بذرة الأرض التي خبأتها بين طيات السماء لتُولد شمسٌ، حبو الآلهة في براح الملكوت، حرب الوجود والوجدان وتناحر الكلمات والصمت، الحرف الذي لم يُذكر في الأبجديات، طوي المسافات، صوت الناي والأنين وجبال الحنين الراسيات، صدام الواقع والفرضيات، جواد الخيال ونبي المفردات.
هناك حيث ولد من رحيق الزهور وجريد النخيل وثرى الوطن.. حيث نطق في مهده فقال:
هذه الأرض
إنها مهرة الحب
تخب في سهول الحلم
السيد الذي رعته الآلهة
أحمد سعيد إسبر.. أدونيس.. السيد الذي رعته الآلهة حتى كٌبر فعشقته فاختار الترحال عن البقاء، بشغف يطارد حلمه والسنوات..
لَكِنْ لأَحْلاَمِهِ طَبِيعَةُ الجِبَال
مَحَارَاتٌ وَقَواقِعُ يلفظُهَا مَوْجُ الذَّاكِرَة
الزَّبَدُ يَنْعَقدُ أَسَاوِرَ في مِعْصَم الشَّاطىء
وَالصَّخْرُ صَنَّارَةُ الهَواء
وَرَأَى أَنَّ لأَيَّامِهِ جَسَدًا تَمْسَحُهُ الرِّياحُ بِرِيشِهَ
وَأَنّ دَرْبَهُ غَابَاتٌ تَحْتَرِقُ
«أريد أن أذهب إلى المدرسة»
فى طفولته تأخر فى دخول المدرسة، فتعلم على يد والده القراءة والكتابة وحفظ الشعر، ومن هنا عرف طريقه إلى كتابة الشعر وهو فى عمر صغير.
على بيتنا، كان يشهق صمتٌ ويبكي سكونُ
لأنّ أبي مات، أجدبَ حقلٌ وماتت سنونو.
عندما بلغ الثالثة عشر من عمره ألقى قصيدته الوطنية الأولى أمام الرئيس شكرى القوتلى، الذى أُعجب به وبأدائه كثيرًا، كن الشاعر الشاب أدونيس من إلقاء إحدى قصائده أمام شكري القوتلي، رئيس جمهورية سوريا حديثة التأسيس، الذي كان في زيارة إلى القرية. بعد إعجابه بشعر الصبي، سأله القوتلي عما إذا كان هناك أي شيء يحتاج إلى المساعدة فيه. أجاب الشاعر الشاب:
«أريد أن أذهب إلى المدرسة»
وسرعان ما تحققت رغبته، ومُنح منحة دراسية إلى المدرسة العلمانية الفرنسية في طرطوس. تم إغلاق المدرسة بعد ذلك سنة (1945)، وهي آخر مدرسة ثانوية فرنسية في سوريا في ذلك الوقت، وتم نقل أدونيس إلى مدارس وطنية أخرى قبل تخرجه في العام 1949.
أيها الطّفل الذي كنتُ، تَقَدَّمْ
ما الذي يجمعن، الآنَ، وماذا سنقولُ؟
في العام 1950، نشر أدونيس مجموعته الشعرية الأولى «دليلة»، حيث التحق بالجامعة السورية (صارت الآن جامعة دمشق) لدراسة القانون والفلسفة، وتخرج العام 1954 بدرجة البكالوريوس في الفلسفة. حصل لاحقًا على درجة الدكتوراه في الأدب العربي العام 1973 من جامعة القديس يوسف.
فى عام 1954 حصل أدونيس على إجازة فى الفلسفة من جامعة دمشق، لكنه لم يتوقف بل استمرَّ بالتقدم وحصل فى عام 1973 على شهادة دكتوراه فى الأدب من جامعة القديس يوسف في لبنان
ليس نجمًا ليس إيحاءَ نبيّ
ليس وجهًا خاشعًا للقمرِ
هُوَذا يأتي كرمحٍ (... )
غازيًا أرض الحروفْ
نازفًا يرفع للشمس نزيفهْ
هُوَذا يلبس عُرْيَ الحجَرِ
ويصلّي للكهوفْ
هوذا يحتضنُ الأرض الخفيفَهْ
ويعود يحادث الشمس
أيتها الشمس ماذا تريدين مني؟
الحلم حصان
أثناء خدمته في الجيش في 1955-1956، سُجن أدونيس لعضويته في الحزب السوري القومي الاجتماعي (بعد اغتيال عدنان المالكي)، وكان الحزب السوري القومي الاجتماعي بقيادة أنطون سعادة يعارض «الاستعمار الأوروبي لسوريا وتقسيمها إلى دول أصغر». دعا الحزب إلى مقاربة علمانية وقومية (وليست عربية بحتة) تجاه تحويل سوريا الكبرى إلى مجتمع تقدمي يحكمه الإجماع ويوفر حقوقًا متساوية للجميع، بغض النظر عن العرق أو الطائفة.
أقسى السجون وأمرّها
تلك التي لا جدران لها.
كان أبي فلاّحًا
يحبّ الشعر ويكتبه
لم يقرأ قصيدة
إلاّ وهي تضع على رأسها رغيفًا
الحلم حصان
يأخذنا بعيدًا
دون أن يغادر مكانه.
فى عام 1956 انتقل إلى لبنان والتقى بالشاعر يوسف الخال، وتعاونا معا فى إطلاق مجلة شعر في بداية العام التالي، وفى ستينيات القرن الماضى أصدر ديوان الشعر العربى المؤلف من ثلاثة أجزاء، كما قدم عدة ترجمات فى بدايات السبعينيات منها: «حكاية فاسكو والسيد بويل ومهاجر بريسبان وسهرة الأمثال».
لو أنّ البحر يشيخ
لاختار بيروت ذاكرة له
كلّ لحظة
يبرهن الرماد أنه قصر المستقبل
يسافر،
يخرج من خطواته
ويدخل في أحلامه
كلما هذّبته الحكمة
فضحته التجربة
يرسم خرائط
لكنّها تمزّقه
فى عام 1969 بدأ بإصدار مجلة مواقف والتى استمرت حتى عام 1994، خلال هذه الفترة كتب أدونيس العديد من القصائد التي تركت أثر كبير في الشعر المعاصر، وفي عام 1988 أصدر من دار الآداب في بيروت عدة قصائد مشهورة منها: «أغاني مهيار الدمشقي وكتاب التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار ومفرد بصيغة الجمع».
سأسافرُ في موجةٍ في جَناحْ
سأزور العصور التي هجرتْنا
والسماءَ الهُلاميّة السابعهْ،
وأزور الشفاه
والعيونَ المليئةَ بالثلج، والشفرةَ اللامعه
في جحيم الإِلهْ
سأغيب، سأحزم صدري
وأربطُه بالرّياحْ
وبعيدًا سأتركُ خطويَ في مفرقٍ،
في متاهْ....
فى عام 1994 قدم ديوان أبجدية ثانية وطبعها فى دار توبقال للنشر فى الدار البيضاء بالمغرب، كما أصدر The Pages Of Day And Night بنفس العام كتاب
وبعد عامين أطلق من دار المدى للنشر في دمشق قصيدة بعنوان مفردات الشعر.
واستمر إبداع الشاعر أدونيس فى مطلع القرن الحادى والعشرين وأصدر العديد من الكتب الشعرية منها كتاب أول الجسد آخر البحر، وكتاب تنبأ أيها الأعمى فى عام 2003، وكتاب المحيط الأسود فى عام 2005 والذى جمع فيه مقالات ودراسات تُعبر عن آرائه فى قضايا مهمة مثل الدين والوطن والوجود وغيرها.
عودة للوطن
فى عام 2003 وبعد غياب دام خمسين عام عن وطنه سورية عاد أدونيس إلى أرض الوطن وألقى قصيدة تحولات الصقر في أمسية شعرية حضرها جمهور كبير بقصر العظم في دمشق. وفي عام 2012 أصدر ديوانًا شعريًا تحدث فيه عن القدس المحتلة بين الماضي والحاضر وكان بعنوان كونشيرتو القدس. كما نشر كتاب بعنوان غبار المدن بؤس التاريخ في عام 2015
لِيكُنْ
جاءتِ العصافيرُ وانضَمَّ لفيفُ الأحجار للأحجارِ
لِيكنْ
أُوقظُ الشّوارعَ واللّيلَ
ونمضي في موكبِ الأشجارِ
الغصونُ الحَقائبُ الخُضْرُ والحلْمُ وسادٌ
في عطلةِ الأسْفارِ
حيث يبقي الضُّحى غريبًا ويبقى
وَجهُهُ خاتمًا على أسراري.
ليكُنْ
دَلّني شُعاعٌ ونادانيَ صَوْتٌ
من آخر الأسوارِ....
صَلّيتُ
وَشوَشْتُ حتّى الحجارْ
وقرأتُ النّجومَ، كتبتُ عناوينَها ومحوتُ
راسِمًا شَهْوتي خريطَهْ
وَدَمي حِبْرُها وأعماقيَ البَسيطَهْ
لو أنّني أعرفُ كالشّاعر أن أغيّرَ الفصولْ
لَو أنّني أعرف أن أكلّمَ الأشياءْ
سحرتُ قبرَ الفارسِ الطّفل على الفراتْ
قبر أخي في شاطىء الفرات
ماتَ بلا غسْلٍ ولا قَبْرٍ ولا صَلاهْ
وقلتُ للأشياء والفُصولْ
مُدّي ليَ الفُراتْ
خَلَّيهِ ماءً دافقًا أخضَرَ كالزَّيتونْ
في دَميَ العاشقِ في تاريخيَ المسْنونْ
لو أنّني أعرف كالشّاعر أن أُشاركَ النَّباتْ
أَعْراسَهُ
قَنَّعْتُ هذا الشّجَرَ العاريَ بالأطفالْ،
لو أَنَّني أعرفُ كالشاعر أَنْ أُدَجِّنَ الغَرابَه
سَوّيْتُ كلّ حَجَرٍ سحابَهْ
تُمْطرُ فوق الشّامِ والفراتْ
لو أَنّني أعرفُ كالشّاعر أن أغيّر الآجالْ
لو أَنّني أعرفُ أن أكونْ
نَبْوءَةً تُنْذِرُ أو علامَهْ
لَصِحْتُ يا غمامَهْ
تكاثَفي وأَمْطري
باسْميَ فوقَ الشَامِ والفراتْ
وهل هناك جائزة أكبر من الموهبة؟
خلال مسيرته الإبداعية فاز أدونيس بالعديد من الجوائز والأوسمة ومنها جائزة جان مارليو للآداب الأجنبية في عام 1993 من فرنسا، وجائزة البحر المتوسط للأدب الأجنبي في باريس، وجائزة المنتدى الثقافي اللبناني في عام 1997
في عام 1998 فاز بجائزة الإكليل الذهبي للشعر في مقدونيا والتي تُعتبر من أهم الجوائز الأدبية للشاعر. وبنفس العام حصل على جائزة نونينو للشعر في إيطاليا. كما أنه أول شاعر عربي يحصل على جائزة غوته في عام 2011 في فرانكفورت.
في العام 2007، صنفت «أريبيان بزنس» أدونيس في المرتبة 26 في قائمة أقوى 100 عربي لعام 2007، مشيرة إلى أنه بصفته شاعرًا ومنظرًا في الشعر، وكمفكر يتمتع برؤية راديكالية للثقافة العربية، فقد مارس أدونيس تأثيرًا قويًا، سواء على معاصريه أو على الأجيال الشابة من الشعراء العرب، أصبح اسمه مرادفًا للحداثة التي يجسدها شعره، تعتبر أعماله النقدية مثل» زمن الشعر«(1972) معالم مهمة في تاريخ النقد الأدبي في العالم العربي».
علقت على مسيرة أدونيس:PEN / Nabokov
«من خلال قوة لغته، والجرأة في ابتكاره، وعمق مشاعره، ساعد علي أحمد سعيد إسبر، المعروف باسم» أدونيس«، في جعل العربية والتي هي واحدة من أقدم اللغات الشعرية في العالم، نابضة بالحياة وحديثة. هو صاحب رؤية يحترم الماضي بعمق، وقد عبّر عن موضوعاته المفضلة والمرتبطة بالهوية والذاكرة والنفي في شعر جميل مؤلم، في حين أن عمله كناقد ومترجم جعله جسرًا حيًا بين الثقافات. إن مجموعة أعماله العظيمة هي تذكير بأن أي تعريف ذي مغزى للأدب في القرن الحادي والعشرين يجب أن يشمل الشعر العربي المعاصر».
في يوليو 2021 عن دار "لوسوي" الفرنسية صدر ديوان جديد للشاعر أدونيس بعنوان "أدونيادة" قامت بترجمته وتقديمه الباحثة بنديكت لوتليي مديرة قسم الآداب في جامعة ريونيون. هذه الباحثة المختصّة في الأدب المقارن عقدت صداقة قوية مع أعمال أدونيس الشعرية والنثرية امتدت سنوات طويلة ترجمت خلالها، من مدوّنة أدونيس الشعريّة، قصائد متنوعة، ومن مدوّنته النثريّة نصوصًا مختلفة لعلّ أهمّها كتابه "الصوفية والسوريالية". وقد آثر الشاعر أن يصدر ديوانه الملحمي الجديد في الترجمة الفرنسية قبل الأصل العربي.
نبي المفردات يدون اسمه في دفتر زيارات عبد الرحيم علي
يهدينا ذكرى وكلمات وطموحات
في نهاية عام 2022 استقبله الكاتب الصحفي عبد الرحيم علي في مقر مركز دراسات الشرق الأوسط بباريس وقال عن لقائه: «أشعر بجمال اللقاء وروعته، أسمع أدونيس وهو يقول: الله ليس بحاجة الى من يدافع عنه، بل إلى من يضيئ الدروب إليه،بالفكر المنفتح المحب».
أشعر بالبهجة في وجهه وفي روح الشاعر الكامن بداخله حينما يلتقي رفاقه في استراحة محارب بعد عناء المعارك.. هذا حديث من القلب أنصتت إليه باريس بأكملها.. هذا لقاء للتاريخ يحتاج تدوين.. هذا بيت لقصيدة جمعت كل معان الفكر والإبداع.
استضافة "علي" لـ"أدونيس" حركت الأحلام بداخلهما فاتفقا على:
يتفقان على تبني أربعة مشروعات ثقافية وهي:
أولًا: ترجمة لمختارات من شعر عشرين شاعرة عربية للغة الإسبانية.
ثانيًا: نشر مختارات شعرية لعشرين شاعر عربي يراهم أدونيس أنهم مبشرون بمستقبل كبير للشعر العربي، وذلك في شكل ديوان لكل شاعر يحتوي على كامل تجربته.
ثالثًا: إعادة نشر مختارات من أهم ما قاله الشعراء العرب قديما بداية من امرئ القيس حتى يومنا هذا.
رابعًا: إقامة صالون ثقافي في باريس يُقدم من خلاله الشعراء والمبدعين للعالم.
هذا جزء مبسيط من محطات نبي من أنبياء الشعر الذي قيل عنه: «هناك شعر عربي قبل أدونيس، وهناك شعر عربي بعد أدونيس»، ولا تتسع الأرض ولا السماء إن كانتا صُحفا، ولا البحار ولا الأنهار إن كانتا مدادا ولا القلوب والأرواح إن صارتا مددا أن أكتب عنه، لذا استمحيه عذرا وكم أتمنة لو أَنّني أعرفُ كالشّاعر أن أغيّر الآجالْ، لكتبت له بعد العُمر عمرًا وعمرًا...