في تراث الشعر العربي، منذ ما قبل الإسلام إلى نهاية العصر العباسي، كنوز وجواهر لا ينبغي للأجيال الجديدة أن تجهلها. نقدم كل يوم بيتا من عيون الشعر القديم، مصحوبا بإضاءة قليلة الكلمات، في محاولة لتحقيق التواصل الضروري والاستمتاع بعصير الحب والحكمة والموت.
41 – حسان بن ثابت
" لا عيب بالقومِ من طولٍ ومن عظمٍ
جسم البغالِ وأحلام العصافيرِ "
القوة والضعف مفهومان متناقضان متنافران، بقدر ما أنهما متكاملان متداخلان. ما القوة؟. هل تكمن في الجسد وعضلاته، أم أن مصدرها العقل ومعطياته؟. بالبغال قد يُضرب المثل في متانة البنيان، لكن هذا لا يعني شيئا بالنظر إلى فساد العقل وتهافته. المحصلة النهائية لا شيء، وكم من البشر الذين يوحي ظاهرهم المادي بالقوة والجلد والقدرة غير المحدودة على التحمل وخوض المعارك والانتصار فيها، وتسقط بهم هشاشة العقل إلى القاع القريب من الحيوانية الخالصة، فلا براعة في التمييز والتقييم تقود إلى الصحيح الرشيد من القرارات والمواقف.
بيت حسان هجائي من طراز فريد، وعندما يتحدث قدامى النقاد عن "أهجى بيت" في الشعر العربي، يظهر الشاعر ببيته هذا في القائمة المرشحة، منافسا للأفذاذ من محترفي الهجاء المبتكر الموغل في القسوة والتحامل.
ليس أدل على شيوع الشطر الثاني:"جسم البغال وأحلام العصافير"، من إدمان ترديده عند وفرة من المعاصرين محدودي العلاقة بالشعر. أغلب الظن أنهم يجهلون اسم الشاعر ومضمون قصيدته، لكن المعنى يروقهم فيستعينون به في مواقف شتى، تمثل دليلا عمليا على الثنائية المتلازمة، القوة والغباء، ما يستدعي السخرية والتهكم. كتلة من القوة الغاشمة تمتزج بقصر النظر، والنهاية المنطقية هي السقوط في بئر الضياع والتخبط.