إنَّها مدينة الأشباح، لم يعد شارع مصدق، أحد أهم شوارع الجيزة، كسابق عهده، افتقد رونقه، مظاهر الحياة اختفت تمامًا، أصبحت أسمع أصواتًا أعرفها جيدًا، قرأت عنها كثيرًا لكني لم أتصورها هكذا.
الرعب يملأ القلوب، نشعُر أن النهاية اقتربت كثيرًا، سنضيع جميعًا هباءً، سكان الشارع الراقي هجروه، كل شيء أصبح في مكنونة الموت.
تجولتُ في الشارع لأجد شيئًا يُخلصنا، فلم أجد سوى المباخر، وأصوات المُسجلات الصوتية، تُردد التراتيل القُرآنية والترانيم المسيحية، عسى تهبط إرادة الخالق، تخلصنا من البلاء، ففي المَحن تأتي المنح.
وصلتُ إلى مقر "البوابة"، والوجوم يسود المكان بأكمله، الكل خائفٍ، يُصلي، يُناجي ربه، يطلب منه الخلاص، فالأرواح تحاصر المبنى من كل اتجاه، تنتظر صيدها القادم، تُحاول الانتقام لصاحبها، الذي قيل فيه ما ليس به.
صعدتُ إلى مكتبي بالدور الثالث، وعقلي قد توقف تمامًا عن التفكير، احتاج إلى رشفتين من قهوتي، لكن لا شيء هنا، في هذا المكان، الكل خائف على حياته، لا شيء أمامي سوى التفكير في حلٍ يُعيد الحياة من جديد، يروض تلك الأرواح والأشباح في أسرع وقت.
جلستُ على مقعدي، افترش أمامي عشرات الكتب لأنيس منصور، في محاولةٍ يائسة لإيجاد التعويذة التي تُخلصنا من الكابوس الذي أثاره "محمد الباز"، رئيس التحرير التنفيذي لجريدتنا "البوابة".
لكن لا شيء يرضي تلك الكائنات التي أطلقها "أنيس"، سوى إحقاق الحق، ودحض الباطل، أعرف ذلك تمامًا، أحاول مسابقة الزمن، لتحقيق ذلك وإنقاذ الموقف.
وبعيدًا عن تلك المشاهد الجنائزية، نستكمل ما بدأناه من قبل، في تفنيد الاتهامات التي حاول "الباز" إسنادها للفيلسوف، في محاولة بائسة للنيل منه.
قبل أن تقرأ
سنقفز قليلا، نحاول اللحاق، بـ"الباز"، في محاولة لتفنيد، ملفه "المتناقض والمبتور"، الذي بدأنا الرد عليه، في حلقة ماضية، سنواصل تفنيدها حتى يكتب "أنيس منصور.. لك العتبى حتى ترضى".
فتحت عنوان "أنيس منصور: هيكل شيخ مشايخ الطرق التاريخية في الفبركة"، عقد "الباز" مقارنة بين الفيلسوف وما أسماه بالأستاذ، رغم أن القاصي والداني يعلم أن النتيجة محسومة من البِداية، فلا يمكن المُقارنة بين فيلسوف مُفكر وكاتب كان رجلًا لكل العصور، تملق للجميع، وسب الجميع من أجل مصالحه هو فقط.
وافتقدت الحلقة في مجملها لموضوعية السياق، فـ"الباز"، زعم أن "هيكل" هو صانع أسطورة الرئيس جمال عبدالناصر، و"أنيس" لم يكن سوى أداة تسلية للرئيس أنور السادات، رغم أن الأستاذ نفسه، كتب مقالًا حمل عنوان "عبدالناصر ليس أسطورة!"، إلا أن رئيس التحرير التنفيذي لـ"البوابة"، تجاهل ذلك متعمدًا لأن الهدف من البداية تشويه "أنيس" فقط.
لو سلَّمنا بالمنطق الخاطئ، بتحميل "هيكل" مسئولية الإنجازات والإخفاقات في عهد عبدالناصر، وكذا "أنيس" في عهد السادات، ستكون النتيجة "هيكل النكسة"، و"أنيس النصر"، وهذا منطق خاطئ بالطبع، فـ"عبد الناصر" زعيم رغم أنف الأستاذ، و"السادات" زعيم رغم أنف الفيلسوف.
الحقيقة أن الأستاذ والفيلسوف كان لكل منهما دور مختلف تمامًا، عن الآخر في حياة الرئيسيين، فـ"هيكل" لم يكن مُفكر كان مجرد أداة، وثق فيها "ناصر" في غفلةٍ من الزمن، لإعداد رأي عامٍ موجه، لتسويق القرارات التي تصدر، فيما كان "أنيس" عقلًا يُرشد "السادات"، ويساعده في التفكير، فـ"الأول" مُجرد صحفي ناقل للأحداث، يتلقى التعليمات فينفذ، أما الثاني كان دائمًا خالقًا للأفكار، يقدم أطروحاته الإبداعية، والأُطر الصحيحة لتنفيذها، وهي تجربة شهدها التاريخ كثيرًا مع الزعماء.
الأستاذ والفيلسوف عند "الباز"
"آفة الصحفيين أنهم لا يقرأون ما يكتبون".. هكذا قالها "كاهن الجمهورية" الراحل "عدلي برسوم"، وهذا ما ينطبق على هذه الحلقة، فرغم إصرار "الباز"، على نظرية "التفكيك"، لكنه ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع، فمثلما ردد الافتراءات إلا أن الضمير دائمًا ما يدلو بدلوه بين الحين والآخر.
"الباز"، حسم المقارنة قبل أن تبدأ، ولم يوفق في تحقيق الانتصار لـ"هيكل" على حساب "أنيس"، فنجده يؤكد أن "الأستاذ" لم يجرؤ على انتقاد "الفيلسوف" إلا في جلسات النميمة، في الوقت الذي تعامل معه "أنيس" بشيم الفرسان، وهاجمه علانية، فهل يستوي ذلك وذاك ؟.
"الباز" تجاهل متعمدًا، تفاصيل كثيرة عن بداية العلاقة بين الاثنين، فكلاهما بدأ العمل بالصحافة في فترة متقاربة جدًا، وفي محراب الأستاذ الحقيقي "مصطفى أمين" تعلما فنونها، وهنا كانت بداية الأزمة.
في بداية الخمسينيات، أرسل "مصطفى أمين"، "هيكل" لتغطية الحرب بين الكوريتين، إلا أن الأستاذ أرسل تقريرًا مطولًا عن مَعركة لم تحدث أصلًا، وهي جريمة كُبرى لا يقع فيها إلا معدُومي الضمير، وهي نفس الفترة التي بدأ "أنيس" فيها العمل بدار "أخبار اليوم".
بعد تلك الواقعة المُشينة، أصبح "هيكل" خارج اهتمامات "مصطفى أمين"، الذي فضل الاعتماد على "أنيس" صاحب المبادئ، وأخذ يدعمه ماديًا ومعنويًا، وأرسله إلى أوروبا بصحبة "كامل الشناوي"، ليكتب لـ"أخبار اليوم"، يوميات عن تلك الدول، وهو ما تسبب في غيرة كبيرة من "هيكل" ضد "الفيلسوف"، وزرع الضغينة في داخله.
تدخل "هيكل" في إقناع الزعيم الراحل عبدالناصر، بزواج "أنيس" بـ"رجاء حجاج"، ما هي إلا محاولة من "الأستاذ" لكسب "أنيس" في صفه بمعركته مع "مصطفى أمين"، الذي بذل كل جهده، لتشويهه ثأرًا منه، والترويج بأنه جاسوس.
في 1974 ذهب "هيكل" لمنزل "أنيس"، وطلب منه ألا يتدخل في صراعه مع الزعيم الراحل أنور السادات، وهو دليل قاطع على تخوفه من "الفيلسوف"، وهو ما يفسر أيضًا، لماذا لم يجرؤ "هيكل" على انتقاد "أنيس" ؟.
لكن كيف يرى "الباز" الأستاذ هيكل ؟!
"الباز"، من أكثر الصحفيين في مصر حديثًا عن "الأستاذ"، يكتب عنه في كل شاردة، يقحمه في كل حدث، هو يعيش بداخله، يسيطر عليه، ففي 28 سبتمبر 2009، كتب مقالًا تحت عنوان "هيكل والشرعية الصحفية"، أخذ يُمجد فيه بشكلٍ مبالغ للغاية، ولا نحتاج لتفنيدها، لكنّي لم استغرب كثيرًا، فرئيس التحرير التنفيذي لـ"البوابة"، أثناء مُناقشة رسالة الدكتوراه الخاصة به، التي حملت عنوان "تيار الإثارة في الصحافة المصرية"، وبدلًا من أن يتحدث عن رسالته، حول القاعة للدفاع عن "الأستاذ"، في وقتٍ لو كنتُ مكانه ما تحدثتُ إلا عن نفسي فقط.
بعيدًا عن مقالات الإشادة بـ"هيكل"، ستجد "الباز" نفسه يعترف بأن "الأستاذ" مراوغ، وشيخ مشايخ الفبركة، وذلك في تقريرٍ نشره زميلنا الراحل "وليد كامل"، في 30 مارس 2012، حول حوارات "هيكل" عن الرئيس الأسبق حسني مبارك، حيث قال رئيس التحرير التنفيذي لـ"البوابة"، في "الأستاذ" ما قاله بالضبط "أنيس"، واتهمه بالتدليس، والكذب، والافتراء، والتضارب في التصريحات!!
"هيكل" و"الملك" و"عدو الصحفيين"
برع "هيكل" في نفاق الحُكام، بدأها مع "الملك فاروق"، عندما كتب مقالًا تحت عنوان "ولك في كل قلبٍ عرش"، قبل ثورة 52، ببضعة أشهر، ثم نافق "نجيب الهلالي"، وطالب بترأسه للحكومة، عقب حريق القاهرة، تحديدًا في مارس 1952، أي قبل أربعة أشهر فقط من ثورة عبدالناصر ورفاقه.
لمن لا يعلم "نجيب الهلالي"، هو رئيس الحكومة الذي أتي به "الملك" و"الإنجليز"؛ ليوقف الصحفيين ويعطل الأحزاب والحياة السياسية في مصر، وأشرس أعداء ثورة 52، وكان "هيكل" من المُقربين له.
"الأستاذ" و"نجيب" و"ناصر"
لم يكن "هيكل" أكثر من قلم، في يد "الضباط الأحرار"، أيقنوا من البداية أنه أفضل من يُنفذ أهدافهم، فاستخدموه في إيصال مطالبهم لرئيس الحكومة، نجيب الهلالي، وبعد أن نجحت الثورة، استخدموه في تشويه "محمد نجيب" بعد ذلك.
الحقيقة أن هجوم "هيكل" على الرئيس الراحل "محمد نجيب"، لم يكن فقط بإيعاز من "ناصر" ورفاقه، بل لأن "نجيب" نفسه رفض تملق "الأستاذ"، فشن عليه حملة صحفية كبيرة، زعم فيها أنه لا يصلح لرئاسة مصر؛ بسبب جنسية والدته السودانية، وبالفعل ساعد ذلك في تنحية "نجيب"، كما ساعد أيضًا على انفصال "السودان" عن مصر.
لم يتوقف الصراع عند هذا الحد، بل تصاعد في السبعينيات بعد صدور مذكرات "نجيب"، التي حملت عنوان "كلمتي للتاريخ"، فرد عليها "هيكل" بعددٍ من المقالات، تحت عنوان "شبح من الماضي"، اتهمه فيها بتلقي تمويلات من الخارج، وكادت تلك المقالات أن تدفع بـ"الأستاذ" إلى السجن، بعد رفع دعوى قضائية ضده، لكن المقربين أقنعوا نجيب بالتنازل، وهو ما حدث بالفعل بعد تقديم اعتذار.
وعن خطايا "هيكل" في عصر "ناصر"، فحدث ولا حرج، تحتاج لكتبٍ وموسوعات، فلم تكن العلاقة كما زعم "الباز"، فلم يكن "الأستاذ" صانع "ناصر"، لأنه كان بالفعل أسطورة بدون "هيكل".
"الأستاذ" تعلم من أخطائه في التعامل مع "نجيب"، فأخرج كتاب "الفالوجة"، ليقول إن عبدالناصر بطل حرب 1948، وهو غير صحيح بالطبع، هناك أبطال كبار في هذه الحرب، على رأسهم الشهيد أحمد عبدالعزيز، سيد طه "الضبع الأسود"، وغيرهم الكثير، ولم يكن "ناصر" يومًا من كبار أبطال المعركة، لكنه دلس التاريخ من أجل المال والجاه، وخير دليل ملف زميلنا "عماد الصابر" سكرتير التحرير، وفقًا لمذكرات "جلال ندا".
"هيكل" لم يكن سوى قلم يستخدمه "ناصر" لترويج قراراته، فعلها معه كثيرًا، كان يُريد محاربة إسرائيل، فخرج "هيكل" بمقاله الشهير "ليس أمامك يا إسرائيل سوى الحرب"، قبل نكسة 67، بخمسة أيام فقط، وما أن وقعت الهزيمة، نشر تقارير في الأهرام عن معارك وبطولات للجيش المصري في المعركة، رغم أن جيشنا لم يحارب أصلًا.
استخدمه "ناصر"، أيضًا في الترويج للوحدة بين مصر وسوريا 1959، واستخدمه أيضا في امتصاص ثورة الشباب في 1968، المُطالبة بمحاكمة سلاح الطيران، وهي "الثورة" التي حكي لي عنها كثيرا أحد أبطالها الراحل "أبو العز الحريري"، ثم "مذبحة القضاة" 1969.. وغيرها الكثير.
من المضحك أن "هيكل" تسبب في إفشال إحدى العمليات الهامة خلال حرب الاستنزاف وهي عملية "رقبة الوزة"، التي كان من المنتظر تنفيذها في مدينة القنطرة، فخرج "هيكل" يوم العملية بمقال في الأهرام يدل على غبائه ، تحت عنوان "من القنطرة إلى القُنيطرة"، مرفقة بخريطة الخطة كاملة، بل كشف تفاصيل الخطة كاملة، وقال إن القوات المصرية يمكنها تنفيذ عمليات هجومية محدودة مثل الاستيلاء "رقبة الوزة".
"هيكل" و"بطل الحرب"
الأستاذ أول من بايع "السادات"، وكتب وصلات من النفاق لم يعرفها التاريخ الصحفي حتى الآن، بل كتب مقالًا ضد "ناصر" نفسه، تحت عنوان "عبد الناصر ليس أسطورة"، أنها قمة النفاق.
وفي مايو 1971، أيدَّ "هيكل" ثورة التصحيح، التي أجراها السادات، واعتبرها حدثًا مفصليًا في تاريخ النصر، ووصف الزعيم الراحل بالقائد الاستثنائي، والكثير من الألقاب، في مقالات مسلسلة، حملت عنوان "السادات وثورة التصحيح !!.
وفي فبراير عندما رأي السادات أنه لا يحتاج لمنافقين بعد أن أصبح الرأي العام يقف خلف القائد المُنتصر، عزله من الأهرام، لكن "هيكل" ثار، ولف كل صحف العالم يشن على مصر وإداراتها السياسية هجومًا عنيفًا، ولو حدث أيام ناصر لكان في عداد الشهداء.
من المضحك، أن هيكل زعم أنه كاتب التوجيه الاستراتيجي لحرب أكتوبر، هل من المعقول أن يستأمنه "السادات" على سر الحرب؟، بالطبع لا.
هيكل زعم أيضًا أنه كاتب خطاب النصر الذي ألقاه السادات أمام مجلس الشعب عقب حرب أكتوبر، ولا يوجد دليل واحد على ذلك.
بعد اغتيال السادات، لم يكن في عقل هيكل إلا الانتقام من السادات، الذي قدم له كل شيء ثم طرده، وفضل عليه أنيس المفكر والفيلسوف، وهنا تزايدت عقدة الأستاذ، وأخرج كتاب "خريف الغضب"، لكنه عاود الاعتذار في مقالات تحت عنوان "استئذان في الانصراف"،.. إنه "الخرف السياسي".
"هيكل" و"مبارك"
لا أريد التورط في الدفاع عن الرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي خرجتُ للثورة ضده، لكن الحقيقة لم يقل الأستاذ عن مبارك سوى الكذب، فضلًا عن أن "الباز"، فضحه بنفسه.
لكن يمكن القول بأن مبارك كان ذكيا في التعامل مع الأستاذ، ورفض تملقه، وتهرب منه كثيرًا، رغم البيزنس الخفي بين أبناء الاثنين، في شركات "القلعة، هيرمس، أوف شور، بولين... وغيرها"، لكن الأستاذ خرج من "قطر" لشن هجوم على النظام.
"هيكل" و"المجلس العسكري" و"الإخوان"
الأستاذ لم يتغير أبدًا، مارس نفس الضغوط على المجلس العسكري، بهدف إبعاد أبناءه عن المحاسبة في قضايا فساد، وكلنا نعرف ما قاله عن ثروة مبارك، كادت أن تدخل هيكل السجن.
"الأستاذ"، أعاد نفسه مرة أخرى مع الإخوان، وتغزل فيهم، ودعا لإتاحة الفرصة لهم في الحكم، وقال إنهم صُناع ثورة يناير، وهو كلام كاذب، لن أقول على ما شهدته في الميدان، لكني سأتذكر عندما اتصلت بالمفكر القبطي "كمال زاخر" أُسأله عن جدوى الخروج في المظاهرات ضد مبارك، قال لي نصًا: "لا أتوقع أن تكون حاشدة، لأن الإخوان أعلنوا المقاطعة"، وهذه تصريحات رجل "شاهد على العصر"، وهو حي يُرزق.
وأخيرًا وليس آخرًا.. لنا موعد آخر
المقال القادم.. القراءة السادسة لعلاقة "أنيس منصور" بـ"الإخوان"
علي التركي
مدير عام تحرير موقع "البوابة نيوز"
للتواصل:
Ali_turkey2005@yahoo.com
مقالات تهمك:-
أنيس منصور الذي لا يعرفه الباز "1"