الخميس 05 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الطَليعَةُ الفِكْريةُ للاحتلالِ المَدَنيِّ المُعَاصرِ (3-3)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ثم تأتي المرحلةُ الأخيرةُ وذلك بعد تفكيكِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ حيثُ يُعادُ تشكيلها على الطراز الغربي من ناحيةِ العاداتِ والسلوكِ والتقاليدِ والمظاهرِ، بل والتراثِ، ليصير تراثها هو التراث الغربي وعاداتها هي العادات الغربية والصوابُ هو ما يراه الغربُ صوابًا والخطأُ ما يراه الغربُ خطأً والحقُ ما يراه الغربُ حقًا والباطلُ ما يراه الباطلُ باطلًا، بل والديِّنُ هو يعتقده الغربُ دينًا !ولكنَّه لا يمكنُ بحالٍ أنْ تُعْطى هذه الأممُ معارفَ الغربِ وتقنيته الحديثةِ، بل لابدَّ منْ إبقاءِ تلكَ الأممِ متخلفةً عاجزةً عن "التحديثِ" وإنتاجِ سلعِ وتِقَنِيَّةِ الغربِ، عاجزةً عن اكتسابِ معارفِ الغربِ، وإذا اكتسبَ بعضُ أفرادِها شيئًا من معارفِ الغربِ يجدُّ نفسَه غريبًا في وسطِ مجتمعٍ جاهلٍ متخلفٍ، عاطلًا عن العملِ والتعايشِ مع مجتمعٍ لا يُقَدِّرُ ولا يرتقي ولا يفهمُ قيمةَ ما يحمله من معرفةٍ وعلمٍ، فيجدُ نفسَه مضطرًا إلى النزوحِ إلى مجتمعِ المتفوقين.
فإذا جمعنا ما مرَّ كلَّه جنبًا إلى جنبٍ في سياقٍ واحدٍ، انكشفَ أمامَ الأعينِ كلُّ شيءٍ، ولم يعد الأمرُ مجردَ جزئياتٍ متناثرةٍ هنا وهناك، وإنما هو أمرٌ يُدَبَّرُ بليلٍ، وبمكرٍ وخبثٍ تعجزُ عنه عقولُ الشياطينِ وقلوبُ الأبالسةِ .
ألا إنَّ استقراءَ التاريخِ ليقررُ أنَّ العلاقةَ بين الاحتلالِ- وليس الاستعمارِ- والتدينِ الحقيقي علاقةٌ عكسيةٌ، فكلما زادتْ نسبةُ التدينِ الحقيقي، قلت فرصُ الاحتلالِ في السيطرةِ على الأممِ والشعوبِ أو الاستمرارِ في احتلالها، والعكسُ بالعكسِ، ولهذا لا تجدُّ أمةً كانت متمسكةً بدينِها وتراثِها وحضارِتها استطاعَ محتلٌ- مهما كانت قوتُّه- أنْ يسيطرَ عليها أو أنْ يستمرَ طويلًا على أرضِها، واعتبر بحالِ هجمةِ "نابليون" على مصرِ والتي لم تستطع البقاءَ في مصرَ لأكثرَ من ثلاثِ سنواتٍ، مع قوةِ الفرنسيين العسكريةِ وضعفِ مصرَ -حينها- عسكريًا وسياسيًا، ولكن كانتْ الأمةُ المصريةُ متمسكةً بدينها وتراثها وقيمها تعملُ تحتَ رايةِ الأزهرِ الشريفِ، فقاومتْ المحتلَ حتى طردته .
فلما جاء "محمد علي" ونحى الأزهرَ جانبًا، وعملَ على تغريبِ مصرَ- لا تحديثها- وحولها إلى نسخةٍ من باريس، حتى في التحللِ من الدينِ، لم يكدْ يمرُ ثمانين عامًا حتى جاءَ المحتلُ الإنجليزي، وقد زادتْ قوةُ مصرَ العسكرية وصار لها جيشٌ، إلا أنَّه كانت قد قلتْ نسبةُ تدينِ أبنائِها، فهُزِمَ الجيشُ واستمرَ المحتلُ أكثرَ من نصفِ قرنٍ من الزمانِ .
ولما كان المستشرقون من الغربِ ووكلاؤهم من الشرقِ يعلمون ذلك علمَ اليقينِ، فقد كانوا دائمًا يعملون على محاربةِ التدينِ الحقيقي، وعلى نشرِ التحللِ من الأخلاقِ، ونشرِ الإباحيةِ والرذائلِ والانحلالِ بل والإلحادِ داخلَ المجتمعاتِ المرادِ احتلالها تحت مسمياتٍ براقةٍ كاذبةٍ من الحريةِ والثقافةِ.
وبناءً على كلِّ ما تقدم نقررُ ما يلي: أنَّ دعاةَ التحللِ من التدينِ والقائمين على محاربةِ الثوابتِ والتشكيكِ في الدِّينِ والتشكيكِ في الغيبيات والطاعنين في السنةِ النبويةِ المطهرةِ، والداعين إلى التفلتِ الأخلاقي ونشرِ الرذيلةِ في المجتمعِ، والمروجين لتركِ الالتزام بالأحكامِ الشرعيةِ والدينيةِ تحت شعاراتٍ براقةٍ كاذبةٍ من الحريةِ الشخصيةِ والجنسيةِ وما شابهها، ليسوا إلا "الطَّليعَةُ الفِكريَّةُ للاحتلالِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ "، وأنَّ هؤلاءِ الذين يظهرون الآن فجأةً وفي مصرَ خاصةً وفي هذا التوقيتِ بعينِه ليسوا إلا جزءًا من المعركةِ التي تخوضها مصرُ نحو التحررِ الوطني والاستقلالِ القومي، وأنً هؤلاءِ المشككين في الديِّنِ الساعين لهدمِه إنما يعملون في خدمةِ الاحتلالِ المعاصرِ في صورتِه المدنيةِ- علموا أو لم يعلموا قصدوا أو لم يقصدوا- فهم- وبلا شكٍ- طليعتُه الفكريةُ الممهدون له الطريقَ والناثرون له البذورَ .