عرضت قنوات التليفزيون خلال شهر رمضان مسلسلًا تليفزيونيًا، يحكي بطولات المقاتل المصري في دفاعه عن تراب الوطن، وشرف الأمة، تجاه الإرهاب الأسود الذي تتعرض له البلاد، بطل هذا المسلسل هو شخصية حقيقية، إنه البطل الشهيد أحمد المنسي. والواقع أن مثل هذه الأعمال الفنية تسهم بقدر كبير في تشكيل وجدان الناس وشحذ نفوسهم بطاقات إيجابية. لذلك انتبه صُنَّاع السينما في الغرب، وبخاصةٍ السينما الأمريكية، إلى أهمية أثر مثل هذه الأعمال في رفع الروح المعنوية لدى المواطنين، وتمجيد بطولات مقاتليهم. فنجد كافة الأفلام السينمائية التي أُنتِجَت لعرض بطولات قوات الحلفاء في مواجهة العدوان النازي وطغيانه، كان يحرص صُنَّاع تلك الأفلام على أن يبقى أبطال الفيلم على قيد الحياة حتى نهايته مهما خاضوا الأهوال وحاقت بهم الإخطار، في حين ندرك منذ الحلقة الأولى ونحن نشاهد مسلسل «الاختيار» أن البطل الذي استحوذ على التعاطف الشديد من قِبَل المشاهدين بسبب مهاراته القتالية العالية، وسلوكه القويم، وأخلاقه الراقية، ووطنيته الأصيلة، سوف يموت في نهاية المسلسل، وهذا في ظني يعطي طاقة سلبية للمشاهد، على عكس ما يستهدفه العمل.
كنت أود أن يتم تخليد ذكرى الشهيد البطل أحمد المنسي من خلال إنتاج فيلم تسجيلي يؤرخ لحياته وبطولاته واستشهاده. أما المسلسل الدرامي الذي تعرضه الشاشات التليفزيونية العربية في رمضان «الاختيار» فإنني أرى أنه كان من الأفضل أن يقوم ببطولته شخص تتجلى فيه كل صفات الشهيد أحمد المنسي التي شاهدناها في المسلسل، ولكن لا يطلق عليه اسم المنسي حتى لا ترتبط نهايته في أذهاننا بموته، وإنما يكون البطل ممثلًا لأحد مقاتلينا الأبطال، الذين هم مازالوا على قيد الحياة والذين نتوجه بالدعاء إلى المولى أن يحفظهم ويحميهم ويبقيهم أحياءً، حتى ينعموا بالنصر المظفر على الإرهاب.
لا شك أن أفراد الجيش المصرى سواء كانوا جنودًا أو ضباطًا هم وقوات الشرطة المدنية تحملوا وما زالوا يتحملون العبء الأكبر في مواجهة هذه الهجمات الإرهابية الشرسة على بلادنا. وقدموا وما زالوا، كثيرًا من الشهداء الأبطال الذين افتدوا مصر بأرواحهم الطاهرة، فالمقاتل المصرى يقف على الحدود في ظل ظروف بالغة القسوة. ومن ثمَّ لنا أن نتخيل حال فرد القوات المسلحة وهو في الصحراء والخلاء في سيناء أو على حدودنا الغربية في ظل موجة صقيع قاسية، أو موجة حر عاتية، وفى ظل تهديد غادر بالموت من قِبل جماعات إرهابية لا تعرف الرحمة إلى قلوب أفرادها طريقًا.. وإذا كان لى أن أتحدث عن نفسى، فإننى قد خدمت بالقوات المسلحة لمدة أكثر من خمس سنوات، واشتركت في حرب ٧٣ وهذا مصدر فخرى واعتزازى.. وعلى ضوء تجربتى الشخصية أدرك قوة المقاتل المصرى وصلابته، وتماسك عقيدته القتالية ومتانتها.. ومن ثمًّ فإن النقد ـ إذا كان ثمَّة نقد ـ ليس موجهًا إلى المقاتل المصرى، وليس في وسع منصف أن يقلل من تضحيات القوات المسلحة المصرية وقوات الشرطة المدنية المصرية في ظل هذه الحرب الفاصلة التى تخوضها مصر ضد قوى الإرهاب على المستويين المحلى والعالمى. ولكن علينا أن نخرج بدروس مستفادة من كل ما نمر به وما يمر بنا من تجارب ومحن مهما بلغت قسوة وشدة التجارب والمحن.. لأن الضربة التى لا تقتلنى ينبغى أن تقوينى.. ولا أكتفى بالصراخ والنحيب حتى تأتى لا قدر الله ضربة تالية تقتلني!!
إن دماء شهدائنا تصرخ مطالبة بالقصاص.. والقصاص لا يكون بالصراخ والنحيب.. القصاص يتم بإعمال العقل.. والتخطيط العلمى، والاستفادة من الأخطاء ومحاولة تجنبها، وبناء العقول قبل الجدران.. وتحقيق العدالة والرخاء والإخاء بين الناس.
لا شك أن معنى ومغزى الهجمات الإرهابية اليوم لم يختلف كثيرًا عن دلالات هجمات الأمس، إذ تتمثل في كونها رسالة من تحالف دولى آثم يضم دولًا معروفة بالاسم تدعم جماعات إرهابية مأجورة أو مغيبة فكريًا أو مقهورة اجتماعيًا، تحالفت معًا تحت راية الدم والدمار تستهدف إيهام الرأى الخارجى باضطراب الأوضاع الأمنية في مصر، وعلى المستوى الداخلى تسعى لتخفيف الضغط على العناصر الإرهابية في سيناء بسبب النجاح الذى حققته القوات المسلحة الباسلة بالتعاون مع أبطال قوات الشرطة في تطهير بؤر الإرهابيين التكفيريين في كافة أنحاء سيناء.
إن الإرهاب ليس قنبلة ومسدسًا وحزامًا ناسفًا فقط.. بل أخطر أنواع الإرهاب: الأفكار المتعصبة التى يتم ترويجها داخل بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا وإعلامنا، بمباركة بعض أجهزة الدولة لصالح فكر دينى معين مناهض لكل الأديان والمعتقدات والأفكار الأخرى.
ولكى ننجح في معركتنا ضد الإرهاب.. ولا نكتفى بمحاربة الإرهابيين، ينبغى التصدي لتلك العناصر التي تحرص على تكفير كل تفكير.. وتروج لفكر دينى يعادى كل مخالف.. عناصر تتعاطف وجدانيًا وفكريًا مع التعصب والتشدد.. عناصر لا مانع لديها أن تنضم ـ إذا أُتيحت لها الفرصة مرة ثانية إلى جماعات وتجمعات واعتصامات تنادى كما نادت من قبل بتطبيق الشريعة.
إن قتال الإرهابيين بالبندقية والمدفع لن يفضى وحده إلى القضاء على الإرهاب، إن لم يصاحبه في الوقت ذاته تجفيف المنابع الفكرية للإرهاب. إننى أود أن أؤكد أن الأمن والأمان لا يتحققان من خلال قوات الشرطة والجيش فقط، رغم جهودهما الرائعة وتضحياتهما النبيلة، وإنما يتحقق حصار الإرهاب والقضاء عليه بمحاربة الأفكار الهدامة التى تغذيه. علينا قبل أن نعرف كيف يهاجم الإرهابى ضحاياه، أن نبحث ونتقصى عن الأشخاص الذين نجحوا في زرع كل هذه الكراهية في عقله وقلبه، وما زالوا يزرعون هذه الكراهية في عقل وقلب غيره من الشباب المصري، وسنجد مروجى الفتنة والكراهية هؤلاء - للأسف الشديد - ملء السمع والبصر، يحتلون مراكز مرموقة في الجامعات ووسائل الإعلام، فضلًا عن المدارس بمراحلها كافة. هؤلاء وأولئك يُفـَرِّخون إرهابيين ودواعش.
أرجو ألا يُفهم من كلامى أننى أدعو إلى التهاون مع من يحمل السلاح، بل إننى أطالب بأن تكون حربنا مزدوجة، نحارب بلا هوادة كل من يحمل سلاحًا، ونضرب بنفس القوة والشدة كل محرض على اعتناق أفكار متطرفة معادية للمجتمع والآخر، فالذى يحمل السلاح ليس وحده الإرهابي، وإنما لا يقل عنه إرهابًا دعاة الأفكار الظلامية، مغيبى العقول، ومضللى الشباب، المتسربلين بعباءة الدين، والدين منهم براء.
إن الإرهاب لا يقتصر على إطلاق الرصاص فقط!!