السبت 21 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

الساخرون أكثر الناس همَّا.. أدباء ولكن ظرفاء

شكوكو
شكوكو
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

أول ما يتعين علينا معرفته والقطع به في مجال الأدب الساخر أن هدفه ليس الإضحاك البحت، وأنه لا ينتج عن شخصيات خفيفة العقل أو سمجة الخلق، فالسخرية نفسها تختلف عن الفكاهة التي يقصد منها الترويح المجرد عن النفس وقتل الوقت دفعًا للملل، إن السخرية مواجهة بالكلمات وهجاء غير مباشر للموضوع الذي نسخر منه، وقد حاول ألفرد أدلر عالم النفس الشهير وتلميذ سيجموند فرويد أن يحلل السخرية أو يرجعها كانفعال مركب إلى الغرائز البسيطة التي تتكون منها فقال: "هي خليط من انفعالين هما الغضب والاشمئزاز؛ فنحن إذ تثور فينا غريزة النفور نشمئز، فإذا عدا الشيء الذي أثار اشمئزازنا على صفاء عيشنا من أية ناحية بعث فينا غريزة المقاتلة والانفعال المقترن بها وهو الغضب فدفعا بنا إلى السخرية مما بعث اشمئزازنا أو ممن أثاره في نفوسنا، ولا يخلو هذا من عنصر الزهو لأننا ننزع إلى الرضا عن أنفسنا عقب مطاوعة السخرية والانسياق معها.

وكل ما يضحك فهو هزل ولكنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما ليس له غرض إلا الإضحاك فحسب وهو ما يطلق عليه الفكاهة، والآخر له غرض واضح وهو السخرية؛ فالنكات التي يمكن أن تكون لمجرد الإضحاك فقط هي فكاهة ليس إلا، أما التي بقصد اللذع والإيلام فهي السخرية، وقد تجمع النكات بين الغرضين.
وتمتزج السخرية بالهجاء من الوجهة الوظيفية فكلاهما يؤدي نفس الدور غير أنهما يفترقان من حيث المادة؛ فالهجاء طريقة مباشرة في الهجوم على العدو، ولكن السخرية طريقة غير مباشرة في الهجوم.
الظرفاء والأدب الساخر في مصر
عرف الشعب المصري ولا يزال بحسه الساخر الذي يواجه به ضغوطات الحياة وكل صنوف القهر التي عانى منها سواء تمثلت في سطوة وجبروت بعض الحكام أو في ظروف اقتصادية معقدة هي نتاج طبيعي لقلة الموارد وكثافة السكان، وقد تفنن المصريون في صناعة النكتة لدرجة أن الساخر الكبير أحمد فؤاد نجم سماها بـ (النكتة لوجيا) وكأنها أصبحت علمًا قائمًا بذاته.

وقد وظف المصريون النكتة في السخرية من كل حكامهم تقريبًا، ولأن المثل عندنا يقول "يوضع سره في أضعف خلقه" فقد كان للنكتة سرها العجيب في النيل من الحكام الذين شعروا نحوها بالعجز رغم وفرة ما لديهم من وسائل القمع والتنكيل، وعلى مدار التاريخ المصري الحديث وجدنا ساخرين كبارًا استطاعوا أن يجعلوا من السخرية فنًا أدبيًا له رواده وأساليبه المميزة، وهو على ما يتسم به من المرح لكنه يعد في منتهى الرصانة فهو ليس من قبيل التهريج والاستخفاف وإنما غرضه أن يكشف أوجه الزيف والفساد ويعري بعض أصحاب النفوس الضعيفة؛ فالسخرية أدب غاضب وحزين والساخرون هم أكثر الناس همًا وأعمقهم حزنا، وحسبنا في ذلك أن نعيد قراءة السيرة الذاتية للراحل صلاح جاهين الذي كان يسخر من بعض السلبيات وقلبه ينضح بالحزن والمرارة.

والساخرون أصحاب مواقف ولديهم شعور وطني جارف دفع بعضهم لأن يقود الثورات ويقتحم سجلات البطولة مسطرًا فيها اسمه بأحرف من نور، وكان من هؤلاء أبو الظرفاء عبد الله النديم الذي بدأ ساخرًا وانتهى ثائرًا، وفن السخرية هو الذي قاده إلى بعض المقاهي البسيطة في الأحياء الشعبية وداخل أزقة الإسكندرية العتيقة ليخالط الحمالين والمكاريَّة والمتجولين من صغار الباعة وأصحاب المزاج الذين يسخرون من كل شيء بنكات بالغة الروعة تحمل رغم بساطة الكلمات سياطًا موجعة تجلد ظهر الفقر والظلم والفساد، ولأن عبد الله النديم كان من ذوي الكاريزما فقد استطاع بروحه المرحة وبسمات الزعامة التي رسخت في أعماقه أن يقود البسطاء الذين خالطهم ثم يرتقي به الحال فيصبح من قادة الشعب وزعمائه إبان الثورة العرابية، وكان عبد الله النديم لا ينسى النكتة حتى في خطبه الوطنية العصماء التي ماجت بالحماسة وألهبت المشاعر وكانت خير محرض على الثورة.


محاربة بعض النقاد للأدب الساخر
ومن الأسف أن بعض النقاد حاربوا الأدب الساخر جاعلين إياه من ضروب التهريج والتسلية الرخيصة، وزعم بعضهم أن الساخرين هم فئة من الأدباء الذين يتعيشون على إضحاك الناس بلا هدفٍ ولا معنى، هذا مع أن كثيرًا من الأدباء الكبار اتجهوا للسخرية في أعمالهم ومنهم (برنارد شو)، فليس شرطًا أن يكون الأديب مكتئبًا عبوسًا لا تخرج من فمه إلا إكليشيهات مقعرة محفوظة يحتقر بها الناس، فتلك صورة نمطية ساذجة يروق لبعض الجهلاء والتافهين أن يروجوها عن الأدب والأدباء، وللأسف الشديد ساهم الإعلام في ترسيخها لدى الناس علمًا بأن البعض يضمر كرهًا ليس له نظير للأدب والثقافة فكأن مهمة الإعلام أن يزيد من كراهية هؤلاء للأدب.

تاريخ الأدب المصري الساخر
بحسب الراحل محمود السعدني فإنه يمكن القول أن عالم النحو المعروف (سيبويه المصري) هو أول نكتي شهير في الديار المصرية وكان يعيش في عهد كافور الإخشيدي ومما يحكى عنه أنه كان يركب حمارة بيضاء اللون ويمشي في الأسواق هاجيًا خصومه ومنافسيه بألفاظ مقذعة، وعندما سئل لماذا تركب حمارة بيضاء؟ قال: لأن عندي في البيت حمارة تركبني!.
وبعد سيبويه ظهر في مصر مئات الساخرين وبالأخص في العهد المملوكي وكان بعضهم من العلماء العقلاء فتحولوا إلى مجانين ولكنه جنون ظاهري يستبطن روائع الحكمة وكان من هؤلاء ابن سودون وهو فقيه حنفي شركسي الأصل عمل إمامًا لأحد المساجد واستهواه فن الكتابة الساخرة وخيال الظل فكرس لهما حياته وله مجموعة من القصائد العجيبة التي يذكر فيها بعض البديهيات الكونية والمسلمات التي يدركها الجميع وكأنها من اكتشافه مما يضطر القارئ لأن يضحك من أعماقه، ومن تحصيل الحاصل في شعره وقوله.


البحر بحرٌ والنخيلُ نخيل.. والفيل فيلٌ والزراف طويلُ 
والأرض أرض والسماء خلافُها.. والطير فيما بينهن يجولُ 
وإذا تعاصفت الرياح بروضةٍ.. فالأرض تَثبتُ والغصون تميلُ 
والماء يمشي فوق رمل قاعدٍ.. ويُرَى له مهما مشى تسييلُ
ومن أغرب وأفكه وأمتع وأبدع ما كتب ابن سودون في هذا الباب قصيدة جاء فيها: 
إذا ما الفتى في الناس بالعقل قد سما..... تيقن أن الأرض من فوقها سما
وأن السما من تحتها الأرض لم تزل..... وبينهما أشياءُ إن ظهرت ترى
وإني سأبدي بعض ما قد عُلِّمته.... لتعلم أني من ذوي العلم والحجا
فمن ذاك أن الناس من نسل آدم..... ومنهم ابن سودون أيضًا وإن قضى
وإن أبي زوج لأمي، وإنني..... أنا ابنهما والناس هم يعرفون ذا
وكم عجب عندي بمصر وغيرها... فمصر بها نيل على الطين قد جرى
وفي نيلها من نام بالليل بلّهُ.... وليست تبل الشمس من نام بالضحى
بها الفجر قبل الشمس يظهر دائمًا..... بها الظهر قبل العصر قيل بلا مرا
ويسخن فيها الماء في الصيف دائمًا..... ويبرد فيها الماء في زمن الشتا
وفي الصين صينيٌّ إذا ما طرقتَهُ...... يطن كصينيٍّ طرقتَ.. سوا سوا
بها يضحك الإنسان أوقات فرْحهِ...... ويبكي زمانًا أكثرًا حين يبتلى
وفيها رجال هم خلاف نسائهم...... لأنهم تبدو بأوجهـــهم لحى
وبالشام أقوام إذا ما رأيتَهم...... ترى ظهر كل منهم وهو من ورا
بها البدر حالَ الغيم يخفى ضياؤه...... بها الشمس حال الصحو يبدو لها ضيا
ومن قد رأى في الهند شيئًا بعينه...... فذاك له في الهند بالعين قد رأى
ومن قد مشى وسط النار بطُرْقها...... تراه بها وسط اللهيبِ وقد مشى
وعشاق إقليم الصعيد به رأوا..... ثمارًا كأثمار العراق لها نوى
به باسقات النخل وهي حوامل...... بأثمارها قالوا: يحركها الهوا
ولا علمتني ذاك أمي ولا أبى...... ولا امرأة قد زوجاني ولا حم

وفي العصر الحديث ظهر أبو نواس الجديد أو حسين شفيق المصري الذي نبغ في الشعر الحلمنتيشي أيما نبوغ وهو الذي أسماه بذلك الاسم نسبة إلى قهوة الحلمية التي أبدع فيها روائع قصائده وهي نسبة على غير قياس وقد ترك فيه ثروة عظيمة من الأشعار المرحة أبرزها المشعلقات السبع التي حاكى بها معلقات العرب محاكاة ساخرة.
وردًا على هؤلاء الذين يعتقدون أن أي كلام فارغ يصلح لأن يكون شعرًا حلمنتيشيًا نقول إن حسين شفيق المصري كان على اطلاع واسع بالأدب العربي في كل عصوره وكان علامة في الشعر يحفظ منه مئات القصائد والناظر في مشعلقاته بتأمل وإمعان يرى مجهودًا غير عادي.
ومن القصائد الظريفة التي كتبها الراحل حسين شفيق المصري ليتهكم بها على (الواسطة) والمحسوبية قوله:
أفتش في الديوان عن واحد له
نفوذ لتوظيفي وفكري موزعُ
يقولون لي هل من وسيط تجيبه
شفاعته عند الرئيس بتنفعُ
فهل كانت الليسانس لما أخذتها
شهادة تطعيم.. بها أتسكعُ
أليس حرامٌ أنني على ابوابكم أتلطعُ
وغيري عشان محسوبكم متوظف
أراه عليكم دائما يتدلعُ
بغير شهادات ولا فهم عنده
بليد وفي اشغاله يتلكعُ
ولو لم يكن محسوبكم كان حقه
يكون حمارًا أزرقًا يتبردعُ
إذا كنت ذا عقل فكن ذا صناعة
أو اسرح بفجلٍ حين يُمضغ يُبلعُ
أرى طالب التوظيف ليس براجلٍ
ومن كان ذا شغلٍ فذلك مجدعُ
وفي إحدى مشعلقاته التي حاكى بها عمرو بن كلثوم الشاعر الجاهلي المعروف حارب سياسة الاستيراد والخضوع للاقتصاد الأجنبي فقال:
ومن الخواجا نأخذ كل شيء
بأسعار.. تجننا جنونا
فآبوا بالفلوس وبالهنايا
وأبنا بالشقاء مكلضمينا
كبائعة مصاغًا أو نحاسًا
يرن غطاء حلتها رنينا
ولولا أن أوروبا علينا
لكنا قد مشينا عريانينا
إذا بلغ الفطام لنا وليد
يموت بحانة سكران طين