الثلاثاء 28 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

العالم والكمال

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ونواصل حديثنا: إذا كان هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة، فكيف نفسر وجود الشر وهو سائد فيه؟ كانت إجابة "ليبنتز" – عن السؤال ـ رداً على بعض المفكرين المحدثين، أمثال "ديكارت" R. Descartes (1596 – 1650) و"مالبرانش"
N. Malebranche (1638 – 1715) وأيضاً "بيل" P, Bayle (1647 – 1706)، الذين يعتبرون وجود الشر فى الكون أمراً لا مفر منه، وأن العالم ليس على الكمال الذى نأمله. فهم يقولون أن التجربة تكشف لنا أن العالم ليس خيِّراً بالصورة التى يزعم بها أصحاب مذهب "التفاؤل". فالكوارث التى تحدث تجعلنا نتصور – بسهولة – عالماً أكثر كمالاً من عالمنا. غير أننا لو افترضنا أن الله مضطر إلى تصور عالم أكثر كمالاً من عالمنا، فإن ذلك يدل على أن حريته محدودة. وهذا محال – كما رأى "ليبنتز" – ولا يجوز إثباته، لأن معرفتنا بالزمان ضئيلة لا معنى لها، كما أن ما نعرفه عن التاريخ لا يمثل شيئاً ذا قيمة تذكر؛ فنحن لا نعرف إلا جزءاً بسيطاً من الأزل. يقول: "ليس لى أن أوافق رأى بعض الكتَّاب المحدثين الذين يؤكدون أن ما يفعله الله ليس أكمل ما يكون، وأن بإمكانه أن يفعل ما هو أفضل. وتبدو لى نتائج مثل هذا الرأى متعارضة تماماً مع مجد الله" Glory of God.
وحول مسألة "مجد الله" هاجم "بيل" رأى "ليبنتز" السابق وقال: "أى مجد يمكن أن يُنْسَب إلى الله، والإنسان تعس وآثم، وأنه فى كل مكان توجد السجون والحروب والأوبئة؟ وتاريخ الإنسانية ما هو إلا سجل حافل بالجرائم وخيبة آمال الجنس البشرى. والمجد الحقيقى هو الذى ينحصر فى أن يحقق الله للبشر النظام والسلام والطمأنينة، أما المجد الذى يستمد من شقائهم فليس إلا مجداً زائفاً.
وقد رد "ليبنتز" على هذا الاعتراض بأن مملكة الله أفضل مملكة ممكنة، إذ تهيمن عليها الفضيلة والسعادة على أكمل وجه وفقاً لما يقتضيه "مبدأ الأفضل". وليست الشرور وضروب البؤس التى يسمح بها – لأسباب عليا – شيئاً يذكر إذا ما قورنت بضروب الخير، بل أنها تؤدى إلى ضروب أكثر من الخير. ولما كان من الواجب أن توجد هذه الشرور، فقد وجب أن يوجد أشخاص يكونون موضوعاً لها. إذن، ليس هذا مجداً زائفاً كمجد الملك الذى يهدم نظام مملكة لكى يبنيه من جديد. إن الخير فى حياة الإنسان يفوق الشر، والأرض تمتلئ بالمساكن أكثر مما تمتلئ بالسجون. ومن عيوب المؤرخين أنهم يهتمون بضروب الشر أكثر من الخير، حيث يتخذون ذلك وسيلة إلى الوعظ والإرشاد.
من هنا أراد "ليبنتز" التأكيد على أن الشر يمكن أن يبدو كارثة لا تُحتَمل حين ننظر إليه من الخارج – أى من خلال مظهره الجزئى – غير أن الأشياء لا تُقاس بمدى وقعها فى النفس وإنما تُقاس بنسبتها إلى النظام العام الشامل الذى يمتد عبر الزمان ؛ هذا النظام يجعل من وجود الشر باعثاً على خير أكبر وأكمل فى العالم.