الجمعة 20 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

كي لا نعود الى تمجيد القائد المعلم!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تولى محمد مرسي وقبيلته، منذ اللحظات الأولى لتحكّمهم بمصر، إشعارنا بالقلق وعدم اليقين وعرضية مرورهم في تاريخ البلد. راقبنا بجزع انهيار «ثورة 25 يناير» وشعاراتها، وشيوع ظواهر تفكيكية للمجتمع تعيد اكتشافه وتفريقه وفصل أجزائه وتصنيف قطعه. وفق تلك التمارين، تولّت حكمة الحكم تحت سطوة الإخوان تعرية المصريين وكشف عوراتهم وفق منظومة قيم مستجدة، وتقديم كشف حساب يحشر الناس في معسكرين، الأول للمؤمنين الوطنيين الأشراف، والثاني للكافرين الملحدين العلمانيين الذين انعدمت أخلاقهم وقلّ حياؤهم.
بصدور نتائج فحوص الإخوان المخبرية على مصر والمصريين، وجد الأقباط أنفسهم جماعة خارج السياق، فيما قوى الثورة من خارج الإطار الديني جماعة مشبوهة على حافة العمالة، أما القضاة ففلول مرتبطون، وأهل السينما والفن والصحافة والإعلام رجسٌ من عمل الشيطان... إلخ. أضحت مصر عليلةً في داخلها تشكو الانقسام والمازوخية والمقت من التغيير، وربما الندم على حكم سقط. ذلك ما شدّ من عضد مقاومة تصاعد إيقاعها وانبسطت مساحاتها حتى فاضت في تسونامي بشري هو الأكبر في تاريخ البشرية.
هكذا هو المشهد الذي أحالنا مستسلمين لنهاية المشهد. لا مجال للحذر والتشكيك، ولا تردد في قبول استخدام المتوافر لإنقاذ المريض، لإنقاذ مصر من سقوط نحو الغرق. بات المسرح بشخوصه يبشّر بتغير المشهد بعد إسدال الستار على مشهد سابق. في خاتمة التراجيديا اطلالة للعسكر محاطاً بأزهر المسلمين وباباوية الأقباط ورموز تمثّل مصر «30 يونيو» تُسقط مشهد مصر في 29 يونيو.
لم ينته مخاض الولادة. مقاومة أهل الحكم الإخواني شديدة يصاحبها تصاعد لهجة التصريحات، وارتفاع التهويل بسورية أخرى، والتوعد بجحيم تبشر به الجماعات في سيناء... إلخ. على هذا نستمر بالانشداد الى المشهد المصري بشخوصه وجدله وحواراته ونمط إخراجه، ما يجعلنا نكتفي بالمشاهدة عاجزين عن التدخل في النصّ، كاستسلام العليل لترياق الأطباء من دون نقاش.
في ذلك ما يقلق. تجرى عملية التغيير بالحدّ الأدنى من الجدل. يتحوّل الإعلام في مصر إلى تمرين ردح يومي على حكم اندثر وحفلة تطبيل لا نشاز فيها على حكم جديد. يجرى تقديس التغيير في النصّ والإخراج والممثلين على نحو يذكّرنا بزمن ولّى عن عامة يبتهلون الدعاء للزعيم القائد.
كان لافتاً مضمون خطاب عبدالفتاح السيسي المنحوت بدقة (منتصف الشهر الماضي) أمام حشد من الضباط المصريين في قاعة ضخمة ضمّتهم. المضمون مطمئنٌ، لكن شيئاً ما، مع ذلك، كان يدعو إلى القلق. فمشهد العسكر يحتشدون ويبجلون أداء قائدهم، مشهد ماضوي ينتمي إلى عهود التوتاليتاريا. بعضهم تذكّر في كاريزما السيسي تلك منذ عقود في شخصية عبدالناصر. بعض الإعلام استعاد مقتطفات من خطب الرئيس الراحل، بعض آخر راح يحاور نجله عبدالحكيم لاستذكار ثورة 23 يوليو. لكن ماذا يُراد لمصر أن تكون؟
تتسلل قناة «الجزيرة» القطرية وبعض القنوات الصغيرة التي تعمل في فلكها لتقديم المنبر لإخوان مصر. تسعى جماعات الإخوان العرب لرفد الجماعة الأم لما لسقوطها من تداعيات على الفروع. يتحدث لسانهم عن مظلومية واغتصاب لسلطانهم وانقلاب العسكر عليهم. لكنهم أيضاً يصرخون «وا إسلاماه» لعل في ذلك ما يدفع المؤمنين لردّ «غيّ» الكافرين. وفي ذلك الأداء ما يصلّب عصب الحكام الجدد، ويضيّق هامش النقد والتشكيك إلى حدّ العدم.
في اندفاع دول إقليمية لدعم التغيير مالياً واقتصادياً ما يعكس مستوى المقت من حكم الإخوان المندثر وحجم التوق إلى مصر قوية مستقرة لا تقلق مزاجياتها استقرار الجوار. وفي اجتماع المصريين وكثير من غير المصريين على تبني ذلك التغيير ومحضه بالتأييد، ما يعكس توقاً إلى إقامة حكم العدل والمساواة والحداثة والوحدة، وكفراً بحكم التخلف والفئوية والانقسام. في ذلك الإجماع البيتي والمجاور ما يستدعي توفير شروط أمان تمنع انزلاق النهايات السعيدة إلى نهايات خارج الحساب.
يدهشنا المصريون منذ ثورتهم في 25 يونيو بقدرتهم العجيبة على الابتكار وعلى امتلاك أدوات العصر لمنع استتباب ما لا يرضونه خيراً لبلدهم. ولأن الشارع المصري ما زال محدداً لتكتيكات الحكم، ما زال عبدالفتاح السيسي يتوجه الى هذا الشارع ملتمساً التفويض من الشارع نفسه لردّ الإرهاب (لاحظ شخصنة طلب التفويض حين قال: أريد أن ينزل المصريون الى الشارع لـ «يمنحني ويفوضني...»). والقلق يكمن في الاستكانة إلى النهايات وتوقف الجدل.
ما يقدمه الإعلام المصري حالياً قد يوحي بديكتاتورية الفكرة الواحدة والصوت الواحد. كما أن تهافت شخصيات في السياسة والصحافة والإعلام، لطالما عرفت في عدائها لنظام مبارك، على مباركة عمياء لأداء المؤسسة العسكرية وقائدها، وعلى رغم وجاهة ذلك من زاوية العداء للإخوان، يثير أسئلة حول موقع المجتمع المدني في مراقبة عمل المؤسسات وتصويبه، بما في ذلك العسكرية منها. والتوجس من انحراف في الأداء لا يكمن فقط في عملية إبعاد للرأي الآخر (لا نتحدث هنا عمن يتوعد العنف ويهدد بالـ «طوفان من بعدي»)، بل في خلو الجدل الداخلي من أي نقاش واضح يعزز قناعة العسكر بالابتعاد من الحكم، ويطرد كوابيس تلوح في تمجيد أزمان يصبح فيها الحاكم فرعوناً.