الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الأنبا بطرس فهيم يكتب: التربية على الحرية

بطرس فهيم
بطرس فهيم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الحرية هي قيمة أساسية من قيم الحياة، بل هي ما يعطي قيمة للحياة نفسها، فلا حياة بلا حرية ولا حرية بلا حياة. فالحياة تنمو وتترعرع في جو من الحرية وبغير الحرية تختنق وتموت، وكم من الناس ضحوا بحياتهم في سبيل حريتهم وحرية إخوانهم وحرية أوطانهم. فمهمتنا الأولى والعظمي هي أن نتعلم نحن ونعلم أولادنا والأجيال القادمة ما هي الحرية ونربيهم عليها. فكل ديانة وكل تربية لا تعلم الناس ما هي الحرية هي ديانة وتربية لا تستحق هذا الاسم. فيسوع نفسه يقول: "إذا ثبتم في كلامي، صرتم حقا تلاميذي: تعرفون الحق والحق يحرركم ... إن حرركم الابن صرتم أحرارا حقا" (يوحنا 8 : 31 – 36). ويقول القديس بولس "فالرب هو الروح، وحيث يكون روح الرب، تكون الحرية" (2 كور 3 : 17). وفي مكان آخر يقول: "فالمسيح حررنا لنكون أحرارا. فاثبتوا، إذا، ولا تعودوا إلى نير العبودية ... فأنتم، يا أخوتي، دعاكم الله لتكونوا أحرارا، ولكن لا تجعلوا هذه الحرية حجة لإرضاء شهوات الجسد" (غلاطية 5 : 1 و 13).
يعتبر بعض الشباب أنهم أحرار حين يمكنهم أن يختاروا بين فيلم وآخر ليشاهدوه، أو بين مشروب غازي وآخر ليشربوه مع شطائر البيتزا التي يختارون بين أنواعها المختلفة، وبين خط وآخر من خطوط الموضة، وبين شاطئ وآخر للمصيف، وبين ملهى وآخر لقضاء سهرة نهاية الأسبوع، أو بين ناد وآخر ليشجعوه، أو بين ماركة وأخرى من ماركات السيارات المشهورة. وعند هذا الحد تقف حدود وآفاق حريتهم. فهل هذه هي الحرية؟
يعتبر الناس أن العالم الأوربي والغربي عموما هو عالم حر. لأنه يتمتع ببعض ممارسات لبعض مظاهر الحرية مثل حرية الاعتقاد وحرية التعبير وحرية الحركة، وحرية الاختيار ... إلخ. ورغم ذلك مازال هذا العالم يشعر بأنه تنقصه الكثير من الحرية أيضا. وبقدر ما يزداد العالم تقدما يخلق له أنواعا جديدة من العبوديات التي يصنعها لنفسه أو للآخرين ويضع الكثير من البشر خلف قضبان حديدة أو معنوية اشد وأقسى من الحديدية أحيانا. فكم من البشر خارج أسوار السجون ولكنهم مقيدون بألف قيد وقيد. فمن هو أسير أفكاره ورؤاه، ومن هو أسير عاداته الضارة والشريرة، ومن هو أسير فكر اقتصادي استهلاكي، ومن هو أسير مشاعر نرجسية أنانية قاتلة، ومن هو أسير مجتمع الإنتاج، الذي يعتبر قيمة الإنسان فيما ينتج ويملك، وليس فيما هو عليه من قيمة في ذاته وكيانه الشخصي، وهناك من هو أسير المخدرات والإدمان بأنواعه الكثيرة، ومن هو أسير آراء الناس وأفكارهم فيه وعنه، ومن هو أسير علاقات ضارة وشريرة لا يستطيع التخلص منها ... إلخ؛ ولذلك قال أهل التربية والتعليم "من بنى مدرسة أغلق سجنا". والمدرسة هنا مقصودة ليس بمعناها الضيق، بل بمعناها الواسع، بكل ما تحمل من معاني فكر وتعليم وسلوك ومبادئ وتربية ... إلخ، وهكذا يعتقد أهل الثقافة والفكر والدين.
وحين تلعب الدول الديكتاتورية، أو حتى بعض المجتمعات وبعض الأنظمة، وأحيانا حتى بعض المجموعات وبعض الأشخاص، على معادلة الأمن في مقابل الحرية، أو لقمة العيش في مقابل الحرية، تخلق بشرا مشوهين خائفين، ولهذا يرددوا مقولات مثل: "من لا يملك قوته لا يملك حريته"، وأيضا "من لا يملك سلاحه لا يملك حريته". وهنا هذه الأوطان تخلق مجموعة من المقهورين؟ أو مجموعة من المجرمين، أو مجموعة من الجائعين، وفي كل الأحوال مجموعة من البشر المهدورين، وليس البشر الأسوياء.
لا يربي على الحرية إلا الأحرار حقا. والمسيحية هي ديانة الحرية، والمسيحيون يجب أن يكونوا أحرارا حقا لان المسيح حررهم من كل ما يقيد الإنسان: من الخطيئة، والشر، والخوف، والشريعة، والموت نفسه. كان هو نفسه حرا من كل شيء حتى من ذاته وطلب من كل من يتبعه إذا أراد أن يتبعه أن "ينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعه" وهذا هو المعنى الأسمى للحرية. فالإنسان المسيحي الحقيقي، الإنسان الحر الحقيقي، لا يتسلط عليه شيء ولا أحد حتى ولو كان في غياهب السجون مقيدا بألف قيد وقيد، وعليه ألف حراسة وحراسة، فالحرية الحقيقية هي حرية القلب والعقل والروح، حتى وإن كان الجسد مقيدا. والتربية على الحرية تعني، بلا شك، أكثر من مجرد تعليم الإنسان كيف يختار بين الأشياء أو بين المواقف، أو كيف يتخذ القرار الصحيح، بل هي في الأساس تعليمه كيف يكون ما هو عليه في الحقيقة، أي أن يكون ويعيش كابن لله، في كل شيء، وفي كل موقف، وفي كل وقت، وأمام وفي الحياة كلها.
والله يعشق التعامل مع الأحرار، ولذلك قبل أن يقطع عهدا مع إسرائيل حرره من عبودية مصر في حدث الخروج، ومن عبودية الشر في العهد مع نوح. وجدد هذا العهد مطلقا في الحرية الكاملة والمطلقة مع المسيح في العهد الجديد، فإلهنا هو إله أحياء وليس إله أموات، إله أحرار وليس إله عبيد. لا يهوى الله التعامل مع العبيد فخالق الحرية، لا يريد عبيدا شعبا له، بل يريد أبناء أحرار أحياء. لذلك حرر الله في المسيح البشرية كلها وصيرها خليقة جديدة، وإن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. فالعبيد لا يرثون الملكوت بل الأبناء، وقد تبنانا الله في المسيح لكي يمكننا أن نصير ورثة فيه ومعه. وموضوع الحرية والميراث واحد من أهم الموضوعات اللاهوتية عند القديس بولس الرسول.
وقد علمنا السيد المسيح كيف تكون الحرية في أعمق صورها، ليس فقط في اختياراته الأساسية: حيث اختار الفقر كأسلوب حياة بدلا من الغني، وحيث اختار أن يكون بجانب الفقراء والضعفاء والمهمشين، بدلا من أن يكون بجانب الأغنياء والأقوياء وذوي السلطان. واختار صف الخاطئين والضعفاء، بدلا من صف الأبرار والكاملين أو الذين يدَّعون ذلك. وصف العلمانيين ومن لا يعرفون الله، وليس صف رجال السلطة والدين. ليس في هذا فقط، بل حين قرر الناس، ظلما، أن يخونوه، ويبيعوه، ويتكتلوا ضده، ويحكموا عليه كمجرم، لم يتقمص دور الضحية المسكينة ويتشكى، فمن قَبِلَ أن يلعب ويعيش دور الضحية صار بالفعل ميتا. ولكنه (يسوع) بكل إباء وكرامة ملوكية، قبل الأمر بكل حب وبكل طاعة لمشيئة الآب وحول كل ذلك إلى ذبيحة حب وطاعة حتى الموت، الموت على الصليب، لذلك رفعه الله وأعطاه اسما يفوق كل اسم في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، لتنحني لاسم يسوع كل ركبة ممن في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض (فيلبي 2 : 1 – 11). هذا هو سر الحرية الأعظم أن تحول كل ما هو ضعف وشر وألم وموت إلى شفاء وفداء وخلاص وحياة. إنها الحرية الجذرية وليست الحرية الشكلية أو بعض مظاهر وممارسات لبعض أشكال وتجليات الحرية. ولكن ما يدعونا إليه يسوع هو شيء أعمق بكثير، هو شيء مختلف تماما، إنه يدعونا أن نشارك في حرية الله ذاتها، هذا ما عاشه يسوع، وما يدعونا لان نشاركه فيه ونعيشه نحن أيضا، كل على مستواه وبحسب مسيرته الشخصية أو الجماعية والكنيسة. فهل لنا فكر يسوع وقلب يسوع بحيث نتعلم نحن كيف نعيش ونساعد من نعلمهم ومن نربيهم على أن يتبنوا هذا الفكر وهذا الأسلوب؟
وقد ظهرت في الكنيسة الكثير من التيارات الفكرية والروحية واللاهوتية التي تساعد على تحرير الناس والشعوب من أساليب متنوعة ومختلفة من العبوديات المادية والسياسية والمعنوية. فالإرساليات قامت بمجهودات كثيرة من أجل تحرير الكثير من الشعوب، وكثير من الرهبانيات عملت الكثير في الرسالة من اجل تحرير الناس والعمل التنموي والاجتماعي. ولا أحد ينكر فضل لاهوت التحرير في توجيه انتباه الناس والكنيسة إلى الفئات والمجتمعات الأكثر فقرا في مختلف قارات العالم. الكنيسة ليست بعد المجتمع الحر كاملا كما أراده يسوع، وهي مدعوة لأن تكون حرة حقا، وتحرر الناس بنيها أولا، ثم بعد ذلك البشر في العالم كله، فهي آية للحرية وللخلاص. وللأسف في مرات كثيرة نراها بعيدة عن كيانها الشفاف هذا، وعن رسالتها العظيمة هذه، ولذلك نراها عرضة دائما للاتهامات من كل صوب. فعليها أن تراجع وتحرر نفسها، في مسيرة توبة حقيقية متواصلة وعميقة وشاملة، كما أرادها مخلصها ومحررها يسوع، لتكون أمينة لدعوتها ومخلصة وفعالة ومؤثرة في رسالتها. فعلى الكنيسة أن تراجع نفسها، هل عملت مثل معلمها ووقفت دائما إلى جوار ضحايا الظلم والقهر والعنف والاستغلال؟ هل كانت نصيرة للحق؟ هل كانت خادمة للمحبة التي لا تعني الضعف والخوف والاستكانة أمام قوى الظلم والشر؟ وهل لم تكن هي ذاتها من يقسوا ويظلم أحيانا ويخلف وراءه ضحايا كثيرين من كل نوع وبنسب متفاوتة؟ لقد كان القديس البابا يوحنا بولس الثاني شجاعا عندما طلب باسم الكنيسة الغفران واعتذر، بمناسبة يوبيل سنة 2000، عن كل المآسي التي سببتها الكنيسة والأخطاء التي ارتكبتها في حق الناس على مر تاريخها. نحتاج أن نستمر في هذا النهج نصحح أخطائنا ونتوب عن خطايانا. لكي يعود فيتلألأ على وجه الكنيسة نور يسوع الطريق والحق والحياة، وتصير هي مثل معلمها نورا للعالم وملحا للأرض (يوحنا 9 : 5، متى 5 : 14 – 16).