تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
لم يولد بعد من يحظى بحب ودعم وتأييد كل من حوله وكل من يتعامل معهم وكل من يؤثر فيهم أو يتأثر بهم.. ماذا عن زعيم بحجم جمال عبدالناصر، اختلف معه الكثيرون، واتفق معه الكثيرون أيضا، له ما له وعليه ما عليه، مئات بل آلاف المقالات والكتب تناولت دوره، تحليلا ونقدا، ما بين مؤيد ومعارض لسياساته وإنجازاته وإخفاقاته فى مجالات العمل السياسى والاقتصادى والعسكرى، وكذلك المجال الإعلامى الذى ساهم فى حراك مؤثر محليا وعربيا ودوليا، وجعل من مصر وقادتها أيقونة عربية ملء السمع والبصر، وحقق ريادة إعلامية حقيقية نفتقدها فى وقتنا الحالى.
نتوقف أمام مجال الإعلام فى عهد عبدالناصر، لنرصد مجموعة من الحقائق وبعض الملاحظات العامة، يرى الكثيرون أن جمال عبدالناصر قد كرس لمسار الصوت الواحد، وأسس لإعلام رسمى مؤيد للنظام يسير على هدى قراراته وسياساته ويسوق لها، كانت القيادة السياسية وعلى رأسها جمال عبدالناصر على وعى وإدراك بأهمية الإعلام ودوره فى الحشد والتعبئة، وتأثيره على قطاعات كبيرة فى الداخل والخارج، لذا عملت على أن يكون الإعلام مواليا ومدعما للنظام فى ظل ظروف سياسية واقتصادية وعسكرية رأت أنها تتطلب وحدة الصف، إلا أن الإنصاف يقتضى – وأعتقد أن لا أحد يختلف – أن نعترف أن «ناصر» كان المؤسس لقوة مصر الناعمة المؤثرة على المستوى المحلى والعربى والعالمى.
البداية كانت صباح يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢ والبيان الأول للثورة الذى أذيع عبر ميكروفون الإذاعة، ثم توالت إذاعة برقيات التأييد للثورة، وتم استخدام الإذاعة أيام الثورة الأولى فى تعبئة الرأى العام من خلال البرامج الخاصة والأحاديث والمسلسلات الوطنية، والقصائد الشعرية المؤيدة للثورة، وتجلى اهتمام الثورة وقادتها بإنشاء إذاعات جديدة بأهداف مختلفة، مثل إذاعة «صوت العرب» عام ١٩٥٣ التى لعبت دورا مهما فى التاريخ السياسى المصرى العربى، فكانت صوتا للنظام وداعمة للنضال العربى ضد الاستعمار، وحاضنة لحركات التحرر العربية، حازت «صوت العرب» على اهتمام الجميع وعلى كثافة استماع عالية من المحيط إلى الخليج، فى هذا العام أيضا ١٩٥٣ بدأ بث الإذاعات الموجهة المصرية التى حملت صوت مصر وحضارتها وثقافتها وفنونها إلى أفريقيا وآسيا ودول العالم المختلفة، وكانت جسرا للتواصل بين مصر وشعوب العالم. وفى عام ١٩٥٤ بدأت «إذاعة الإسكندرية» المحلية إرسالها، وعام ١٩٥٧ بدأت «إذاعة البرنامج الثانى»، وعام ١٩٥٩ «إذاعة الشعب»، و«إذاعة فلسطين» عام ١٩٦٠، وكل من إذاعتى «القرآن الكريم» و«الشرق الأوسط» عام ١٩٦٤، و«إذاعة البرنامج الموسيقى» عام ١٩٦٨، هذه الإذاعات غلب عليها الطابع الثقافى والتوعوى والخدمى والترفيهى والاهتمام بالموسيقى والفنون الرفيعة.
هذا الاهتمام بالإعلام واكب أيضا مستجدات التطور التكنولوجى عالميا، حيث تم التفكير والتخطيط لانطلاق التليفزيون الذى بدأ إرساله السابعة مساء ٢١ يوليو ١٩٦٠ باحتفالات ثورة يوليو وخطاب جمال عبدالناصر، ورغم أن البداية كانت بقناة واحدة تغطى القاهرة والمناطق المحيطة فى حدود ١٠٠ كم، إلا أن تطوره كان سريعا ومؤثرا فى المحيط المحلى والعربى ببرامجه وإنتاجه الدرامى، مؤكدا ريادة مصر خارج حدودها.
وفى مجال الصحافة، والتى كانت مؤيدة للثورة، فقد تركت لها الحرية لبعض الوقت إلى أن تم إغلاق عدد كبير منها بدعوى أنها صحف حزبية وأن الأحزاب قد تم حلها، وتم إنشاء بعض الصحف والمجلات التى تتحدث باسم الثورة منها، «الجمهورية ١٩٥٣، حواء ١٩٥٥، المساء ١٩٥٦»، وبقى على الساحة ثلاث صحف كبرى هى «الأهرام والأخبار والجمهورية»، وبعض المجلات منها «روزاليوسف وصباح الخير والمصور والكواكب وحواء وآخر ساعة»، وفى عام ١٩٦٠ تم تأميم الصحف وتحويل ملكيتها إلى الاتحاد الاشتراكى.
فى تلك الفترة كانت الخيارات الإعلامية المتاحة أمام القارئ والمستمع والمشاهد محدودة، ولم يكن هناك صحفا خاصة أو قنوات فضائية، لم يكن أمامهم سوى التعرض لهذه الوسائل وبالتالى كان التأثير أقوى، ورغم أن هذه الوسائل كانت داعمة للنظام وتكرس لمسار الصوت الواحد، إلا أنها كانت وسائل تنويرية خدمية تولى اهتماما كبيرا بالثقافة والأدب والموسيقى والفنون الرفيعة، كما كانت تهتم بجميع فئات المجتمع، «المرأة، الطفل، الشباب.. الخ»، كما أفرزت مواهب متعددة فى كل مجالات التأليف والإخراج والتمثيل والغناء والموسيقى والشعر والصحافة والأدب.
يضاف لكل ما سبق اهتمام الثورة وقادتها بالسينما، واستثمارها كأداة للترويج للثورة، بالإضافة لكونها أداة للتوعية والتثقيف والترفيه (أفلام مثل رد قلبى، يسقط الاستعمار، المماليك)، وفى عام ١٩٥٧ صدر قرار بإنشاء مؤسسة «دعم السينما» لتقديم الدعم للإنتاج السينمائى، كما تم إنشاء «معهد السينما» عام ١٩٥٩، وفى الستينيات تم تأميم صناعة السينما وإنشاء «المؤسسة المصرية العامة للسينما» عام ١٩٦٢ وتم إنتاج مئات الأفلام التى حملت فكرا ورسالة للمواطن العربى أينما كان.
كل ما سبق عرضه من اهتمام كبير بالإعلام ووسائله المختلفة، يؤكد أن جمال عبدالناصر استطاع أن يؤسس لقوة مصر الناعمة، كما أدى إلى ريادة حقيقية لمصر فى هذا المجال، هذه التجربة الثرية نستطيع فى وقتنا الحالى الاستفادة من ممارساتها الإيجابية وتجنب كل ما هو سلبى فيها، هذا إن أردنا فعلا أن نعود لريادة الإعلام فى المنطقة، وإذا أردنا أن نعظم من وسائل القوة الناعمة فنحن فى حاجة ماسة إليها.