السردي.
كما تكشف الباحثة عن آليات اشتغال الخطاب الصوفي على الطرائق السردية واللغة، كما تكشف عن اشتغال الزمن الصوفي في الفضاء الروائي، وأثر الصوفية على تكوين الشخصية الروائية، وتقرأ آليات اشتغال التراث الصوفي في عدة روايات منها: "كتاب التجليات" لجمال الغيطاني، ورواية"كيميا" لوليد علاء الدين، ورواية" وجدتك في هذا الأرخبيل" لمحمد السرغيني، ورواية"الحجاب" لحسن نجمي، ورواية"جبل الطير" لعمار علي حسن، ورواية" مجنون الحكم" لبنسالم حميش، ورواية "جنوب الروح" لمحمد الأشعري.
أما الفصل الثاني فتعالج فيه الباحثة موضوعة"التراث الديني" حيث ترى الباحثة أن التراث الديني جزء أصيل من تراث الأمم، فكل تعريفات التراث تصفه بأنه يعبر عن ثقافة الشعوب، الثقافة بمعناها الواسع التي تشمل التاريخ الرسمي والتاريخ الاجتماعي للأمة،والعادات والتقاليد، والهويات الاجتماعية والهويات الدينية والممارسات اليومية وطرق المأكل والمشرب والملبس؛ لذا حينما نتحدث عن التراث فإننا نقصد ضمنيا التراث الديني وما يتضمن من ثقافة دينية بمعتقداتها وطقوسها وشعائرها ومناسكها وأيديولوجياتها الفكرية، فليس غريبا أن يكون التراث الديني تعبيرا صادقا عن أثر التوجيه العقائدي الأصيل والرئيسي لنهضة الفكرة الحضارية الإنسانية بصفة عامة، فضلا عن دوره الكبير المؤثر في قيام الحضارات الحديثة.
كما تكشف الباحثة عن المرجعيات الدينية وتفاعلاتها النصية، سواء كانت مرجعيات من الثقافة الإسلامية(القرآن ـ الحديث ـ السير الدينية ) أو مرجعيات العهد القديم والجديد(التوراة والإنجيل) أو مرجعيات الأديان القديمة للشعوب( الدين المصري القديم ـ الترانيم السومرية).
وتقرأ فيه الباحثة عددا من الرواية، تكشف فيها عن آليات اشتغال التراث الديني في الرواية، وهذه الروايات هي: "ظل الأفعى" ليوسف زيدان، و"كتاب التجليات" لجمال الغيطاني، و"مأساة واق الواق" لمحمد محمود الزبيري، و"جبل الطير" لعمار علي حسن.
أما الفصل الثالث، فتقوم الباحثة فيه بقراءة العلاقة بين الرواية والتاريخ، والفرق بين الخطاب الروائي والخطاب التاريخي، وترى أن الخطاب التاريخي خطاب يفترض فيه أن يكون خطابا نفعيا له وظيفة مرجعية في نقل الأحداث وفق تتابعها بأمانة تامة،و لهذا يتوقع من المؤرخ أن يلتزم الصدق في سرد الأحداث، فتأتي حقيقية وشفافة، في حين الخطاب الروائي ينبني على التخييل مع الإفادة من المرجعية الواقعية من ناحية والمرجعية التاريخية من ناحية ثانية، أي أن الرواية لم تتخل نهائيا عن الوظيفة المرجعية عندما قدمت عليها الوظيفة الجمالية.
والتماهي بين النص التاريخي والنص الروائي سمة جمالية تميز السرد الجديد، فالرواية الجديدة حين تقوم بتوظيف خطاب التاريخ إنما تجعله تكأة جمالية وفنية ليصبح بمثابة المعبر الذي تقدم من خلاله خطابها الروائي، فلا يكون التاريخ مقصودا لذاته، إنما هو تقنية فنية وله وظيفة جمالية.
وتطرح الباحثة سؤالا جوهريا عن لماذا يعود الروائي إلى التاريخ ليسترفده؟ وعن مزالق توظيف التاريخ في الرواية، وتلح على طرح جملة من الأسئلة تراها تكشف عن تلك المزالق، مثل: هل يحاسب الناقد الروائي على التخييل الذي يحكم النص الروائي؟ أم يطالبه بحقائق التاريخ الكبرى دونما تغيير أو تزييف؟ ألا يجدر بالناقد ومن ورائه القارئ أن يدرك ضرورة استيعاب الرواية التاريخية التي تقوم على بطل روائي غير حقيقي، وأنه،أي الروائي، تحكمه الحبكة الفنيّة المتخيّلة على خلفية صيرورة الأحداث التاريخية الحقيقية؟.
ثم تكشف عن التمثلات الجمالية للمدونة الروائية العربية للتاريخ، وفيه تقرأ عددا من الروايات التي اشتغلت على البنية التاريخية تسترفدهامثل:"دروز بلجراد" لربيع جابر، و"حوبه ورحلة البحث عن المهدي المنتظر" لعز الدين جلاوجي، و"ملاك الفرصة الأخيرة" لسعيد نوح.
أما الفصل الرابع، فيدور حول التفاعلات النصية بين التراث الشفهي والرواية، وكيف يمثل التراث الشفهي لشعب من الشعوب رافدا مهما من الروافد التي يمتح منها الروائي، ويستلهمها في تشكيل فضائه السردي، حيث يعبر هذا التاريخ الشفهي عن التاريخ الجمعي للشعوب. كما تشمل دراسة التراث والتاريخ الشفهي دراسة تاريخ البسطاء من عامة الناس في سياق ثقافتهم الشعبية التي لا تنفصل عن النمط الثقافي العام، كما تنسحب على دراسة المجتمعات الفطرية التي لا تعرف الكتابة وأيضًا مجموعات الأقليات العرقية أو الدينية.
كما تكشف عن موقف الباحثين من التراث الشفهي، وآليات اشتغال التراث الشفهي في الرواية، وتشكيل الشخصيات التراثية في الرواية، وتحويل الشخصية التراثية إلى شخصية روائية، كما تكشف الباحثة عن اللغة التراثية..لغة النصوص التراثية في الرواية، والاحتفاء بالنص الرحلي في الرواية.
وتقرأ الباحثة عدد من الروايات تشتغل على التراث الشفهي منها:"رملالماية" لواسيني الأعرج، و"حوبه ورحلة البحث عن المهدي المنتظر" لعز الدين جلاوجي، و"ملاك الفرصة الأخيرة" لسعيد نوح، "تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الجنوب" لمجيد طوبيا، و"تغريبة أحمد الحجري" لعبد الواحد براهم.
وأخيرا يأتي الخامس ليقرأ جماليات اللغة المحكية في الرواية، وكيفية استخدام اللهجات المحكية في السرد؛ مما يثير الكثير من الأسئلة لعل أهمها "موضوعة" التناص مع لغة التراث الشعبي ولهجاته المحكية. وقضية اللهجات المحكية وعلاقتها بالهوية والخصوصية الثقافية. وعلاقة فكر ما بعد الحداثة باللهجات المحكية، والانتصار للهامش، وكيف تعد قضية اللغات المحكية ومستوياتها قضية فلسفية في فكر ما بعد الحداثة، حيث اعتنت ما بعد الحداثة منذ نشأتها في النصف الثاني من القرن الماضي إلى تفكيك المركز والاهتمام بالهامش والانحياز له على حساب هذا المركز الذي سيطر طويلا، فقد عُنيت بتجاوز المركزية في الثقافة ودعت إلى التشظي والتفكيك وإعطاء الأطراف دورا أكبر في الفضاء الثقافي. وقد دعا ميشيل فوكو إلى إعادة الاعتبار للهامش الذي تم إقصاؤه بعد هيمنة العقل على المتن وعدم إتاحة أية فرصة للهامش والأطراف، فقد آن الأوان ـ بحسب فوكو ـ لإعطاء حق الكلام لكل الذين حرموا منه طوال عمر الحداثة. ومسيرة العامية المصرية وتجلياتها في الرواية.
ثم تقرأ الباحثة السردية المضادة في رواية"من حلاوة الروح"، وتكشف عن الكرنفالية السردية فيها، كذلك تكشف عن سردية الهامش في رواية"بازل".
وتختتم الكتاب بخاتمة تعرض فيها أهم النتائج التي توصلت إليها بعد استجلاء آليات التراث في المدونة الروائية العربية.
الخاتمة:ــ
تتسم اللغة الروائية التي تتمثل الخطاب الصوفي بالإشراقات الشعرية؛ كي ما تحمل الرؤيا الصّوفية، كما تتميز رؤية العالم لدى الروائي الذي يتمثل التجربة الصوفية بالصفاء الروحي والرؤية المتسامحة مع جميع المخلوقات.
كما يعتمد الفعل الصوفي في الرواية على لغة الكشف والاكتشاف والغوص في المجهول والانخراط في عالم روحاني عجائبي، وكأنها رحلة معراجية سردية يعيشها السارد وبقية الشخصيات.
لكن قد يحدث أن يتماهى الروائي في لغة الكشف الصوفية حتى أننا لا نكاد نفرق بين حديث الشخصية الروائية، وحديث الأقطاب الصوفية، فهي معادلة شديدة التعقيد: أن نحافظ في النهاية على سمة التخييل الروائي دون أن نتماهى مع لغة التصوف.
يمثل سؤال الزمن في الرواية التي تتخذ من التجربة الصوفية معينا تمتح منه إشكالية جمالية، فالزمن في هذه الحالة يصبح زمنا أسطوريا نفسيا وليس واقعيا؛ لأن الروائي الحداثي يجد نفسه في مآزق وجودية وقلق وصراعات نفسية، فيصبح الرجوع للتراث الصوفي رؤية جمالية وثقافية يضفر بها نصه السردي.
لا يخضع الزمن الصوفي لعلائق الزمان والمكان (الكرونوتوب) بقدر ما يخضع لطبيعة التجربة الصوفية.
يشكل الدين رافدا تراثيا ثَرّا في الاشتغال النصوصي في الرواية،سواء كان من الأديان الإبراهيمية أو الأديان الوضعية القديمة.
وعى المبدعون المعاصرون أهمية ما هو ديني للتعبير عن رؤيتهم لفلسفة الوجود، كما استلهموا الشخصيات التراثية الدينية للتعبير عن رؤية العالم وإقامة جدل درامي من خلال توظيف هذه الشخصيات.
قد يتحاور نص ديني أو أكثر في الرواية من أجل إحداث جدل درامي فكري في الفضاء السردي.
السارد في الرواية التي تفيد من النصوص التاريخية هو مؤرخ من نوعٍ خاص يعتني بالثغرات والفجوات والهوامش المنسية والزوايا المعتمة التي تتجاهلها في الغالب الكتابات التاريخية التقليدية.
السارد في الرواية التي تعتمد على التاريخ، تستلهمه يقوم بمحاولة لملء وترميم الثغرات والفجوات التي يهملها التاريخي الرسمي، فالتاريخ يكتبه المنتصرون، فماذا عن المنهزمين، المهمشين؟ من يكتب سردياتهم؟ إنه الروائي الذي يبرز الهوامش المنسية، ويضيء المناطق المعتمة بواسطة الفن.
الرواية حينما تقوم بتوظيف خطاب التاريخ إنما تجعله تكأة جمالية وفنية ليصبح بمثابة المعبر الذي تقدم من خلاله خطابها الروائي، فلا يكون التاريخ مقصودا لذاته، إنما هو تقنية فنية وله وظيفة جمالية.
الروائي لا يكتب تاريخا، بل يوظف بعض أحداث التاريخ التي يرى أنها يمكن أن تكون عناصر فاعلة في نصه الروائي.
يهدف الروائي إعادة توظيف التاريخ عبر فضاء نصي لمتخيل سردي تتداخل فيه الأحداث والشخصيات التاريخية الواقعية مع المتخيلة، مع الوعي بأهمية تحليل الخطاب التاريخي ونقده.
إلحاح المدونة الروائية العربية على التعالق النصي بين التاريخ والمتخيل السردي يؤكد وعي الروائي بأن الحاضر، ومن ثم المستقبل هما ابنان شرعيان للماضي، ومن يجيد قراءة الماضي، ويساءله إنما يمكن له أن يصنع حاضرا ومستقبلا صالحا للعيش الإنساني فيه.
إن إفادة الروائي من التراث الشفهي، ونقله إلى نصه السردي؛ ينتصر لمعارف شفهية تعتبر منتجات ثقافية مركبة أنتجتها الجماعة الشعبية.
اشتغال آليات التراث الشفهي في الرواية يُمكِّن الروائي من أن يملأ الفراغات التي قد توجد في التاريخ المكتوب، وتمكنه من أن يجمع بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية.
الروائي يمكن له أن يحفر عميقا في التراث الشفهي الذي يمثل اللاوعي الجمعي لأمة من الأمم.
الروائي يمكن أن يقيم حوارا مع الذات الجمعية، لتبرز هوية هذه الذات عبر الحفر في المأثورات والتقاليد الشعبية والممارسات المجتمعية والطقوس الدينية والسير والحكايات والأساطير الشعبية.
الروائي يساءل النصوص الشعبية من أجل الحفاظ على صورة الذات القومية من ناحية، والبحث عن المشترك الإنساني في ميراثها والكشف عن المسكوت عنه في تاريخها وربما يسهم ذلك في التخلص من العناصر السلبية في الميراث الجمعي لهذه الذات إقامة لجسور تواصل بين هذه الذات وما هو مشترك إنساني مع الحاضر ومعطياته.
يتحول الروائي إلى محلل لخطاب التراث الشعبي، ويعمل على تفكيك شفراته وسد ثغراته المسكوت عنها.
تسهم الظروف السياسية والاجتماعية في تسييد لغة أو لهجة، فالطبقة الاجتماعية القوية تفرض لهجتها أو لغتها، بل وتسهم في إماتة لغة ما وإحياء أخرى.
الصراع بين اللغة الفصحى واللهجات المحكية في السرد الروائي إنما هو صراع بين المركز والهامش، المركز يفرض لغته، والهامش يتنازل عن لغته لحساب المركز.
ما بعد الحداثة وطروحتها الفكرية تنتصر للهامش على حساب المركز؛ لذا احتفى السرد الجديد، أو ما يطلق عليه بعض النقاد سرد ما بعد الحداثة بالهامش ولغته وأدخلها المدونة الروائية، بل جعلها لغة للتشكيل السردي، ولم يكتف بها لغة للحوار بين الشخصيات.