السبت 05 أكتوبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

ونقدمها لمصر هدية.. حاجة جميلة ومعتبرة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ونحن صغار رسموا لنا مصر على صفحات الجرائد، على أنها فلاحة رشيقة القوام مرفوعة الرأس بها من علامات العزة الكثير، كان هذا الرمز يدل على أن مصر هي الزراعة، والعرق، والكفاح، والبساطة، والشرف؛ ولكن أين هي الزراعة والعرق والكفاح والبساطة والشرف الآن؟ وهل كانت مصر فلاحة فعلًا؟
(١) «الفقرة الزراعية»
ولدت في الثمانينيات من القرن الماضي، وأنا من الجيل الذي شاهد الفقرة الزراعية ـ في أولها ـ في برنامج «صباح الخير يا مصر»، كنت أنتظر الأغنية يوميا، كان أبى رحمه الله يشغل التليفزيون عليها صباحا ونحن ذاهبون للمدرسة، فوقعت في حب الأغنية من أول مرة - «عايزينها تبقى خضرا.. هي إيه؟.. الأرض اللى في الصحرا»، وكان لهذا اللحن وقع كبير في نفسي؛ عن الأمل، كنت أصدق أن الأرض التي في الصحراء ستصير خضراء، كنت أرى الرئيس الأسبق مبارك يلوح بيديه وسط زراعات ناشئة، كنت صغيرا، لم تلعب الدنيا برأسى ولم أع شيئا من السياسة، كانت فكرة أن هناك عملا مهما، يقوم به مجموعة من المصريين في الصحراء وأنهم سيحيلونها إلى رقعة خضراء، شيء يبعث على الأمل في نفسي، أحببت الأغنية، وأحببت الصحراء، ووثقت بهم وانتظرت طويلا إلى أن ملّ منى الانتظار فتركته إلى حال سبيله، وبقيت الصحراء صفراء، وحتى الفقرة الزراعية لم تعد تذيع الأغنية، فلربما هم أيضا فقدوا الأمل.
(٢) «أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ هو ألا يحدث كل ذلك»
هذه جملة شهيرة جدا قد تتعثر بها على مواقع التواصل الاجتماعي، كتبها «غسانى كنفاني» في إحدي رسائله إلى «صفية»، الجملة تحولت إلى أكليشيه عميق يدل عن الحزن من الوطن والإحباط مما آلت إليه الأمور التي يراها ناشر الجملة ـ على مواقع التواصل ـ
أنها لا يجب أن تكون في الوطن، وبغض النظر عن التناول المبالغ فيه للجملة واستنزافها، أيعرف أحدكم أن يعطينا تعريفا شاملا مانعا للوطن، تعريفا يقف شامخا ويصير دستور الباحثين عن معانى الأوطان؟ هل الوطن هو الأرض، أم الناس، أو الاثنان معًا؟ وما نفع الأرض بلا ناس، وما نفع الناس بلا أرض، وما نفع الاثنان معًا بلا عمل؟! هل هو التاريخ، أم المستقبل، أم الحاضر، أم كل هؤلاء؟ وبماذا ينفعنا الفخر بالتاريخ إذا كان الحاضر ضعيفا، وكيف يفيد الحاضر الضعيف المستقبل؟ هل الوطن هو الأهل والأحبة، أم المجتمع؟ إن كان الوطن هو الأهل فأى مكان به الأحبة وطن، وإن كان بالمجتمع فكيف لمجتمع يتصارع ـ كل يجرى على نفسه ـ
أن يكون أهلا لناسه؟ هل هو الذكريات أم الأمنيات؟ الذكريات شخصية وذكريات الوطن تختلف من شخص لآخر، كيف لذكريات مختلفة أن تنشيء وطنا، ولمَ يكون الوطن في الماضي؟ أما الأمنيات فهى قوية بقوة الدافع وأين يكون الدافع إن كان الخمول هو سيد الموقف، من زرع الخمول ورعاه؟ برأيى الوطن هو مكان الحياة، ومحفز الأمل، وموطئ العمل، فإن فقد (بضم الفاء وكسر القاف) أحدهم فقد الوطن.
(٣) «الفلاحة ماتت»
لم تعد مصر الفلاحة ممشوقة القوام، فلم يعد هناك فلاحون أصلا بالمعنى الحقيقى للكلمة، في قريتنا - حيث نشأ أبى وأجدادي- معظم من كانوا يمارسون الفلاحة توقفوا عن ذلك، أغرتهم حياة المدينة، يريدون أن يكونوا أفندية، فلا هم أصبحوا متمدنين ولا هم أصبحوا فلاحين، فعلى سبيل المثال تقوم الحكومة المصرية بدعم القمح المزروع محليا وتشتريه من المزارعين بسعر أعلى من الذي تدفعه لمستوردى القمح فماذا حدث؟ قام مستوردو القمح بالاتفاق مع المزارعين على بيع القمح المستورد للحكومة على أنه محلي.
وبنظرة سريعة على مصر الآن ستتأكد أنها ليست فلاحة، فقد تجد أنها فتاة شعرها مموج حُر تطيره نسمات الهواء، وترتدى تنورة قصيرة وتذهب إلى «الساحل» في الصيف وتبحث عن «hang out» في نهاية الأسبوع «weekend»، وتتحدث وتعبر عن نفسها بالإنجليزية أكثر من العربية، أو هي الفتاة التي ارتدت «الحجاب» بعد أن صار موضة، فتلبس الحجاب والبنطلون الضيق لتقول إنها فاتنة وعصرية، ولكنها في نفس الوقت مسلمة وترضى الله.
لم تعد مصر فلاحة يا صديقي، أصبحت شيئا غريبا لا تعرف كنهه، تركت صفتها الرئيسية التي كانت مصدر قوة لها في عهد محمد على بك الكبير، تركت الزراعة «ومابقتش عايزة تبقى فلاحة» وأرادت أن تكون مدنية، حتى إن كلمة فلاح اليوم أصبحت تطلق على من يتصرف بشكل «غشيم» في مكان عام، أو على المصطافين في مدينة الإسكندرية في الصيف.