صراخ الناس في مصر لم ينقطع أبدا فيما يتعلق بمشكلة الإهمال الطبي، لكن الأزمة تفاقمت في الفترة الأخيرة بسبب عدة أحداث فتحت الباب على مصراعيه أمام عدد أضخم من المشاكل، كون الإهمال الطبي مشكلة مركبة.
وبعد الإنجازات الضخمة التي حققتها الدولة على مدار الـ10 سنوات السابقة، بات من المهم الإجابة عن علامات الاستفهام التي تفجرها مشكلة الإهمال الطبي الذي يسفر عنه دائما أمراض مزمنة أو عاهات مستديمة وأحيانا تكون تلك الأخطاء الطبية قاتلة.
في هذا الملف، تحقق «البوابة نيوز» في تحديد أنواع الأخطاء الطبية ومدى مسئولية الطبيب عنها، والموازنة بين حق المريض أو ورثته في التعويض عن تلك الأخطاء، لاسيما في وجود نص قانوني عام يشمل كل الأخطاء المهنية ويدخل فيها الأخطاء الطبية، رغم أن نصوص التجريم موجودة في القانون، إلا أنها غير كافية للاختصاص أخطاء الأطباء الطبية، التي لها طبيعة خاصة، لأن أخطاء الأطباء تختلف كثيرا عن طبيعة الأخطاء في المهن الأخرى.
أصدرت مؤسسة "ملتقى الحوار" تقريرها حول الإهمال الطبي، في منتصف شهر أكتوبر من العام الماضي، حيث أكد التقرير أنه لا يوجد إحصاء رسمي عن عدد الأخطاء الطبية في مصر، ولكن تقدر وزارة الصحة عدد الأخطاء الطبية في مصر سنويًا بـ ١٨٠ ألف حالة، وحسب تصريحات نقابة الأطباء فإن نحو ٢٠ طبيبًا يتم شطبهم من النقابة سنويًا بسبب الأخطاء الطبية.
وأكد التقرير أن الأخطاء الطبية تقع في جميع دول العالم ولا تقتصر على دولة دون الأخرى، إلا أن تكرارها هو ما يلفت الانتباه، فالأخطاء الطبية مسلسل لا ينتهى، ليس في مصر فقط، بل في كل دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تمثل الأخطاء الطبية فيها السبب الثالث للوفاة بعد أمراض القلب والسرطان مباشرًة.
عقوبات الأخطاء الطبية
ولفت التقرير إلى أنه لا يوجد في قانون العقوبات المصري ما يسمى الخطأ أو الإهمال الطبي، ولكن كل ما هو موجود نص المادة ٢٤٤ من قانون العقوبات وكذا نص المادة ٢٣٨ من القانون نفسه، وهما ما يتم القياس عليهما في شأن جرائم الإهمال الطبي، كما أن هناك اعتقادا راسخا عند البعض أن اللجوء للمستشفيات الخاصة للكشف الطبي أو لإجراء عملية جراحية هو أنسب الحلول لما تتميز به هذه المستشفيات من خدمات غير موجودة بالمستشفيات العامة.
وأكد التقرير أن الحقيقة هي أن الإهمال طال بعض المستشفيات الاستثمارية حتى أصبح ما يستطيعه بعضها، هو الحفاظ على النظافة فقط إن استطاعوا ذلك، في حين أن بعض المستشفيات الخاصة لا يميزها عن الحكومية سوى الاسم، والشكل العام لها.
٣٥ حالة إهمال في ١٣ محافظة
كما ناقش التقرير أنواع الأخطاء الطبية، وأسبابها، وحقوق المريض وواجباته، ورصد ٣٥ حالة إهمال طبي في ١٣ محافظة، ومن خلال التحليل البيانى تبين أن عدد حالات الوفاة بمحافظة الجيزة أكبر عدد من باقى المحافظات، يليها محافظة القاهرة ثم الإسكندرية، كما تأتى حالات الوفاة في المقدمة يليها العجز والأخطاء الجراحية.
ومن حيث الجنس، تأتي النساء اللاتي تعرضن للإهمال الطبي في المقدمة، يليهن الأطفال ثم الرجال، وهو ما يوضح أن أغلب الحالات في عمليات التجميل أو الولادة.
وناشد التقرير سرعة إصدار قانون المسئولية الطبية، وهو القانون الذي سيكون الفيصل الوحيد لمنع التراشقات التي تحدث بين الطبيب وأهل المرضى، والذي يفرق بين الخطأ الطبي والإهمال الجسيم، وكذلك إنشاء هيئة لتقرير المسئولية عن الضرر الطبي، تكون مستقلة عن الجهات التنفيذية وتعد جهة استشارية تتبع النائب العام، وتضم هذه الهيئة ممثلين عن المرضى ومصلحة الطب الشرعي ومجلس القضاء ونقابة الأطباء ووزارة الصحة والمستشفيات الجامعية.
وتقوم تلك الهيئة بالتنسيق مع اللجان النوعية فى التخصصات المختلفة لتحديد وقوع الضرر على المريض نتيجة خطأ من مقدم الخدمة، وتحديد جداول التعويض المالي لمتلقي الخدمة، تبعا للضرر الواقع عليه.
قانون المسئولية الطبية
انتقد الدكتور خالد سمير، ممثل حزب المحافظين، تأخر صدور قانون المسئولية الطبية وتجريم الاعتداء على القوائم الطبية.
وقال "سمير" في كلمته خلال اجتماع لجنة الصحة بالحوار الوطني منتصف شهر يونيو الماضي: "عندنا كل حاجة كويسة بس لوحدها، والمسئولية الطبية مش محتاجة فلوس، وتجريم الاعتداء على المنشآت مش محتاج فلوس، النقابة قدمته من ٨ سنين، وبعد ٨ سنين لا شيء".
ولفت إلى وجود مطالب بزيادة الإنفاق على الصحة، قائلا "نحتاج إعادة هيكلة لميزانية الصحة لكن زيادتها بالطريقة دي مفيش مكسب جديد نأخذه".
وأكد أهمية التكامل بين كليات الطب الجديدة مع وزارة الصحة، موضحا أن الكليات الجديدة بلا مرضى ومستشفيات في حين أن وزارة الصحة تعاني نقص أطباء.
وشدد على ضرورة تدريب الأطباء، قائلا "مش بيسافروا علشان الفلوس لكن بحثا عن بيئة عمل سليمة وتعليم وتدريب"، في الوقت نفسه أكد ضرورة زيادة دخل الأطباء.
ضحية: شاهدت الموت بعينى
وتحدثت "هايدي، أ، ع"، إحدى ضحايا الإهمال الطبي لـ"لبوابة" عن واقعة عاشتها كان من الممكن أن تنهي حياتها، والتي قالت عنها: "لقد شاهدت الموت بعيني لولا عناية الله".
وتابعت "هايدي"، والتي تعمل مدرسة بالقطاع الخاص: "أثناء ذهابي إلى أحد المستشفيات لوضع مولودي الأول، ودخلت غرفة العمليات للولادة، ولم أشعر بنفسي إلا من بعد أن أتم الله ولادتي على خير، كنت أظن أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد، ولكن لم أكن أعلم أن ما حدث هو بداية لأبواب الجحيم التي فتحها أحد الأطباء الفاشلين، حيث أغلق الطبيب الذي أشرف على عملية ولادتي القيصرية الجرح، ولكنه ترك إسفنجة جراحية في بطني، الأمر الذي جعلني أشعر بعد ساعات بألم رهيب، وكنت بموت وروحي بتطلع مني".
وأكملت: تحدثت مع زوجي ووالدتي، وقلت إن الأمور ليست على ما يرام، وأشعر بالألم يزداد، والجميع كان يظن في البداية أن الأعراض التي أشعر بها هي أعراض العملية الجراحية، وأن الأمر سينتهي بعد ساعات، ولكن هذا لم يحدث، وبعد عملية الفحص والأشعات تبين أن الطبيب الذي أجرى لها عملية الولادة القيصرية نسى إسفنجة جراحية في بطني، الأمر الذي أصابني بالذعر، ولكن الحمد لله تم تصحيح الخطأ الطبي الذي حدث.
واختتمت حديثها: "الخطأ البشري موجود وطبيعي، ولكن ليس بهذه الأمور، فالعمليات الجراحية تحتاج لمتخصصين على أعلى مستوى، لأن الخطأ في مثل هذه الأمور ضريبته الموت، فلا توجد رفاهية في هذا الأمر، لذلك على السلطات المختصة وضع أقصى عقوبات ممكنة على مثل هذه الأخطاء الكارثية من بعض الأطباء، وإبعادهم عن ممارسة المهنة مدى الحياة.
وفي هذا السياق يقول الدكتور محمد على عز العرب، استشاري الكبد والجهاز الهضمي، رئيس وحدة أورام الكبد بالمعهد القومي للكبد، إن إقرار قانون المسئولية الطبية "العلمي والعادل، هو الحل الأمثل للقضاء على الأخطاء الطبية التي تحدث في بعض المستشفيات أو من بعض الأطباء، موضحًا أن قانون المسئولية الطبية مطلب عاجل، ومن يقرر الخطأ أو الإهمال هو اللجنة العليا للمسئولية الطبية ولا أحد غيرها، في ظل الفوضى التي حدثت في ذلك الملف مؤخرًا.
وطالب "عز العرب" في تصريحات خاصة لـ"البوابة" بإلغاء الحبس الاحتياطي إلا في حالات الإهمال والتي تقع تحت طائلة المادة ٢٤٤ من قانون العقوبات، خاصة أن الأخطاء الطبية ملف شائك لا بد من دراسته جيدا لحفظ الحقوق للجميع سواء كان الطبيب أو المريض.
وتابع "عز العرب": لابد أن يتوخى كل طبيب الحذر أثناء عمله ولا يحمل نفسه أكثر من طاقتها، ولا يتحمل أي مخاطر على الإطلاق، فعندما يعزف الأطباء عن تحمل المسئولية، سيجدون أنفسهم إما تحت تهديد أهل المريض أو يحاكمون بقانون عقيم مع المجرمين الجنائيين.
وأوضح "عز العرب"، أنه من الضروري أن تتدخل الجهات المعنية لسن القوانين ومتابعة تنفيذها لحماية كل العاملين، سواء كان في المجال الطبي أو المرضي، لذلك لا بد أن يكون هناك دور للدولة للقضاء على تلك الظاهرة، خاصة أن هناك تبعات كبيرة لتلك الأخطاء من الاعتداءات على الأطقم الطبية وتأثيرها على المنظومة الصحية بالسلب.
قانون خاص
يقول أيمن محفوظ، المحامي والخبير القانوني، لابد أن يخصص المشرع نصا خاصا للمسئولية المدنية والجنائية عن الأخطاء الطبية، والتفرقة بين الخطأ المستحق مع طبيعة العمل الطبي والإهمال غير المتعمد، والخطأ المهني الجسيم أو الإهمال الجسيم، وبين كل تلك الأنواع من الأخطاء الطبية شعرة، ولكنها ليست كافية لتحديد مدى مسئولية الطبيب، وكيفية مساءلته عن طبيعة خطئه وبالتالي تحديد المسئولية وقيمة التعويض الملائم للمريض أو عدم استحقاقه أي تعويض، خاصة في حالة ارتباط المضاعفات الصحية للمريض أو الظروف البيئية التي قد تساهم في تدهور حالة المريض الصحية بعد الخطأ الطبي.
وتابع "محفوظ" في تصريحات لـ"البوابة نيوز"، مشروع قانون المسئولية الطبية له فوائد أخرى، وهي الالتزام بالتأمين ضد أخطاء الأطباء، وضمان شركات التأمين دفع التعويضات المالية، وهذا القانون سيساهم بشكل فعال في تحقيق العدل والموازنة بين تحديد الخطأ الطبي وبين حق المريض في التعويض بشكل عادل.
وأضاف "محفوظ"، حتى الآن لم يظهر هذا القانون للنور، ولكن في الواقع الحالي يعاقب الطبيب عن أخطاء مهنته، كما يعاقب أي شخص عن خطأ مهني يرتكبه أحد الحرفيين، وجهات التحقيق تبحث في الخطأ ونتيجته الإجرامية في وقوع الضرر من حيث حجم الضرر، وإذا كانت هناك إصابة مزمنة أو إصابة عابرة، أو يتسبب الخطأ الطبي في نتيجة أكثر ضررا حتى تصل الى وفاة المريض، وتتراوح العقوبات من الحبس الذي تصل أقصى مدة له ١٠ سنوات طبقا لنص المادة ٢٣٨ عقوبات.
وأوضح "محفوظ"، في جميع الأحوال يجوز للمضرور من هذا الخطأ الطبي أو ورثته، أن يقيموا دعوى مدنية لتقدير قيمة التعويض، وذلك بعد الادعاء مدنيا أمام محكمة الموضوع، أو حتى أمام جهات التحقيق بطلب تقدير تعويض ملائم حسب الضرر الواقع على الضحية، ويتم تقدير قيمة هذا التعويض حسب ما تسبب للضحية من أضرار أو ما فاتهم من كسب نتيجة الخطأ الطبي، ويتم تقدير قيمة التعويض وفق السلطة التقديرية لقاضي الموضوع، حسب ظروف كل دعوى وحجم الأضرار الناتجة عن هذا الخطأ، في حالة إدانة صاحب هذا الخطأ الطبي.
وأشار "محفوظ"، إلى أن خروج قانون المسئوليّة الطبية للنور ووضع قانون خاص يحكم الأخطاء الطبية، يمنع كل الإشكالات واللغط في القانون الحالي ويمنع من وجود العديد من المشاكل.
ووجه "محفوظ" نداء الى البرلمان بسرعة إصدار قانون المسئولية الطبية قبل أن يتسبب القانون الحالي في كارثة كبرى، لأن القانون الحالي قد يظلم طرفي الخصومة ما بين الأطباء والمتضررين من الأخطاء الطبية.
هيئة مستقلة
قال الدكتور كريم كرم، عضو المركز المصري للحق في الدواء، إن المسئولية الطبية هو قانون تتم مناقشته لتعريف الخطأ الطبي ووضع حلول له.
وتابع "كرم" في تصريحات لـ"البوابة نيوز"، نريد وجود طبيب يتمتع بالكفاءة، ونظام علاجى متميز يكفل منظومة علاج ممتازة، وإذا أخطأ الطبيب يحاسب ويدفع تعويضا، ولكن لن يستفيد مريض من حبس طبيب، ووجهة نظر الأطباء أن الأخطاء الطبية واردة، وتحدث فى العالم كله، ولكن عقوبتها ليس الحبس وسط المجرمين، لذلك يجب أن تكون هناك عقوبة أخرى.
وطالب "كرم"، بإنشاء هيئة مستقلة تحال إليها قضايا الإهمال الطبي وتنظر فيها، ويتم عمل جلسات من ـ أطباء مستقلين لتقييم الخطأ من منظور طبي بحت، فإذا كان خطأ الطبيب يحاسب بتعويض مادي وإيقاف عن ممارسة الطب لمدة محددة، وإذا كان خطأ غير متعمد يعاقب بالتعويض فقط، وهكذا نحقق معادلة بين حقوق المريض والطبيب، ويعمل بهذه الهيئة في السعودية، وأهم شىء تطوير المنظومة الطبية، لأنه ليس من المنطقي، أن الطبيب يعمل ١٢ ساعة ونتوقع منه عدم الخطأ، لأنه ملزم بـ"شيفتات" ومصاريف.
واختتم "كرم": في النهاية نحن لسنا جلادين والأهم المواطن المصري، وحقه فى رعاية صحية متميزة وكادر طبي مؤهل.
وكشفت منظمة الصحة العالمية عن وفاة خمسة أشخاص في العالم كل دقيقة بسبب أخطاء طبية في المعالجة، أي أكثر من ضحايا الحروب، وتأمل المنظمة العالمية في لفت الانتباه بشكل كبير إلى موضوع الرعاية الصحية غير الآمنة في العالم، وهذا يتجاوز قتلى الانتحار أو الحروب أو الأمراض الفتاكة مثل الملاريا، وهذا ما قالته منظمة الصحة العالمية في تقرير نشرته في سبتمبر ٢٠١٩.