الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

وصايا أصحاب «نوبل» ويسلاو سزيمبروسكا 4

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كما رفض مارلون براندو جائزة الأوسكار عن دوره في فيلم (الأب الروحي) احتجاجا على تشويه الأمريكيين للهنود الحمر، رفض جان بول سارتر الجائزة التى كانت لجنة نوبل قد قررت منحه إياها احتجاجا على الحرب الأمريكية في فيتنام.




كما رفض تولستوى كل الترشيحات التى أتت بعد عام ١٩٠١ حينما تجاوزته اللجنة في الترشح لها في ذلك العام، وكذلك برنارد شو الذى اعتذر أيضا عن قبول الجائزة لأنها تأخرت عن موعدها.
لم يكن تولستوى وحده الذى تجاوزته اللجنة ولم ترشحه لنيلها، بل كان هناك أيضا إميل زولا، وهنرى جيمس، وفيرجينيا وولف، وهنرك إبسن، ودبليو إتش أودين، وجراهام جرين، وفلاديمير نابوكوف، وإيتالو كالفينو، وآرثر ميلر، وبول فاليري، وآنا أخماتوفا، وفيليب روث، وآخرون، ودائما ما كانت اللجنة تؤكد في كل مرة على أن للخيارات ما يبررها.
تناقض آخر تمثل في منح الجائزة لجونتر جراس في عام ١٩٩٩ حيث ألقى محاضرة - وهو الذى أمضى حياته المهنية ممثلا لضمير أمته- عند تسلمه الجائزة أثارت جدلا وجلبة عظيمة ونقاشا واسعا، حيث كشف فيها عن أنه أمضى خدمته العسكرية في الشهور القليلة قبل نهاية الحرب العالمية الثانية في قوات العاصفة (النازية).
وفى تقليد يتبع منذ أن تم الإعلان عن الجائزة يحدث أن يلقى الفائز كلمة أو خطابا يحمل نكهة كتاباته وفكره، وعمقا أخلاقيا يبرز نزاهة فكرية وإنسانية.
ومع اقتراب موعد إعلان جوائز نوبل، والذى يكون في أكتوبر من كل عام، ويتسلمها الفائزون بها في شهر ديسمبر ننشر خطابات عدد من الكتاب الذين حصلوا عليها، تلك الخطابات التى نقلها للعربية عبدالإله الملاح تحت عنوان 

(محاضرات نوبل)
وكما يقول عبد الإله الملاح مترجم الكتاب: ولئن كانت محاضرات نوبل للآداب مهرجانا من المخيلة الشعرية وفن اللغة فإن السياسى يلازم الانشغال بالجمالى خطوة بخطوة.
والكتاب على درجة كبيرة من الأهمية، نظرا لما يحتويه من خطابات لأبرز الشخصيات الأدبية العالمية وما لهذه الخطابات من قدرة غير عادية على توصيف معاناة العالم وعذابات البشرية التى تتمثل في الحروب العسكرية والاقتصادية وأحلام الدول الكبرى في الهيمنة والسطو على الثروات والثقافات وانتشار الفقر والمجاعات والضحايا.
إن هذه الخطابات لم تأت أبدا لتكون مجرد كلمة في طقس احتفالى يشهده العالم بمناسبة حصول كاتب من هنا أو هناك على أرفع جائزة أدبية على وجه الأرض، ولكن هى مختصر مفيد لكل ما ينشده الكتاب والأدباء في رواياتهم وقصصهم وأشعارهم وهى بمثابة ناقوس أو صرخة أو نداء بضرورة النظر إلى هذه العذابات والعمل على تخليص البشر منها لينعم الإنسان بحياة في عالم خال من المآسي.


وفى الحلقة الأولى نشرنا خطاب الكاتب الكبير الراحل نجيب محفوظ، الذى كتبه بمناسبة حصوله على الجائزة، وفى الحلقة الثانية كان خطاب الكاتبة نادين جورديمير وفى الحلقة الثالثة نشرنا خطاب الكاتب الإسبانى خوزيه ساراماجو واليوم ننشر خطاب الشاعرة البولونية ويسلاو سزيمبروسكا المولودة في كورنيك في غرب بولونيا عام ١٩٢٣ ونشرت ست عشرة مجموعة شعرية منها (لذلك نحن أحياء، ملح، لا ناهية للمتعة، ناس على الجسر، مشهد وذرة رمل) وتستقصى في قصائدها عوالم كالأخلاق والشرط الإنسانى في كل مجتمع. حصلت سزيمبروسكا على جائزة نوبل عام ١٩٩٦ ووصفتها الأكاديمية السويدية بأنها تكتبت الشعر بدقة تهكمية تتيح للسياق التاريخى والبيولوجى الظهور في شظايا الواقع الإنساني.
وإلى الخطاب:
يقولون إن الجملة الأولى في أى خطاب تكون دوما الأصعب، وإذا فهذه باتت على كل حال ورائي. إلا أنه يراودنى شعور بأن الجمل التى ستلى الثالثة والسادسة والعاشرة..الخ، وحتى السطر النهائى ستكون بالقدر ذاته من الصعوبة، ما دام يفترض بى أن أتحدث حول الشعر. لقد قلت القليل جدا عن هذا الموضوع في الواقع مجرد بعض الشيء عن اللاشيء وكان يخالجنى كلما قلت شيئا ريبة تتسلل إلى بأنى لم أكن أجيد ذلك أبدا. ولذلك ستكون محاضرتى أقرب إلى الاختصار. فمن الأيسر احتمال أى قصور عن الكمال إن قدم بمقادير صغيرة.
يجنح الشعراء المعاصرون إلى الشك والريبة وربما خصوصا فيما يتعلق بأنفسهم وآية ذلك أنهم لا يقرون بأنهم شعراء إلا بعد لأى وكأنهم يخجلون من الإشارة إلى هذا. بيد أنه في أزماننا هذه ذات الصخب والجلبة فإن من الإقرار بعيوبكم على الأقل إن تم تغليفها بصورة جذابة، أسهل من إدراك فضائلكم، لأن هذه مخفية في الأعماق وأنتم أنفسكم لا تعتقدون حقا بها.. وحين يملأ الشعراء الاستبيانات أو يتحدثون إلى غرباء أو بقول آخر حين لا يملكون تفادى الكشف عن مهنتهم ويؤثرون استخدام المصطلح العام «كاتب» أو الاستعاضة عن كلمة «شاعر» بلقب أى عمل يمتهنه المرء إضافة إلى الكتابة. ويستجيب البيروقراطيون وركاب الحافلات بشيء من الريبة والتوجس وحين يجدون أنهم إنما يتعاملون مع شاعر. وأحسب أن الفلاسفة ربما يصادفون رد فعل مشابه ومع ذلك، فهؤلاء في وضع أفضل من وضع الشعراء لأنهم يستطيعون في كثير من الأحيان تزويق رسالتهم بلقب علمى ما. أستاذ الفلسفة والآن أصبح هذا لقب أدعى إلى الاحترام.
ولكن ليس هناك أساتذة يتخصصون في الشعر. ولو كان ثمة أمر كهذا لكان مؤداه في النهاية، أن الشعر مهنة تتطلب دراسة اختصاصية وامتحانات منظمة ومواد نظرية ومراجع وهوامش وأخيرا شهادة تخرج تقدم وسط احتفالات ومراسم وكذلك سوف يعنى هذا بدوره أنه ليس يكفى أن يملأ المرء الصفحات ولو بأجمل القصائد حتى يغدو شاعرا لأن العنصر الحاسم في هذا قطعة من الورق تحمل خاتما رسميا دعونا نستذكر أن فخر الشعر الروسى والحائز على جائزة نوبل فيما بعد جوزيف برودسكى قد حكم عليه ذات مرة بالنفى الداخلى بالضبط لمثل هذه الأسباب، وقد نعتوه بأنه طفيلى لأنه كان يفتقر لشهادة رسمية تمنحه الحق بأن يكون شاعرا.
قبل عدة سنوات كان لى الشرف والسرور بلقاء برودسكى شخصيا، وقد استلفتنى أنه كان دون كل من عرفتهم من الشعراء الوحيد الذى استمتع بالتعريف بنفسه كشاعر ولفظ الكلمة دونما حرج.

بل إنه على العكس من ذلك كان يلفظ الكلمة بحرية تفصح عن ازدراء بالخطر ويبدو لى أن هذا إنما كان بسبب من تذكره ما خبره من إذلال قاس في شبابه.
في بلدان تتمتع بقدر أوفر من حسن الحظ وحيث لا تتعرض كرامة الإنسان للعدوان في أول مناسبة يتوق الشعراء طبعا إلى نشر نتاجهم الشعرى وأن يحظوا بقراءة قصائدهم وفهمها إنما لا يأتون إلا بالقليل إن أتوا بشيء على الإطلاق ليضعوا أنفسهم فوق القطيع وجرش الأسنان كل يوم، ومع ذلك فلم يكن في الماضى البعيد، بل في العقود الأولى من القرن العشرين، إن كان الشعراء يجهدون لإثارة صدمة فينا بأزيائهم المبهرجة وسلوكهم الغريب. ولكن هذا كله لم يكن إلا من قبيل الاستعراض العلني. فكانت هناك دوما اللحظة التى يغلق فيها الشعراء الأبواب من خلفهم ويخلعون عباءاتهم وبهارجهم وسوى ذلك من أسباب الزينة ويواجهون صامتين صابرين منتظرين ذواتهم الأصلية صفحة الورق البيضاء الساكنة. لأن هذا ما يحسب له في النهاية الحساب.
إنه ليس مصادفة أن يتم إنتاج السير المصورة لكبار العلماء والفنانين وبشكل كبير، أما المخرجون الأكثر طموحا فيسعون إلى التكرار المقنع للعملية الإبداعية التى أدت إلى اكتشافات علمية مهمة أو ظهور تحفة فنية. وقد يفلح المرء في أن يصور أنواعا معينة من الجهد العلمى مختبرات وأدوات مختلفة وآلات دقيقة تبعث إلى الحياة وقد تستأثر هكذا مشاهد باهتمام الجمهور لمدة من الزمن أما لحظات الشك تلك فهل تؤدى التجربة التى أجريت آلاف المرات مع بعض التعديل في النهاية إلى النتيجة المطلوبة؟ إذا يمكن أن تكون مثيرة جدا وقد تكون الأفلام التى تتحدث عن الرسامين ذات تأثير بصرى عظيم، وهى تمضى في بعث كل مرحلة من مراحل تطور لوحة شهيرة، بدءا من الخطوط بقلم الرصاص حتى ضربات الريشة الأخيرة. وتزدحم الموسيقى في الأفلام التى تتناول الموسيقيين والأنغام الأولى التى تفتتح بها القطعة الموسيقية ويكون لها وقعها في أذنى الموسيقى تبرز أخيرا عملا ناضجا في شكلها السيمفونى، هذا كله طبعا محض سذاجة ولا يفسر الحالة الذهنية الغربية المعروفة بين الناس بالإلهام ولكن هناك على الأقل ما يتم النظر إليه والاستماع له.
إلا أن الشعراء هم الأسوأ في هذا كله فعملهم كله صورته منفرة على نحو لا ينفع معه رجاء. ترى أحدهم يجلس إلى طاولة أو يضطجع على كنبة محدقا بلا حراك في جدار أو سقف وبين حين وآخر يخط هذا الشخص سبعة أسطر ليشطب واحدا منها بعد خمس عشرة دقيقة ثم تمضى ساعة أخرى وأثناءها لا يحدث شيء... فمن يستطيع أن يحتمل مشاهدة مثل هذا؟
ذكرت الإلهام. يجيب الشعراء المعاصرون مواربة حين يسألون عنه وإن كان يوجد حقا وليس الأمر أنهم لم يخبروا نعمة هذا الدافع الكافى في الأعماق قط. ولكن المسألة أنه ليس من اليسير تفسير ما لا تفهمه أنت نفسك لشخص آخر.
أحيانا أحلم بأوضاع لا يمكن أن تتحق، فأجرؤ وأتخيل مثلا أنه أتيحت لى فرصة الحديث مع كاتب سفر الجامعة (في العهد القديم) الذى ينعى كل ما في الجهود الإنسانية من غرور ولو التقيت به لانحنيت أشد الانحناء أمامه لأنه في النهاية أحد أعظم الشعراء على الأقل بالنسبة لي.
ولسوف ألتقط يده حين ألتقيه لقد كتبت أيتها الجامعة: «لا جديد تحت الشمس ولكنك أنت ذاتك قد ولدت جديدا تحت الشمس». والقصيدة التى وضعتها أنت هى أيضا جديدة تحت الشمس طالما أنه ليس هناك من كتبها قبلك. كذلك قراؤك جميعهم جدد أيضا تحت الشمس، طالما أنه لم يكن بوسع من سبقوك أن يقرأوا قصيدتك، وشجرة السرو التى أنت جالس تحتها لم تكن تنمو منذ فجر التاريخ. بل وجدت بفضل شجرة سرو أخرى شبيهة بالتى لديك ولكنها ليست مماثلة لها تماما وبودى أن أسألك أى جديد تحت الشمس تعتزم أن تكتبه الآن؟ أهو ملحق إضافة إلى ما بسطته من الأفكار من قبل؟ أو لعل هناك ما يغريك الآن بمعارضة بعض ما كنت قد كتبته؟ في قصيدتك الأسبق ذكرت الفرح – فماذا لو كان هذا زائلا؟ إذا فلعل قصيدتك عن الجديد تحت الشمس تكون عن الفرح؟ أتراك دونت ملاحظاتك بعد، وهل تحتفظ بمسودات؟ الحق أنى لأشك بأنك ستقول: «قد دونت كل شيء، وليس لدى ما أضيف» فليس هناك من شاعر في العالم يستطيع أن يقول هذا، أو على الأقل شاعر عظيم مثلك.
العالم مهما يكن ما قد نفكر به حين يخيفنا واتساعه وعجزنا أو يجعلنا نحس بالمرارة لعدم اهتمامه بعذاب الفرد أو الناس أو الحيوان بل وربما حتى الكواكب، ولماذا نحن واثقون أشد الثقة بأن الكواكب لا تشعر بالألم، ومهما اعتقدنا باتساع رقعته التى اخترقتها أشعة النجوم المحاطة بكواكب بدأنا لتونا باكتشافها كواكب ميتة من قبل؟ هل ما زالت ميتة؟ إننا لا نعلم ومهما فكرنا في هذا المسرح المترامى الأطراف والذى لا يمكن قياس أبعاده وحجزنا البطاقات من أجله، إنما بطاقات مداها الزمنى قصير إلى حد يدعو للضحك وهى محكومة بموعدين تحددا بصورة اعتباطية ومهما قد نذهب بالتفكير في أمر هذا العالم إنه مذهل.
ولكن مذهل كلمة على شاهدة تخفى فخا منطقيا. فنحن مندهشون بعد كل شيء بأشياء تنحرف عن بعض الأعراف المعروفة والمسلم بها على وجه الإطلاق من بديهية نشأنا على اعتيادها وها قد بلغنا الفكرة الكامنة وراء هذا كله وهى أنه ليس هناك شيء يقال عنه إنه عالم واضح ودهشتنا قائمة لذاتها وبذاتها ولا تستند إلى مقارنة مع شيء آخر.
حقا إننا لا نتوقف في حديثنا اليومى لننظر في كل كلمة فنحن جميعا نستخدم عبارات «العالم العادي» و«الحياة العادية» و«مجرى الأحداث العادي».. أما في لغة الشعر حين تكون كل كلمة لها وزنها فلا شيء «عادي» أو «طبيعي» وليس ثمة من حجر واحد ولا سحابة واحدة فوقه. لا يوجد نهار واحد ولا ليلة واحدة بعده وقبل ذلك كله ما من وجود وحيد فلا وجود لأى كائن في هذا العالم.
يلوح أنه سوف يكون لدى الشعراء دوما عملهم الذى أعد من أجلهم.