مع اقتراب حلول موعد ذكرى رحيل الأرشيدياكون حبيب جرجس، الموافق 21 أغسطس المقبل، تلقي «البوابة نيوز» الضوء على تفاصيل جوهرية، كان لها تأثيرًا فارقًا، في مسيرة الكنيسة المصرية، تفاصيل وقف وراءها هذا الأرشيدياكون العاشق لكنيسته، أبو الإصلاح الحديث، ومؤسس مدارس الأحد.
فهو ابن محافظة أسيوط، بلدة "أولاد إلياس"، مركز صدفا، الذي ولد عام 1876، وتوفي يوم 21 أغسطس 1951، عن عمر يناهز 75 عامًا، وكان من أسرة قبطية سليلة، أنبتت لهذا الجيل آباء كهنة، ورهبان، وأساقفة، وعلماء عظماء في المجال اللاهوتي.
ونلتقي في هذا المضمون مع كمال زاخر، المفكر والناشط القبطي، لنعرف أكثر عن هذه الشخصية الكنسية الهامة، فيقول "زاخر"، إن حبيب جرجس يعتبر واحدًا من رواد التنوير الحقيقيين، لأنه لم يكتف بنقل التنوير، بل عمل عليه، كما اهتم بإعادة تشكيل المقبلين على الكهنوت، من خلال إدارته للإكليريكية، واهتمامه بحركة الترجمة.
ويتابع "زاخر": "وهو الذي وضع الأسس المطلوبة في تشكيل المناهج الروحية، واللاهوتية لمدارس الأحد، ولهذا أثّر في فكر أجيال، وليس جيل، فتلامذته من الجيل الأول هم مَن قادوا الكنيسة فيما بعد، وعلى رأسهم نظير جيد الذي أصبح لاحقًا قداسة البابا شنودة الثالث، والأنبا غريغوريوس، الأنبا صموئيل، وكثير من أساقفة الكنيسة خرجوا من عباءة حبيب جرجس".
وكما يخبرنا عن حياة حبيب جرجس الشخصية، بأنه عاش حياته مكرسًا، لم يتزوج، ولم يكوّن أسرة، في حين كان له أكثر من هذا، حيث الكثير من أبنائه الروحيين الذين أشرف على تلمذتهم، فكانوا خير أساقفة، وكهنة، وخدام للكنيسة.
ويكمل "زاخر"، حديثه بقوله: "حبيب جرجس اختار البتولية دون رهبنة، ورفض الزواج، ليس لموقف سلبي منه، بل لرغبته الشديدة في أن يسلك طريق التكريس، الذي هو طريق موازٍ للرهبنة، ويتمايز عنها في أن المكرس يخصص حياته للخدمة الروحية وسط العالم، دون انعزال عنه، فكان "حبيب" يهدف لنقل خبراته الروحية وسط الناس ولهم".
وفي هذا؛ أكد أن حبيب جرجس، أبرز أهمية الخدمة وسط العالم في موازاة الرهبنة التقليدية، قائلا: "ثمة كنائس قديمة سبقتنا في هذا الاتجاه، وأخرجت لنا الرهبنة اليسوعية، ورهبنة الفرنسيسكان، والدومينيكان، وهي تسمى الرهبنة الخادمة، وأتمنى أن نؤسس بجانب الرهبنة التقليدية هذا النمط من الرهبنة الخدمية".
وعن علاقته بالبابا كيرلس الخامس، يقول الباحث القبطي كمال زاخر: "حبيب كان أحد المقربين من قداسة البابا كيرلس الخامس، وعرض عليه فكرة مدارس الأحد، ولاقت دعمًا كبيرًا من قداسته في مواجهة رفض عدد كبير من الكهنة لها"؛ موضحًا أن البابا حينها تمكن بشخصيته الحكيمة من الانتصار للفكرة، دون أن يدخل في أي صراع معهم.
وفي نفس اتجاه التيار المعلوماتي المتدفق؛ يكشف كمال زاخر لـ"البوابة نيوز"، عن سبب القرب والألفة بين حبيب جرجس، والبابا كيرلس الخامس، قائلا: "يعود السبب لكون «حبيب» كان رئيسًا للشمامسة، وواعظًا مؤثرًا، وعضوًا في المجلس الملي، كل هذا ساهم في بناء جسور ثقة من البابا له".
ويؤكد المفكر "زاخر"، أن كل الأجيال القديمة المُخرَّجة من مدارس الأحد كانوا على علم بأن حبيب جرجس هو مؤسسها، قائلا: "يكفي أن مجلة مدارس الأحد التي أشرف على إصدارها سنة ١٩٤٧م كان لها دور كبير في نشر الثقافة القبطية، والأفكار، والتوجهات الروحية له، ولمجموعته".
ويصل مدى التأثير الإيجابي لحبيب جرجس للطوائف المسيحية الأخرى أيضًا، فيقول «زاخر» أن كل الوعاظ، والخدام من الكنائس البروتستانتية، والكاثوليكية، تأثروا بشكل أو بأخر بتعاليمه، ومنهجيته، مشددًا على أن التطور الخدمي، والروحي الكبير داخل كل الكنائس الآن، هو وليد هذا التأثير العميق الذي أحدثه الأرشيدياكون حبيب جرجس.
ويكشف كمال زاخر، لـ"البوابة نيوز"، عن رأيه في مدارس الأحد ومؤسسها، قائلا: "لا يهمني ما كتبه أو قاله حبيب جرجس، لأنه عمل أعظم من أي قول، فكان رجلا عمليًا، طور من الكنيسة تطورا كبيرًا، ورسخ فيها المباديء القبطية السليمة، وهذا أهم مما قاله أو كتبه".
ويستمر فيقول: "أعتقد أن مدارس الأحد كان وجودها سيتحقق حتميًا، بغض النظر عن وجود حبيب جرجس أو لا، لأن الفكرة كانت موجودة مسبقًا، لأنها دخلت مصر مع الإرساليات الأجنبية".
ويشير "زاخر" لسيرة حياة حبيب جرجس، أنها سيرة تواترية، انتقلت لنا عن طريق تلامذته المهمين، وهم من قادة الكنيسة، وأساقفتها الذين عاصروه وكانوا على دراية بكل تفاصيل حياته الروحية، وأبرزهم البابا شنودة.
وعن محاولة سيامة حبيب جرجس أسقفًا، ورفض الكنيسة لهذا الأمر، شدد "زاخر"، على عدم مسؤولية البابا يوساب الثاني عن هذا الرفض، قائلا: "الرفض جاء من أساقفة المجمع، حيث استكتروا أن يأخذ رجل علماني الأسقفية، وهذا صراع قديم ولازال يتجدد، بل أن نفس هذا المجمع الذي رفض سيامة حبيب جرجس أسقفا، هو الذي عزل البابا يوساب فيما بعد".
ونوه ""زاخر"، إلي أن هذا الأمر لم يُدخِل حبيب جرجس في أي صراع مع الكنيسة فلم يكن لديه الوقت الكافي لمثل هذه الخلافات الشخصية، بل كان محور تركيزه فقط تنفيذ توجهاته الخدمية لمصلحة شباب الكنيسة وأطفالها.
ويكمل بقوله: "الكنيسة الأرثوذكسية وبعد نياحته، انتصرت له، ومنحته القدسية لما له من تأثير روحي فاق تأثير الإكليروس، وباعتباره الأب الروحي لكل أساقفته، ولذلك أرى أنه أخذها عن استحقاق، وهذا دليل على أن القداسة ليست حكرًا على الإكليروس، بل هي لكل من عاش لخدمة الله، والكنيسة".
وردًا على سؤال لـ"البوابة": لماذا لا توجد صور لحبيب جرجس في منازل الأقباط، ولا توجد كنائس على اسمه، إذ كانت الكنيسة منحته التقديس؛ فأوضح كمال زاخر، أن هذا يعود لما اكتسبه الأقباط، خلال القرون الأخيرة، من ارتباط القداسة بما يخص الإكليروس فقط.
كما أجاب المفكر والناشط كمال زاخر، على سؤال لـ"البوابة نيوز"، عن طبيعة الإصلاح الذي قام به حبيب جرجس داخل الكنيسة الأرثوذكسية، مقارنة بالإصلاح الذي قام به مارتن لوثر داخل الكاثوليكية، بقوله: "مارتن لوثر أعلن عصيانه، وخرج من الكيان الكاثوليكي نفسه، أما حبيب جرجس فتمسك بالكيان الأرثوذكسي، دون أي صدام أو عداء معه، عكس لوثر الذي كان صداميًا، وثوريا، وخلق حالة من التمرد سببت انشقاق في الكنيسة، وهذا فرق كبير بين ما يسمى إصلاح مارتن لوثر، وإصلاح حبيب جرجس الذي استهدف تطور كيانه الكنسي دون أن يسبب أي شقاء أو شقاق لكنيسته".
يذكر أن حبيب جرجس أسس "مدارس الأحد" في مصر، عام 1918، حتي يعوض النقص الذي كان يعاني منه الطلبة الأقباط، في دراسة مادة الدين في المدارس الأميرية، وبعض المدارس الأهلية، ولتعليم الأطفال تعاليم المسيحية.
وكتب سلسلتين؛ إحداهما (المبادئ المسيحية)، والثانية (الكنز الأنفس)، وأصدر مجلة (الكرمة)، والتي استمرت 17 عامًا كمدرسة متنقلة من بيت إلى بيت، وهي أول مجلة قدمت ترجمة أقوال الآباء القديسين في الكنيسة.
وتنيح "جرجس"، عشية عيد العذراء في 21 أغسطس 1951، عن 75 عامًا، بعد حياة عاشها في جهاد روحي، وعطاء مستمر في خدمة كنيسته. وتمت الصلاة عليه في الكنيسة المرقسية الكبرى.
وتم إعلان قدسيته بعد مرور 62 عاما على وفاته، في يونيو 2013؛ أصدر البابا تواضروس الثاني، قرارًا بأنه يمكن بناء الكنائس علي اسمه، بالإضافة إلى إمكانية ذكره في مجمع القديسين.