الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

دماء على جدران الشيخوخة!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أثناء مُطالعتى أهم الأخبار بالصحف السيارة والمواقع الإلكترونية لأستخلص من جولتى خلالها موضوع مقالى الأسبوعى، راعنى خبرٌ مفزع جمَّد الدمَ فى عروقى، وجفَّ بسببه اللعابُ فى فمى، فصرتُ لا أقوى على الكلام، لكنه كان من يُمن طالعى أن وسيلة التعبير بين الكاتب وقرائه هى الكلماتُ المكتوبة، وليست المنطوقة، ولولا الأمر كذلك لصرتُ أشبه بأبكم لا يملكُ إلا الإشارة والصراخ، وهيهات لمن يسمعه أن يفهم ما يريد!
وهولُ الخبر جاء من مواضع عدة: أولها أنه يتعلقُ بامرأة عجوز لا تقوى على صدٍ ولا ردٍ، كانت زوجة لشاعر عظيم ملأ الدنيا وشغل الناس، إذ يُعتبر من أبرز شعراء جيل الستينيات فى مصر، حيث تنوعت أعماله بين مقالاتٍ نقدية، وقصص أطفال، وشعرٍ عذب، ينساب كما ينساب الماء الرقراق فيروى الأرض الظمأى، ألا وهو الشاعر محمد عفيفى مطر صاحب دواوين «الجوع والقمر»، و«يتحدثُ الطمي»، و«رباعية الفرح، و«احتفالية المومياء المتوحشة»، وكلُها قصائد تضجّ بالألم والفزع والكوابيس والرؤى المقتولة، والأمانى المغدورة، ووجوه الأحبة الموتى، والمدن التى يسكنُها الأشباح، كما لو كان صاحبُ تلك القصائد يتوقع قبل رحيله ما سيجرى لرفيقة دربه وشريكة حياته!
والغريب أن حادث مقتل أرملة عفيفى مطر تزامن مع ذكرى الوفاء بالأم، أى أم، تلك المرأة، التى سهرت لينام أبناؤها، وجاعت ليشبعوا، ونحل جسمُها ليسمنوا، وانطفأ بريقها لتضيء شموسهم، وعطشت ليرتوا، ومرضت لتصح أبدانُهم، فجاءت تلك الحادثة المُفجعة - والتى تجرد مرتكبوها من كل معانى الرحمة والشفقة، حيث كبلوا يدى تلك العجوز التى ناهزت السبعين من عمرها وهشموا رأسها - لتكشف عما وصل إليه المجتمع من عقوقٍ وجحود، ونكران للجميل، وانقلاب للموازين، وانعدام لقيم، وضياع لمبادئ، فلم تعد هناك رحمةٌ بصغير، ولا احترام لكبير، وطلت علينا بوجهها القبيح جرائمُ بشعة ما كنا نسمع عنها بين أسلافنا!
إن ذكرى عيد الأم تُؤكد بلا شك معنى الأمومة التى تعنى التضحية والوفاء وغيرهما من المعانى التى تترسخ فى فؤاد الأم بمجرد أن يصير الطفلُ جنينا فى أحشائها، تلك المعانى التى عبر عنها القرآن أبلغ تعبير بقوله سبحانه: «ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمُه وهنًا على وهن»، وبقوله أيضًا «حملته أمه كُرهًا، ووضعته كرهًا»، وبعيدًا عن الإغراق فى التفسير، فإن الآية الأولى تكشفُ أروع معانى التضحية؛ لأن بقاء الجنين فى بطن أمه يزيد فى قوته يومًا بعد يوم، بينما يزيدُها هى ضعفًا على ضعف، ويبرزُ فى الآية الثانية معنى الصبرُ، إذ إن حملَ الأم لجنينها فى بطنها تسعة أشهر يُضعفها ورغمًا عن هذا تصبر، ووضعَها له يُؤلمها ورغمًا عن هذا تصبر أيضًا؛ لتنعم برؤيته بعدما يخرج من ظلمة الرحم ليرى نور الحياة.
إن حادثة كتلك تجعلنا نتحسر على ما آلت إليه أخلاق مُجتمعنا، والتى انحطت عن أخلاق الحيوانات؛ لأن الإنسان يُربى كلبًا فيفى له، وحمارًا فلا يرفُسه، وقطة فلا تعضه، وربما أسدًا ضاريًا فيئن لفراق صاحبه، ويسعد بلقائه أيما سعادة، فتراه يحتضنُه ويشمه ويُقبله، والسؤال: أتكون الحيوانات أوفى من بنى الإنسان، أترفع البهيمة العجماء حافرها عن صغيرها حتى لا تؤذيه، ونقتل نحن الصغار والكبار بدم بارد؟
إن ذكرى عيد الأم لا بد وأن توقظ فينا معانى الإنسانية والرحمة والتضحية والفداء اعترافًا بفضل الأمهات، وتوقظَ فينا أيضًا معنى البر تجاه أمنا مصر، التى عقها كثير من أبنائها، فأذبلوا خُضرتها، وقبَّحوا نضارتها وبهاءها، وأبدلوا جمالها قُبحًا ودمامة بما اقترفوه فى حقها من سلب ونهب، وإهمال وفوضى، وأنانية وأثرة، وتشويه لكل جميل، رسمه وحافظ عليه أسلافنا!