بين شخصيات «حديث الصباح والمساء»، إحدى أكثر روايات الأديب العالمى الراحل نجيب محفوظ شهرة. تبقى «جليلة »، ابنة مرسى الطرابيشى، وزوجة الشيخ الأزهرى معاوية. واحدة من أعظم شخصيات الرواية. والتى ضاعف من صورتها الأيقونية أداء الفنانة الكبيرة عبلة كامل، فى المسلسل الذى حمل الاسم نفسه، وعرض فى عام ٢٠٠١. لكن الرواية كتبها محفوظ على شكل كتاب لشجرة عائلة «النقشبندى» صاحبة دور البطولة فى الرواية.
لم يقسم محفوظ الرواية إلى فصول، ولكنها مقسمة أبجديًا بأسماء شخصيات العائلة، فكان لكل شخصية رقم وحكاية قصيرة، لربما أراد أن يبرهن أن الحياة لن تقف أبدا لدى صفحة أحدهم، سطور قليلة هى حياة كل منهم ثم ستقلب الصفحة على حياة أخرى وأجيال مختلفة وشخوص أكثر اختلافا. ضمن هذه السطور وصف نجيب محفوظ «جليلة» بأنها «جمعت بين التقوى والحب والجنون». وقد اشتهرت فى حيها وبين أفراد عائلتها بإيمانها الراسخ بكرامات الأولياء، ومعتقدات المس والنحس والعفاريت وغيرها من الغيبيات.
انجذب الجمهور، قراء ومشاهدين، لهذه المرأة شديدة البأس حادة الانفعال. جليلة، التى ولدت فى أواخر الربع الأول من القرن التاسع عشر فى باب الشعرية. لأب كان يعمل فى مصنع الطرابيشى الذى أنشأه محمد على باشا فيما أنشأه من مصانع.
كان والد جليلة قريبا للشيخ القليوبى وغير بعيد من بيته بسوق الزلط. فخطب ابنته «جليلة» لابنه الشيخ معاوية الذى كان يعمل مدرسا فى الأزهر. وبذلك كونّت حياة بسيطة لربة البيت القديم بسوق الزلط. والتى اشتهرت فى الحى فيما بعد بـ «جليلة الطرابيشية»، حيث أنجبت من الرجل الأزهرى أربعة أبناء هم بالترتيب العمرى راقية، شهيرة، صديقة، بليغ.
أمّا عن سبب شهرتها، فقد أخذت جليلة طريقها بمفردها. أغرمت بسيرة الأولياء والكرامات والطب الشعبى. وحاول الشيخ معاوية أن يصلح لها أصول دينها. ولكنه من خلال العشرة والمعاشرة الطويلة أخذ أكثر مما أعطاها، فكان يطاوعها وكان يردد وراها بعض التعاويذ. فهى كانت امرأة عنيدة صلبة قوية. وين الشعوذة والشفافية، وقعت 'جليلة' بين طرفى نقيض لا وسط بينهما، اتهمها البعض بالأولى وأرثاها البعض الآخر فى الثانية.
شخصية جليلة اختلفت تماما عن باقى الشخصيات، تمكنت من تطويع موهبتها وشغفها شيئا فشيئا، بعد أن كان يغمرها القلق والخوف بالبداية، لتصبح لاحقا قادرة على علاج الآخرين، بوصفات غريبة، وبخورها الذى كان يعرفه الشارع أجمع من على بُعد، لتمتلك شعبية كبيرة وتكون مقصدا للعديد، من «اللى تعبان واللى عايزنى أرقيه واللى افتحلها المنديل واللى أحللها العقد»، وهو ما كانت تعتبره «نعمة كبيرة ربنا وهبالى».
عاصرت فترة من حكم محمد على باشا. وعهود أبنائه إبراهيم عباس وسعيد وإسماعيل وتوفيق. وبالطبع شهدت الثورة العرابية، ولم يبق من كل هذا فى داخلها إلا هذه الثورة لأن عائلتها الصغيرة كانت صاحبة إنجاز هام ومباشر فيها، حيث إن زوجها 'الشيخ معاوية' كان من أهم رجال هذه الثورة، فعرابى فى رأسها بطل عظيم، تختلط صورته وتتداخل بصور غيره من الأبطال، فهو كعنترة وكالهلالى، فقط إكراما للشيخ معاوية.
ترث منها راضية ابنتها البعد الروحانى اللامرئى فتصبح «سيدة الأسرار الغيبية»، ترث أيضا الفخر بأبيها ودوره العظيم فى الثورة العرابية، ليصبح عرابى وثورته أسطورة لها كرامات لا يستطيع أن يتجاهلها إلا غافل أو معاند، فقط تقديرا لوقوف الشيخ معاوية إلى جواره.
على خلاف ما جاء فى المسلسل، لم تمت جليلة سريعا، بل عمرت وحيدة من الأجيال الأولى حتى نهاية الحكاية التى امتدت لخمسة أجيال، دون أن يُعرف لحياتها المليئة بالمفارقات نهاية هل نهايتها مفتوحة أم مغلقة. لكن، بعد بلوغها 105أعوام، وبعدما فقدت حاستى السمع والبصر، زارتها ابنتها راضية ووجدت المدخل يموج وسط العشرات من قطط ورأت جليلة نائمة على الكنبة مسلمة الروح.