ما كان يدور فى الخفاء ويبدأ وينتهى دون أن يطّلع عليه إلا القليلون، أصبح الآن يتم فى العلن وعلى الهواء مباشرة، كنّا فيما مضى نسمع ـ فقط ـ عن قيام الأجهزة الاستخباراتية لدولة ما، بتشكيل خلية ما فى دولة ما لتحقيق هدف ما، لكن الآن بات الأمر مختلفًا وإلى حد كبير، فأجهزة الاستخبارات أصبحت تعمل بشكل شبه علنى، وأصبح مسئولو الأجهزة الاستخباراتية يجلسون جنبًا إلى جنب بجوار الساسة ومتخذى القرار وأمام الجماهير، وتنقل وسائل الإعلام أخبارهم، كما السياسيين والشخصيات العامة، وفى الآونة الأخيرة تعدّدت الأنشطة الاستخباراتية، ومن ثم تنوعت الأدوات المستخدمة لتصل إلى ما يُسمى «صناعة التوجه الأيديولوجى وإدارته».
ويعد النموذج المثالى لصناعة توجه مؤدلج وإدارته استخباراتيًا، هو تنظيم الإخوان المسلمين الذى أنشأته المخابرات البريطانية، ثم تنظيم القاعدة الذى أنشأته المخابرات الأمريكية، وبعدها حزمة التنظيمات الجهادية التى انبثقت جميعها من قاعدة «الأفكار الجهادية المنحرفة»، وصولًا إلى تنظيم داعش وإخوته.
القاسم المشترك بين هذه التنظيمات أنها صنيعة أجهزة المخابرات الغربية، عدا القليل منها تمت صناعته إقليميًا لخدمة المخابرات الغربية كذلك.
لكن اللافت للنظر هو ذلك الدور الإعلامى المتعاظم خلال العقود الأخيرة، فالإعلام بات أداة مهمة وخطيرة فى يد الأجهزة الاستخباراتية التى تصنعها وتديرها، على غرار التنظيمات الجهادية.
والسؤال الذى يحتاج إلى إجابات علمية: من يصنع الآخر؟ التنظيمات الجهادية تصنع إعلامها؟ أم أن الإعلام الموجه استخباراتيًا هو من يصنع هذه التنظيمات من العدم؟
ما النماذج الحالية التى توضح الاستهداف المخابراتى فى دول بعينها ضد دول أخرى بعينها من خلال صناعة دوائر جهادية منحرفة أو من خلال صناعة دوائر إعلامية موجهة عن بُعد؟
الموضوع يحتاج إلى اهتمام من المتخصصين والباحثين، ليس للتأكد من وجود علاقة بين انتشار الأفكار الجهادية المنحرفة والتوجيه الاستخباراتى من خلال خلق وتوجيه وسائل إعلامية تحمل هذه الأفكار، وتساعد على نشرها على أوسع نطاق، لكن دور الباحثين يجب أن ينصب على حدود تلك العلاقات المتشابكة بين الإرهاب والاستخبارات والإعلام، بيد أن نموذج «الإخوان» ـ قناة «الجزيرة» ـ المخابرات الأمريكية، هو المثال الأكثر وضوحًا خلال الفترة الأخيرة، وكان تنظيم القاعدة والمخابرات المركزية الأمريكية وقناة «سى إن إن» هي البدايات الحقيقية فى العصر الحديث. ويعتبر المؤرخون أن العلاقة بين تنظيم الإخوان انطلق إلى النور، بتمويل من المخابرات البريطانية فى عهد حسن البنّا، وكانت نتائج تلك العلاقة مبهرة حتى الآن، فالإخوان المؤسسون الأوائل يعلمون حدود تلك العلاقة، وكيف تتلاقى رغبات وأهداف كل الأطراف، رغم اختلاف الوسائل ولغة الخطاب، إن دراسة علمية لهذا الثالوث وعلاقاته المتشابكة ونتائج تلك العلاقات على جميع الأصعدة، قد تؤدى إلى إماطة اللثام عن كثير من الأمور الغامضة، لا بد من فتح الملفات دون خجل، فاختلاط مفردات الدين الجهادية بمخططات الأجهزة الاستخباراتية كان يحتاج إلى وسائط إعلامية وأوعية لحمل هذا المحتوى المدمّر، بيد أن هذا الملف يحتاج إلى دراسة عاجلة لا تقبل التأجيل.
وللحديث بقية