رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الأسعار والزيادة السكانية والخطاب الديني مسائل أخلاقية..!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ليس من الأخلاق ترك الصناع والتجار يربحون بنسب تتجاوز الـ 100% دون قانون يحدد هامش أرباحهم، وليس أخلاقيًا ترك الناس يتوالدون دون ضابط أو رابط فى مجتمع قلت موارده وضعفت حيلته الاقتصادية، وليس من الأخلاق ترك الخطاب الدينى لمن يقبضون على الماضى قبض الجمر لا لشىء إلا لأنه قد منحهم سلطة جعلت من الدين تجارة يفتحون بها أبوابًا ربما عزت على (علي بابا وعصابته الأربعين).
لخص أمير الشعراء أحمد بك شوقى القضية برمتها فى الأخلاق عندما قال: (إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا)؛ ذلك أن الأخلاق أشمل وأعم من التشريعات والقوانين التى تضع معايير الحلال والحرام والجائز وغير الجائز والمباح والممنوع.
أى أن الأخلاق هى من ترسم وتحدد قيم المجتمع ومن ثم منح قوانينه وتشريعاته وهى جوهر ما توافق عليه الضمير الجمعى لكل أمة، فإذا كانت القوانين والتشريعات تعمل على إقامة مبادئ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص والحرية فإن ذلك يعنى أننا بصدد أمة لها أخلاق، فإن كان حال القوانين والتشريعات غير ذلك نصبح أمام أمة ذهبت أخلاقها وبحسب أمير الشعراء تكون النتيجة الطبيعية ذهاب الأمة إلى حيث لا رجعة، حتى تصح أخلاقها وتستقيم قيمها.
الأخلاق هى المرجعية الأولى لكل شىء وليس سواها وهى الضابط والرابط الأشمل لسلوك البشر، بل ويخبرنا علماء الحيوان أن لكل مجموعة من حيوانات البرية أخلاقياتها وقوانينها التى تحدد مسار العلاقات بين أفرادها.
بعيدًا عن حديث الشعراء والفلاسفة، عندما ترك أمر الأسعار لمعيار الحلال والحرام بحسب هوى وفهم فئة الصناع والتجار لم يلتزم لا بمحددات السوق والقدرة الشرائية لزبائنهم ولا حتى بمعيار البعد الإنسانى وأصبحنا نرى فى مصر صناع ومستوردين وتجار يربحون بنسب تتجاوز 100%؛ هم لا يعتبرون أنفسهم لصوص تسرق أموال الناس عنوة وغصبًا، فلم يشهروا سلاحًا ولم يمدوا أيديهم فى جيب أحد وفوق ذلك لم يجبروا أحد على شراء بضائعهم فكيف يكون مالهم حرامًا؟!.
وجعل كل تاجر يحدد هامش الربح بما يتراءى له، وقد يعتقد أيضًا أن تبرعه لمسجد أو جمعية خيرية أو حتى لأسرة فقيرة مبرر كاف ليحصل على أرباح بقيم تتنافى مع بديهيات أى سوق اقتصادية حولنا فى الدول المحيطة أو فى العالم.
وبالطبع لا يوجد خطاب دينى يحرم تلك المعدلات القياسية من الأرباح اللا معقولة تمامًا كما لا يوجد قانون يحدد هامش الربح الذى ينبغى أن يحصل عليه كل أطراف السلسلة بدءًا من الصانع أو المستورد مرورًا بتاجر الجملة وصولًا لتاجر التجزئة.
من المهم الإشارة هنا إلى أن حكومة المهندس شريف إسماعيل قد أعدت مشروعا لهامش الربح غير أن شهبندرات التجار فى الغرفة التجارية المصرية حاربوا مشروع القانون ونهشوا الحكومة حرفيًا واتهمومها عبر أدواتهم الإعلامية بأنها تريد العودة بالبلاد إلى زمن التسعيرة والنظام الاشتراكى مع العلم أن قوانين هامش الربح موجودة فى أغلب الدول الرأسمالية ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالاشتراكية أو تحديد التسعيرة لأنها تحدد فقط هامش الربح وعلى المتنافسين فى السوق أن يتنافسوا تحت سقف هذا الهامش الذى يحدده القانون بحسب طبيعة كل سلعة.
وظنى أنه لو خرج مشروع قانون الحكومة بهامش الربح إلى النور طبعًا مع إصلاح الجهاز الإدارى من موظفى تفتيش وزارة التموين وجهاز حماية المستهلك لكانت مصر ورغم كل هذه الأزمات الاقتصادية بسبب التضخم العالمى والأزمة الأوكرانية من أرخص دول العالم.
آن الأوان لإصدار هذا القانون خاصة وأن سياسة إغراق السوق بالسلع وفتح المزيد من منافذ البيع والتوزيع لم تحدث تغييرًا جوهريًا، فمازال كبار التجار وأباطرة السوق يفرضون كلمتهم الأخيرة على المستهلك.
مؤخرًا تحدث الرئيس عبد الفتاح السيسى عن هامش الربح وطالب التجار والصناع والمستوردين بالقبول بهامش معقول وفى رأيى لابد وأن يتحول حديث الرئيس إلى تشريع قانونى ملزم للجميع.
الأمر ذاته بالنسبة لقضية الزيادة السكانية فإذا كانت لدينا آراء فقهية يخبرنا بها أستاذ الفقه المقارن فضيلة العالم الجليل د. سعد الدين الهلالى تجيز ما يسمى بالإجهاض الرضائى أى برضى المرأة وزوجها وفى هذه الحال بتوافق مجتمعى لما تسببه معدلات الزيادة السكانية الفائقة من إضعاف للاقتصاد المصرى وتحجيم لقدرته على النمو؛ فلماذا لا نواجه هذه القضية بتشريع يشترك فى صياغته علماء الاقتصاد والسكان والاجتماع والانتروبولوجيا يحدد عدد المواليد للأسرة (طفلان مثلًا) ويصدر معه تشريع آخر يبيح الإجهاض حال الحمل فى الطفل الثالث حتى تتفادى الأسرة عواقب ولادته والتى منها تحمل كافة أعبائه من مرحلة الولادة إلى ما شاء الله.
إذا كانت الزيادة السكانية باتت خطرًا قائمًا يعيق الأمة عن التقدم فمن الأخلاق مواجهتها بتشريعات وقوانين صارمة ولنا فى تجارب الأمم التى عانت من هذا الخطر الأسوة الحسنة.
أما الخطاب الدينى السائد حاليًا فلولاه ربما ما كانت عندنا مثل هذه المشكلات من جشع التجار والإفراط فى الإنجاب وكلها ذات طابع قيمى وثقافى بالدرجة الأولى، لذلك لم يعد من الأخلاق ترك أمره لمجموعة نسميها رجال دين بأنهم يخفون من التراث جواهر وكنوز ولا يخرجونها إلا لتبييض وجههم أو غسيل موقف، منها على سبيل المثال ما عرفت بفتوى حق الكد والسعاية؛ وهم فى المقابل لا يظهرون من التراث إلا ما يعزز سلطتهم ونفوذهم وسيطرتهم على عقول العامة.
رجال الدين لم يساهموا فى عملية صياغة الإطار العام لأخلاق الأمة المصرية ولم يبذلوا جهدًا يذكر إلى جانب المثقفين والمفكرين بل على العكس من ذلك لم يألوا جهدًا لوأد كل محاولة جادة فى مهدها.
ولو أن قضية الأخلاق كانت تشغل رجال الدين لما كانت مشاهد هذا الانحطاط الأخلاقى المتكررة فى حياتنا بدءًا من الجريمة الأسرية ومرورًا بمعاملات التجار فى الأسواق وصولًا إلى سلوك أغلبنا، وقبل ذلك كله لما صدرت فتوى رسمية تجيز دفع الرشوة للموظف المرتشى من أجل الوصول إلى حقه، هذه الفتوى وإن قيدت الرشوة للحصول على الحق وليس السطو على حقوق الآخرين إلا أنها تعكس بشكل صارخ كيف أن أصحابها غير معنيين أصلًا بقضية الأخلاق بل إنهم على استعداد كامل لمحاربة كل ما هو أخلاقى إذا تعلق أمره بالمساس بسلطتهم ونفوذهم وبضاعتهم التى يجنون من وراءها كنوز الدنيا ونعيمها.