منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتحديدا عام ١٩٨٤، أصدر الإذاعى الكبير الراحل إيهاب الأزهري كتابه «الناس على دين إذاعاتهم» تناول فيه تأثير الإذاعة وكيف يمكن أن تسيطر على العقول، وفى واقعنا الحالى يمكن أن يتحول هذا العنوان ليكون أكثر ملائمة إلى «الناس على دين إعلامهم» أو ليكون أكثر تحديدا «الناس على دين شاشاتهم» بعد أن سيطرت الشاشات على أجندة أولويات رجل الشارع، وحددت أولويات الموضوعات التى يهتم وينشغل بها!.. موضوعات ليس لها أى قدر من الأهمية أو هى محدودة الأهمية، تحتل مساحات كبيرة وساعات طويلة من إرسال غالبية القنوات والبرامج، يضعها إعلاميون على قائمة أولوياتهم لتصبح فى بؤرة الاهتمام، وفى مقدمة أولويات حديث الشارع المصرى.. موضوعات تستحوذ على معالجات إعلامية مستفيضة لا تتناسب مع حجمها أو قدر أهميتها، وقد لا يكون هناك ضرورة لعرضها، والبعض منها ليس مطروحا على الساحة ويتم إقحامها عمدا لتحتل الصدارة.. موضوعات لو لم يتم طرحها أساسا لما تساءل أحد لماذا لم تتناولها وسائل الإعلام؟!
مطربة أخطأت ببعض كلمات فى حفل فنى خارج مصر منذ شهور، دعابة فى غير محلها، لم تكن موفقة مع تكرار أخطائها حين تتحدث، لا تعى قيمة الكلمة وتأثيرها.. أصبحت حديث جميع البرامج على جميع القنوات الخاصة تحديدا، مساحات كبيرة وساعات طويلة لأيام متتالية للحديث عنها وأصبح عقابها هو الشغل الشاغل للجميع وإعدامها مطلبا إعلاميا.. أصبحت قضية الساعة.. نعم أخطأت.. لكن لم يكن هناك ضرورة لعرض مثل هذا الموضوع بمثل هذه الكثافة، وكان يمكن الاكتفاء بالمرور العابر من خلال خبر لا يستغرق ثوان معدودة يسرد الحدث وفقط، ويترك الأمر لنقابة المهن الموسيقية لتقدير حجم العقاب الملائم وكفى.. أحد الشيوخ يكتب على صفحته محدودة الانتشار على «الفيسبوك» أنه المهدى المنتظر، لتتناوله بعض الشاشات وتجعل الموضوع قضية رأى عام، ولو تم تجاهله لما شعر به أحد!.. فتاة يتحرش بها أحد الشباب يتم إبرازها إعلاميا لتصبح حديث الناس وليأخذ الموضوع حجما أكبر كثيرا مما يستحق رغم وجود عشرات الحالات المماثلة التى تأخذ طريقها القانونى الطبيعى.. معارك شخصية لبعض الإعلاميين بألفاظ خارجة وسباب وشتائم لتصفية الحسابات مع خصومهم والانتقام منهم مكانها الأساسى ساحات المحاكم، موضوعات عن الجن والعفاريت التى تسيطر على جسم الإنسان وكيف يمكن التخلص منهما، فتاوى لم يطلبها أحد يتبرع بها البعض تتنافى مع صحيح الدين والطبيعة الإنسانية.. مئات النماذج لا يتسع المجال لسردها.. موضوعات سطحية تشغل العقول ويؤدى بعضها إلى تغييبها كان يجب ألا تحتل أى مساحة على الشاشات.
ما سبق يثير موضوعا مهمًا هو أولويات أجندة وسائل الإعلام أو أولويات الموضوعات التى يتم طرحها ومعالجتها إعلاميا وعلى أى أساس يتم تحديدها؟.. هل يتم وفقا لأهميتها ومدى تأثيرها على حياة المواطن؟، هل يتم وفقا للهدف من عرضها وهو الارتقاء بعقل ووجدان المشاهد؟، هل يتم الاختيار وفقا لهدف قومى وهو تأثيرها على الأمن القومى المصرى وأمن وسلامة الوطن والمواطن؟، هل يتم للمساهمة فى الارتقاء والنهوض بالوطن سياسيا واقتصاديا واجتماعيا؟.. الخ.. هذه المعايير مجرد نماذج لمعايير علمية مهنية للاختيار.. أم أن الاختيار يتم وفقا لأجندات ومعايير أخرى؟ مثل الانسياق خلف أجندة الموضوعات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعى والتى لا تعد أساسا أو مصدرا للأخبار!، أو الاختيار وفقا لأجندة المصالح الخاصة للإعلامى ورغبته فى مزيد من الشهرة وكثافة المشاهدة!، أم وفقا لأجندة رأس المال ومصالحه الخاصة؟!.. مثل هذه الاختيارات هى التى ساهمت فى انتشار ما نطلق عليه «الفوضى الإعلامية» التى نشهدها منذ سنوات وأدت فى جانب منها إلى تغييب العقول وإلهائها عن قضاياها الأساسية وأثرت إلى حد ما على طاقة العمل المنتج.
هناك أولويات فى طرح القضايا والموضوعات إعلاميا، وخاصة فى وطن مثل مصر يمر بمرحلة حرجة ويعانى من مشاكل عديدة ويحاول الخروج من عنق الزجاجة، أولويات تؤدى إلى إعلام تنويرى يساهم فى تشكيل ورقى عقل ووجدان المواطن بعيدا عن كل ما يشغله عن قضاياه الأساسية، أو يؤدى إلى تغييب عقله بموضوعات سطحية أو غيبية ما كان لها أن تكون محورا للاهتمام.
Morsi33@hotmail.com