ضمن فعاليات الدورة الثانية والعشرين من مهرجان الفنون الإسلامية بالشارقة، والذى جاء تحت شعار «مدى»، أقيمت ندوة حواريّة بعنوان «حوار الفنّ» مع الفنّانين المشاركين في هذه الدّورة، وسلّط خلالها 11 فنّانا الضّوء على تجاربهم الفنيّة وما تتضمنه أعمالهم من مخزون فنى يحيل إلى التأمل والانطلاق نحو عوالم بصرية تتوارى وراء المكان في حيز مفتوح لا نهاية له، ينبثق منه مدى فكرى ووجدانى، إضافة إلى تقديم شرح مفصل حول أعمالهم الفنية المميزة.
استهل الأمريكيان «وييد كافانا وستيفن نوين» النّدوة فعرضا ثمرة عملهما المشترك «دراسة التراكيب». وأُنجِزَ العمل من محور دوّار خشبى مغلّف بالخشب الرّقائقى، ومن فوقه تمّ التّلاعب بمعدن قياس رقيق (الألومنيوم أو النحاس أو البرونز) لصنع تمثال ضخم بدا وكأنه مزيج من شكل طبيعى وكائن من العصور القديمة.
يقول الفنّانان: «عندما ننجز تجهيزا فنيا، يكون هدفنا مراعاة كل مساحة المعرض وتنشيطها باستخدام العمل الذى يملأ المعرض، وبالنسبة لهذا العمل فإننا نتصور إنشاء نموذج نفق طبيعيّ (شجرة) يسير عليها المشاهد، ويعبر من خلالها عندما يدخل مساحة العرض، ومع خروج المشاهد من النفق ونظره إلى المكان الذى جاء منه، سيرى نظاما جذّابا يحاكى الأنماط المتكررة المميزة للفن الإسلامي، وينبثق العمل من نموذج واحد (جذع شجرة) إلا أنه ينتشر عبر المعرض لإنشاء بيئة غامرة».
من جانبها، أوضحت الفنزويلية «ماجدالينا فرنانديز» أنها استقت فكرة عملها من الحركة المستمرة للبحر وكثافة مياهه، حيث تمثّل الأمواج، وفقا لفرناندز، تنفّس كوكبنا، ويشبه إيقاعه العمليّة السحرية للولادة والتحول والبعث، والتى تحافظ على سيرورة الحياة. بهذا المعنى، ترى الفنانة أن البحار ساحات للمغامرة والاكتشاف والاتصال والبعد، وتتجسد كأماكن حدودية توضح جغرافية الأرض، وتحيط بالوجود الإنسانى وتحميه. تقول الفنانة: «لطالما نُظرَ إلى البحار، بعمقها ومداها اللامتناهى، وثراء الحياة التى تضمّها، على أنها مناطق غامضة لا يمكن استكشافها بشكل كليّ، كما أنها تلمّح بالتساوى إلى تجارب الصفاء أو العنف الشديد، والتى تسمح بالاعتراف بجمال الطبيعة وفهمها، وإدراك قوتها وجبروتها».
وشرحت الأمريكية «جينى كريمنس»، تفاصيل العمل الفني «البحث عن الجمال» بقولها: «في عملى أقوم بتصنيع الأشياء بتفاصيل يدوية دقيقة تتناقض مع بساطة المواد المستخدمة، ومن خلال إعادة استخدام أدوات تسويقية تعود إلى ثفافة المستهلك، قمت بتمزيق أظرف ومغلفات وكتالوجات يصعب إعادة تدويرها لأنّ أحبارها تحتوى على تركيزات عالية من المعادن الثقيلة، ومن ثم استخدمتُ هذه المواد في أعمالي، حيث عملتُ على لفّ وطيّ وخياطة الأجزاء الممزّقة، وحوّلتُها إلى نقوش منحوتة متآلفة، لتصبح أعمالا مستقلّة وأعمالا تركيبية تجذب المشاهد إلى عوالم صغيرة، ولكن لا نهاية كأنّها المدى».
فيما قدّم «إيريك ستاندلي» من خلال عمله «الجوهر لا ينتظر» أمثلة مادية للجوهر قبل الوجود، حيث يتجاوز النموذج الأصلى الدلالة المحلية والفورية، ويستدعى القلب ليشهد على الشىء اللامتناهى، كما يبدأ جلب النموذج الأصلى ليؤتى ثماره من الأصالة التجريبية التى تدين الوهم أو الارتقاء بالذات. يقول ستاندلي: «أعتبر هذه القيم مرتبطة ارتباطا وثيقا بالفن الإسلامى، وتنعكس في الأنماط الهندسية لعملي. وفى الواقع، فإن الـ«مدى» متأصل في ممارستى الفنية حيث أسعى إلى ابتكار قطع أثرية تشهد على الكون، وتكون مستنيرة بالوحدة والإيقاع والترابط بين كل الحياة الواعية. كما أتعامل مع مشاريعى مثل الآثار، وأكشف بحذر عما هو مألوف وغير مرئى على حدّ سواء».
واستعرض الفنان الإسبانى «خوسيه كارلوس» تجربته الفنية التى حملت عنوان «التراث» وهو عمل ينتمى إلى ثقافة تراثية محضة، فقد استخدم اللوح الأموى الجلدى المذهب لقناعته بأنه صلاة مستمرة مليئة بالضوء، وتعج بالفروع والأوراق المقدسة وتعبيرات الليالى المظلمة. يقول: «اللوح الجلدى المذهب هو مشهد من الأشكال التى ينتهى بها المطاف في الجمال، يمتد منذ بدء العمل على اللوح وانتهاء بإنجازه حد الكمال».
أمّا «مبنى ينمو» للفنان المصرى أحمد قرعلى، فهو نحت في المدى، نسيج باذج في المخيلة والتنفيذ، يتفرّع في كلّ اتجاه مثل أغصان الشجر، وقد كان المقرنص مادة للنمو والتكاثر في العمل أكثر منه مادة ذات وظيفة معمارية. هذا العمل علم بلغة الفن، وفنّ بلغة العلم، تدنو بالقرب منه فتشعر أنك تقف تحت مبنى متكامل الأركان، ثم ترى إلى الفكرة كيف انسكبت نبعا، وتعالت، في كلّ اتجاه، بناء شاهقا يصل طوله إلى عشرة أمتار، فيما يستند إلى قاعدة عرضها ١٢ مترا، وعمق يبلغ ١٢ مترا أيضا. يقول قرعلي: «المشروع المقدم جزء من مشروع نحتى أكبر استكمله تباعا في كل عرض، محاولا تطوير الشكل المعمارى في الحضارة الإسلامية من وجهة نظر نحات، متخيلا مدينة كاملة مستوحاة من هذا الإرث الفني. وعن عمله الثانى المشارك به في المهرجان الموسوم بـ«روح المدينة» يقول قرعلي: «يعدّ العمل نحتا أكثر منه إنستاليشن، حيث تم تفريغ النحت من كتلته ما جعله طائرا في الهواء، بالخامات الجديدة «الشيفون والنور». يشكّل النور ثلاثة أرباع الخامة، وهو ما يحدد الأشكال كلها، وإذا اختلف النور من أى اتجاه يختلف التكوين كله». ويتابع: «أعمل على المدينة، ومن ثم كل عام أقدم قطاعا جديدا لمفرداتها بطريقة تتناسب مع العصر. وقد فكرت أن هذه المدينة لا بد أن تكون لها روح معينة، إلى أن اهتديت هذا العام إلى أن النور هو الروح التى تعطى إحساسا بأن من يرى العمل يشعر بالقوة وقت الصلاة والعمل».
هذا وناقش المعرض الخطّى «عليم» للمصرى عبد الرحمن الشاهد، الأفكار والمفاهيم المتعددة كقيم مهمة للإنسانية، وتظهرها بوسائط مختلفة ورمزية عميقة، وتشكّل الحروف العربية أداة تواصل مهمة في خطابه الفنى المعاصر.
يقول الشاهد حول المعرض:
«يعد الخط في جوهره من أعظم صور تجريد الكلمة ومعانيها، وهو جدير بالغوص في مكامن الاحتمالات الشكلية والمضمونية وإظهار جمالياتها، وحين النظر إلى الكلمة المقدسة ومحاولة التعاطى معها رمزيا، نجد مثالا في قوله تعالى: «وفوق كل ذى عليم عليم» - الآية ٧٩ من سورة يوسف- خير مثال لفكرة التراتبية ومداها».
يدلّ معنى الآية على أنه فوق كل عالم من هو أعلم منه حتى ينتهى ذلك إلى الله، وجاء في سياق الآية نفسها: «نرفع درجات من نشاء» إشارة بصرية لما يمكن أن تكون عليه التراتبية في الدرجات أو المراتب، وهو ما يتناوله المعرض للتعبير عن مضمون الآية، وامتدادها اللامتناهى للعمل ومنازله.
ويستعيد السورى محمد حافظ، من خلال معرضه «رحلات من حاضر غائب إلى ماض مفقود»، سلسلة من ذكريات الطفولة في بلده الأصلى سورية، ويظهر في الأعمال وجهات نظر متباينة عن البلاد التى مزقتها الحرب، مستخدما أدوات بسيطة كالأثاث المصغّر، وشخصيات الحركة، ومفاتيح البيانو، ومكونات الراديو القديم، فضلا عن مكونات طبيعية مثل الباذنجان المجفف. وتتميز أعمال الفنان السورى بالتفصيل الدقيق، وصولا إلى حديد التسليح الملتوى الذى يخرج من قطعة الخرسان التى تبدو وكأنها قصفت، كما تظهر جانبا مدمّرا بالكامل، كما لو أنه تضرر نتيجة قذيفة مدفعية. وأوضح حافظ حول تناوب الانطباع المتولد عن العمل بين السخط والقلق، بابتسامة تنم عن معرفته بالأثر الذى تتركه أعماله على المشاهد، بأنّ «هذا الانطباع هو المطلوب تماما».
ويكوّن الخطّ المغربى ذو الأسلوب «المغربى المبسوط» أى المبسّط الذى يسهل قراءته؛ معرض «قيروانيات» للتونسيان عمر الجمنى وعامر بن جدو، وهو ذاته الخط الذى يُكتب به القرآن الكريم في جلّ المصاحف في منطقة المغرب العربي، ويشتمل المعرض على عدة أساليب خطيّة، منها المجوهر والمبسوط والثلث المغربى والزمامى وأخيرا المجوهر الجليل.
المحافظة على هذا الخط، والخشية من اندثاره، دفعا الحركة الفنية في تونس إلى إعادة إحياء الخطوط التونسية التى تتبلور الآن تحت عناية مجموعة من الخطاطين التونسيين، وكانت الجمعية التونسية لفنون الخط قد أصدرت خطا مطبعيا ألحق بالحاسوب وهو «الخط القيرواني» الذى سطّره بن جدّو.
و أكدّ الفنانان أن الخط المغربى انفرد بجمال خاص لا نجده في خطوط أخرى بحكم تنوع أساليبه في خط واحد على مرّ العصور، وتتجلى رؤية هذا المعرض على تطوير المشهد الجمالى فيه بعدما اكتشفت الإمكانيات الرحبة التى تتخلّله.