آثار تنامي ظاهرة دفن جثامين الراحلين من الأراخنة ورجال أعمال بمدافن خاصة داخل أو في حيز ومحيط كنائس تأسست على أيدي هؤلاء أو ذويهم؛ خاصة داخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، حفيظة وانتقادات البعض وتبرير البعض الآخر.
ومع تكرار الظاهرة مع كثير من الأسماء، دفع الأمر المجمع المقدس للكنيسة برئاسة قداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، لاتخاذ قرار فاصل في هذا الشأن خلال جلسة الانعقاد مارس 2021 بعدم جواز دفن الآباء الكهنة أو الأراخنة داخل أسوار أي كنيسة أو ملحقاتها أو بيوت خدمية أو ممتلكاتها من مزارع ومنتجعات خدمية، وأيضًا لا يتم نقل أي من الآباء الكهنة المتنيحين.
وهناك العديد من العائلات والأسماء والرموز المسيحية عكفت على تشييد كنائس خلال السنوات السابقة على سبيل التبرع أو تيسيرًا للمصلين، وكان البعض يحرص على أن يخصص جانبا من الأرض لتكون موضع سكنه الأخير منهم من زخرف وشكل المدافن بصورة معمارية معينة كما لو كانت مهندسة عبر متخصصين الديكور، والآخر لم يعتن بهذا قدر ما حرص أن يلاصق الكنيسة، وآخرون جعلوا مثواهم الأخير تحت الهيكل المقدس الذي يشهد الصلوات والقداسات بصورة دائمة، ومن هؤلاء آل بطرس المتواجد رفات ذويهم في الكنيسة التي شيدوها.
ومن مفارقات التاريخ أن الشهداء والقديسين القدماء عبر العصور والتاريخ لم يطرأ ببال أحدهم سواء كان غنيًا أو فقيرًا ولم يرد في سجلات ذاخرة بالأسماء ومئات الشهداء أن يعد أحدهم مزارًا لنفسه أو مقبرة ومدفنا، أو يوصى أن يودع في قبر مصنوع بصورة زخرفية أو طراز معماري معين رغم أن الغالبية جميعهم كان يعلم ساعته ويسبق إخطاره من الملائكة وفق ما تتضمنه قصص وسيرة القديسين والشهداء.
ومع مرور الزمن واكتشاف القداسة والاستدلال على رفات هؤلاء الشهداء يتم تكريمها ووضعها في أنبوبات خشبية وتوضع عليها مواد عطرية برائحة طيبة تسمي " الحنوط" وعليها كسوة أو لفافة من أنواع قماش لونها نبيتي وعليها صورة منسوجة للقديسين أو الشهيد وتسمي بالذخائر، حتي يتبارك منها الوافدون والزوار، ونسمع قصصا عن أناس و رهبان ونساك تركوا وصايا أن يدفن أجسادهم ولا يفصح عن مواقعها.
ولم يكن آل بطرس غالي أول الأراخنة الذين دفنوا داخل كنيسة أو على مقربة منها، فالتاريخ يسطر عن المعلم إبراهيم الجوهري الذي وضع جثمانه في مقابر بالقرب من كنيسة مارجرجس مصر القديمة ومع مرور الزمن أصبحت جزءًا داخل حيز الكنيسة التي شيدها هو وشقيقه المعلم جرجس الجوهري الذي يجاوره الآن.
ويذكر التاريخ لأبناء الجوهري تاريخ عريض من خدمة الوطن والكنيسة حيث إن إبراهيم الجوهرى لقب بسلطان الأقباط والذى وافته المنية فى 31 مايو عام 1795، وشارك فى جنازته أمير البلاد "إبراهيم بك"، ورثاه البابا يوأنس الذي كان يخصه بعظيم محبته وقد دُفِنَ في المقبرة الخاصة التي بناها لنفسه بجوار كنيسة مارجرجس بمصر القديمة.
كان" الجوهري" رجلا عصاميا نشأ في القرن الثامن عشر من أبوين متواضعين فقيرين تقيين، والده يسمى يوسف الجوهري كان يعمل في الحياكة بقليوب.
تعلم في كُتاب بلده الكتابة والحساب وأتقنها منذ حداثته، فكان يقوم بنسخ بعض الكتب الدينية ويقدمها للبابا يؤانس الثامن عشر البابا الـ 107 على سدة مار مرقس.
بدأ عمله ككاتب لدى أحد أمراء المماليك، توسط له البابا لدى المعلم رزق رئيس كتاب على بك الكبير، فاتخذه كاتبا خاصا له، واستمر في هذه الوظيفة إلى آخر أيام على بك الكبير الذي ألحقه بخدمته.
ولما تولى "محمد بك أبوالدهب" مشيخة البلد اعتزل المعلم رزق من رئاسة الديوان وحل المعلم إبراهيم محله، فبدأ نجمه يتألق في مصر، حتى صار رئيس كتاب القطر المصري في عهد إبراهيم بك، وهي تعادل رتبة رئاسة الوزارة الحالية.
كتب عنه الجبرتى عن وفيات سنة 1209 هـ: " مات المعلم إبراهيم الجوهرى رئيس كتبة الأقباط بمصر، دفن جثمانه فى مقبرة أعدها إلى جوار كنيسة مارجرجس فى مصر القديمة.
أما شقيقه الذي لحق به بعد فترة من الزمن جرجس الجوهري كتب عنه المؤرخون في وفاته" مات كبير المباشرين بالديار المصرية" وتربى جرجس مثل أخيه في كُتاب مدينة قليوب كنظام ذلك العصر، شغل منصب رئيس كُتاب مصر (وظيفة تشبه رئيس الوزراء حاليًا) في الأعمال والأمور الكتابية فكان له خير معلم وأفضل مرشد.
كما تقلد منصب رئاسة المباشرين بعد وفاة أخيه المعلم إبراهيم الجوهري، وباشر المعلم جرجس شئون وظيفته في 4 عهود مختلفة في حكم المماليك ومدة حكم الحملة الفرنسية ومدة حكم الأتراك ثم أول حكم محمد علي باشا، ولاقى شدائد كثيرة وكان عظيم النفس كريمًا في العطاء يوزع على الفقراء والمساكين والكنائس والأديرة الأموال الكثيرة خصوصًا في المناسبات.
وساعد البابا مرقس الثامن في بناء الكنيسة المرقسية الكبرى بالأزبكية مقر البطريركية المجاور لها من أملاكه وأملاك أخيه الذي كان قد حصل قبل وفاته على فرمان من الباب العالي ببنائها، وقد عينه البابا مرقس الثامن ناظرا على كثير من كنائس القاهرة ومصر القديمة لمحبته للكنائس واهتمامه بتعميرها والعناية بها.
ومع بداية حكم محمد علي، يذكر الجبرتي أنه عمل على إظهار سلطانه وتأييد مقامه واسترضاء الجند وصرف المتأخر من مرتباتهم، ففرض على قبط مصر وعلى عظمائهم جزية، وقبض على المعلم جرجس الجوهري معلم مصر يومئذ وصاحب خِراجها (الضرائب)، وعلى جماعة من عظماء القبط وسجنهم ببيت كتخدا، وطلب من المعلم جرجس الجوهري حسابه عن سنة 1215 هجرية".
وبعد فترة نال جرجس تكريمًا من الحاكم وأطلقوا عليه جرجس أفندى لما يسدي من العطايا والهدايا، ولكن سرعان ما انقلب عليه الوالي نظرًا لعدم مبادرته إلى جباية كل ما كان يطلبه من الضرائب، فقبض عليه ومن معه من الأقباط بحجة أن في ذمته مبالغ متأخرة من حساب التزامه.
وفي نهاية حياته تعرض للمرض وتوفي ووضع جثمانه بجوار شقيقه في المدفن الخاص بهما بجوار كنيسة مار جرجس بمصر القديمة ولا يزال قبرهما موجودا حتى الآن، وفوقه كنيسة صغيرة يصلى فيها في تذكاراتهما.
هم ليسوا الوحيدين الذين شيدت مقابرهم على مقربة من الكنيسة أو بجوارها، هناك أسماء عائلات أخرى تجاورها الكنائس مثل عائلات فلتس عياد وونيس، وأيضا عائلة مكارى عدلي مكارى وغيره، والموجودة بمدينة نصر، وقد يكون البعض منهم شيد الكنائس إلا على غرض مقربة من مدافنهم لإقامة الصلوات التجنيز على الموتى.
ومن بين الأسماء أيضًا الأرخن الدكتور ثروت باسيلى، وكيل المجلس الملى السابق بالكنيسة القبطية، داخل كنيسة السيدة العذراء والأنبا شنودة التى أسسها فى مدينة السلام، الذى وافته المنية في ديسمبر 2017 وصاحب عدة شركات وعضو مجلس الشورى السابق بالتعيين، ووكيل المجلس الملي للأقباط الأرثوذكس، ورئيس شعبة الأدوية باتحاد الصناعات المصرية، وكيل لجنة الصحة بمجلس الشوري.
هو رجل عصامي بدأ حياته من الصفر ثم أنشأ صيدلية في مدينة أسوان سماها صيدلية ثروت واستمر يدير هذه الصيدلية حتى وفاته، وخلال فترة لاحقة افتتح مكتبا علميا بسيطا لتوزيع بعض الأدوية لبعض الشركات الأجنبية ثم كبر المكتب إلى أن وصل لشركة آمون، وفي ديسمبر 2006 باع 93% من أسهم الشركة لصالح تكتل شركات عالمي تقوده مؤسسة سيتي گروب الأمريكية.
كما أسس قناة تليفزيونية فضائية قبطية هي قناة سي تي في لتكون ناطقة باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، كان يهتم بالفقراء بصورة شديدة، كما ساهم في تأسيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي، وكان مقربا حد الصداقة مع البابا الراحل شنودة الثالث.
وبدأت في الفترة الأخيرة وقبل- صدور قرار المجمع والواضح بشأن الأراخنة والكهنة ولم يتطرق للشهداء- أن تدفن جثامين الشهداء داخل الكنائس فى مزار خاص ليتبارك بها الوافدون مثلما جرى في كنيسة مار جرجس بطنطا التى احتضنت شهداء تفجيرها داخل أسوارها، كما أعدّ مدفن بكنيسة شهداء الوطن والإيمان بقرية العور.
وفي لقاء سابق لـ"البوابة نيوز" مع الراحل القمص صليب متى ساويرس، راعى كنيسة مارجرجس الجيوشى بشبرا مصر؛ قال: "إنه يجوز دفن أى شخص مسيحى خدم الوطن والكنيسة داخل الجدار الكنسي، مرجعًا إلى نص الكتاب المقدس في الآية « وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الْخَامِسَ، رَأَيْتُ تَحْتَ الْمَذْبَحِ نُفُوسَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ اللهِ، وَمِنْ أَجْلِ الشَّهَادَةِ الَّتِى كَانَتْ عِنْدَهُمْ»، الواردة في سفر الرؤيا الإصحاح السادس.
وأضاف القمص صليب، أن الشهادة ليست بالضرورة قتّل على أساس الاعتراف بالإيمان مثلما حدث لشهداء ليبيا أو استشهاد المصلين بالكنائس فى مار جرجس طنطا وكنيسة القديسين أو شهداء البطرسية، وإنما هناك شهادة أخرى بالأعمال والخدمات للوطن والكنيسة.
وأضاف راعى كنيسة مار جرجس الجيوشي، أن القمص بطرس جيد، شقيق البابا المتنيح (الراحل) شنودة الثالث، دفن بكنيسة العذراء ـ الزيتون لما قدمه من خدمة وبذل وعطاء وتعمير، وهو بمثابة نوع من التكريم لما خدم به الكنيسة طيلة حياته، كما هو الحال مع المعلم إبراهيم الجوهري، الذي تواجد مدفنه بالقرب من كنيسة بمصر القديمة.
واستطرد: «دفن الأرخن ثروت باسيلى بالكنيسة التى شيدها بمدينة السلام نوع من التقدير والتكريم نظير أعماله الطيبة وخدماته الجليلة، وأيضا بطرس غالى الذى خدم الوطن والكنيسة، حينما كان رئيسًا لوزراء مصر واغتيل على يد إبراهيم الورداني، ويعُد شهيدًا وقدم خدمات للوطن ومن بعده أسرته».
وبسؤال القمص صليب عن عدم دفن والده بكنيسة الجيوشى التي شُيدت عاما ١٩٣٨، قال: «كنت صغيرًا في الرابعة من عمري ولا أدرى ملابسات دفن الجثمان، ولكنه وضع بمدافن العائلة، ولم تكن حينها فكرة دفن الأراخنة أو الكهنة داخل الكنائس كنوع من التكريم مثلما يحدث الآن».