ترجع جذور نشأة الأحزاب السياسية في مصر إلى العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، ففي هذه الفترة استخدمت كلمة الحزب بمعنى تنظيم سياسي، وذلك إلى جانب استعمالها التقليدي بمعنى جماعة أو طائفة كما يشير القاموس المحيط، وهو المعنى الذي يبرز في الاستخدام القرآني للكلمة، كما وردت في سورة الأحزاب، وتعود بداية التنظيمات السياسية في مصر إلى الجمعيات السرية التي يرجع تاريخ وجودها إلي نهاية الستينيات في القرن التاسع عشر، فتشير المصادر إلى وجود بعض الجمعيات السرية في الأزهر، وإلى بعض الجمعيات الماسونية التي لعبت دوراً مهماً، وبالذات أثناء وجود الشيخ جمال الدين الأفغاني الذي استغلها كأداة للعمل السياسي.
وبعد ثورة 25 يناير، شهدت مصر حراك حزبى غير مسبوق. تجلي مظاهره في إقبال مدهش علي خوض تجربة تأسيس أحزاب أو الانضمام إلى أحزاب بين أوساط وشرائح اجتماعية عدة خصوصا في الطبقة الوسطي، وكان مثيرا للتأمل أن تقود ثورة أظهرت مدى انحسار دور الأحزاب السياسية إلى إقبال واسع على تأسيس أحزاب جديدة، غير أن هذه ظاهرة متكررة في البلاد التي شهدت تحولات ديمقراطية في ربع القرن الأخير نتيجة ثورات أو انتفاضات أو ضغوط شعبية أسقطت نظما مستبدة في شرق ووسط أوروبا وفي أمريكا اللاتينية.
والسؤال: هل الأحزاب القائمة الآن قادرة على المشاركة فى النهوض بالدولة والمساهمة فى أرساء أسس ودعائم الجمهورية الثالثة؟ أم أنها بحاجة إلى ممارسة "النقد الذاتى" لإعادة النظر فيما حققته من إنجاز أو أخفاق؟. أو بمعنى مغاير، هل يمكن للمصريين التعويل على الأحزاب فى أن تكون قاطرة لإعادة تأسيس الدولة المصرية على أسس عصرية مدنية حقيقية، وما هو المرغوب أو المطلوب منها حتى يمكن أن تساهم، ولو بقدر نذير، فى المشاركة الفعالة فى إرسال قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتفعيل المشاركة المجتمعية فى عملية صنع القرار ورسم السياسة العامة للدولة، وأيضًا مراقبة الحكومة فى تنفيذ السياسات الموضوعة من قبل المؤسسات التشريعية المختلفة.
وهنا يمكن القول، إن الأحزاب القائمة الآن تعانى من عدة مشكلات، يجب عليها أن تحلها أولاً حتى تستطيع أن تساهم بشكل فعال فى إعادة رسم السياسات المطلوبة لنقل مصر إلى مصطاف الدول المتقدمة والقوية فى ذات الوقت. وهذه المشكلات هى ما يلي:
أولا- مازالت الأحزاب الجديدة نخبوية فى عملها وإدارتها ولم تستطع الوصول إلى رجل الشارع العادى، لذا فإن هذه الأحزاب مازالت أثيرت الحالة الثورية التى تفجرت فى 25 يناير، وهى المرحلة التى يمكن أن نطلق عليها "الطفيلية الحزبية"، ولم تنتقل إلى الآن إلى المرحلة الثانية والتى يمكن أن أطلق عليها "إرساء القواعد" الحزبية. بالإضافة إلى ذلك فإنه من الملاحظ أن جميع الأحزاب جعلت من أربعة أو خمسة مصطلحات سياسية مسميات لها مثل: "الديمقراطية والعدل والحرية والتنمية"، مما يدل على أن الأحزاب جعلت من شعارات ثورة 25 يناير مسميات لها دون الاهتمام بالمضمون أو البرامج الحزبية، وهو ما جعل المواطنين ينصرفون من حولها بعدما لم تأت الثورة عليهم بالنفع المتوقع حتى هذه اللحظات.
ثانيا- التشابه البرامجي والأسمى، حيث جاءت معظم الأحزاب الجديدة متشابهة فى مفردات أسمائها ( الشباب, الثورة، الحرية, العدالة, التحرير، الحديثة، النهضة..الخ).
كما أن هذا التشابه انصرف أيضا إلى البرامج الخاصة بها، وباستثناء حالات الاختلاف الأيديولوجي الواضحة في قليل من الأحزاب، فإن أغلبها تتبنى برامج متشابهة في خطوطها العامة، وبتحليل برامج وأهداف وشعارات الأحزاب الجديدة يصعب التمييز بينها، فجميعها تتفق على مجموعة من القواسم المشتركة، والاختلاف يكون فى تفاصيل جزئية أو سياسات فرعية، ففيما عدا بعض الأحزاب مثل: (الحرية والعدالة، العدل، المصريين الأحرار، الديمقراطى الاجتماعي) التي تملك برامج واضحة، فإن باقي الأحزاب لا يوجد لديها الوضوح فى معنى البرنامج، ولا تميز بين البرنامج والشعار أو السياسات التفصيلية لها أو التى سوف تتبناها فى المستقبل، ونجد أن الأحزاب اليسارية القريبة من الفكر الماركسي مثل حزب التحالف الشعبى تلتقي مع الأحزاب الليبرالية مثل العدل والمصريين الأحرار، وكذلك مع أحزاب الوسط والحرية والعدالة والأحزاب ذات التوجهات الإسلامية، فى أسس واحدة أهمها: احترام الدين الإسلامي كمصدر للقيم والأحكام، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية، والتعددية والديمقراطية، والإصلاح الاقتصادي، وحقوق الإنسان.
ثالثا: الوصايا على الثورة، حاولت جميع الأحزاب –الجديدة والقديمة على حد سواء- اغتنام الفرصة لركوب الثورة التى شارك فيها جميع أطياف المصريين، بل وتعدت هذه الأحزاب هذه المرحلة، بتنصيب أنفسهم بأنهم أهم الذين صنعوا الثورة وفجروها فى موجتها الأولى والثانية.
ونست هذه الأحزاب أنها أصبحت مفهوما سيئ السمعة لدى المواطن البسيط نتيجة حالة الصراع والانشقاق الدائم بداخلها.
رابعا- التكاليف المالية والمؤسسية، مازالت التكاليف المالية المطلوبة للإعلان عن الأحزاب أو اللازمة لعمل التوكيلات تمثل شوكة فى حلقوم الأحزاب الجديدة وربما ستكون العائق الوحيد أمام ظهور بعضها إلى النور. واعتقد أن الدعم المالى المطلوب للأحزاب يتوقف عند تسهيل إجراءات الحصول على الرخصة القانونية، والاكتفاء بنشر أسماء الأعضاء المؤسسين فى الصحيفة الرسمية الذى سيتكلف 5 آلاف جنيه مقابل ربع مليون جنيه تكاليف النشر فى أى صحيفة يومية، أما المعونات الحكومية التى كانت من أجل شراء ولاء بعض الأحزاب، فهذا أمر يجب أن ينتهي وصفحة لابد أن تطوى، وهناك تسهيلات كثيرة يمكن أن تعطيها الدولة (بعد أن تنفصل عن الحكومة) للأحزاب الحقيقية، ولنقل تلك التى ستحصل على 2% من أصوات الناخبين، سواء فى الضرائب المفروضة على المقار أو إعطاء مقر رئيسي لكل حزب لديه تمثيل فى البرلمان وغيرها من الأشياء التى لا تدخل فى إطار الدعم المالى.
خامسا- دور المال السياسى أو رجال الأعمال فى نشأة الأحزاب الجديدة، فالبلد التى اشتدت عليها قسوة العلاقة الآثمة بين المال والسلطة، ودفعت ثمنا باهظا لعدم التمييز بين دور رجل الأعمال فى ميدان الاقتصاد وعالم البيزنس والشركات، ودور رجل الأعمال فى البرلمان أو فى الحزب أو فى الحكومة، هي نفس البلد التى يتبارز فيه اليوم عدد كبير من رجال الأعمال على تأسيس الأحزاب السياسية فى السر أو فى العلن، وهو نفس البلد الذى تتحلق فيه الأحزاب اليوم حول أشخاص مرموقين فى عالم المال، لديهم القدرات المالية للإعلان عن أحزابهم فى الصحف، أو عقد المؤتمرات السياسية باهظة التكاليف، والخوف هنا أن يكون للمال الدور الأكبر فى مسيرة تشكيل الأحزاب الجديدة، وأن تكون أحزاب الأفكار والتيارات السياسية الحقيقية هى الأكثر فقرا، والأقل تأثيرا، فيعود المرض نفسه إلى جسد السياسة فى مصر من جديد، فيصبح من يملك يحكم، ومن يستطيع شراء الأصوات هو الأكثر تأثيرا، وتدور الأحزاب الجديدة فى دوائر المال بلا ضوابط قانونية حقيقية لحدود استخدام المال فى السياسة، وبلا ضمانات فاعلة لعدم تأثير هذا المال على صناعة القرار السياسى لاحقا فى البرلمان أو فى الحكومة.
سادسا- فإن غياب خيار التحالف والاندماج، هو أحدى التحديات الكبرى التى تبشر أم باندثارها أو تكوين ثلاثة أو أربعة أحزاب تستطيع أن تنافس فى العمليات أو الاستحقاقات السياسية المختلفة.
سابعًا- العنف الذى تمارسه بعض الأحزاب الدينية أو أحزاب "تحالف دعم الشرعية"، بعد نجاح الموجة الثانية للثورة، وبدلا من أن تقوم هذه الأحزاب بمراجعة الأخطاء التى وقعت فيها فى فترة توليها السلطة انزلقت إلى ممارسة العنف المادى والمعنوى ليس فقط تجاه النخبة السياسية الجديدة الحاكمة ولكن أيضًا تجاه المجتمع المصرى من خلال قطع الطرق وحرق المنشآت العامة وتعطيل الدراسة فى الجامعات.
وأخيرا، أن قوة الدولة من قوة الأحزاب، وقد كان من الحكمة أن تتيح الدولة فرصة كاملة لجميع الأحزاب بما فيها ذات المرجعية الدينية. وما ندعو إليه اليوم بأن تكون الأحزاب سواء القديمة أو الجديدة أو التى مازالت تحت التأسيس واضحة وشفافة فى كل ما يتعلق بمبادئها وتمويلها وسبل دعمها للجماهير وعلاقتها بالدولة. ولابد أن يكون لهذه الأحزاب وجود حقيقي في الواقع، خاصة أن كثيرا منها له شعبية ضخمة ومؤهلة لأن تحتل المكانة الكبرى فى الحياة السياسية الجديدة.