كانت مؤسسة روز اليوسف أول ساحة خطوت فيها
خطواتى الأولى فى بلاط صاحبة الجلالة، كان ذلك فى نهاية عام 1994 بمجلة صباح الخير
حيث أمضيت أربعة أعوام اعتبرها سنوات التكوين الأولى فى عالم الصحافة.
فى روز اليوسف مدرسة وروح استقرت عبر
سنوات، فى تلك الفترة كان التنافس شديدا بين الصحفيين فى المجلتين الأسبوعيتين "روزا"
و"صباح" وكان الأستاذ عبدالله كمال أحد أهم الشباب الصحفيين الذين كان
يعتمد عليهم الأستاذ عادل حمودة فى صناعة المادة التحريرية لأشهر مجلة، والأكثر
توزيعا بين الأسبوعيات المصرية آن ذاك .
كنت حديث التخرج وجزء من عملية التدريب
قراءة ومتابعة ما ينشره الزملاء الأكبر سنا والأكثر خبرة من اخبار وتقارير
وتحقيقات، وبسبب الغيرة المهنية بين "روزا" و"صباح" كانت
موضوعات "روز اليوسف" نصب أعيننا.
حينها كان الاستاذ عبدالله ف التاسعة والعشرين
تقريبا وكان من بين من أعجبت بطريقة كتابته وظل ذلك الإعجاب حتى آخر ما كتب، لم
يحدث احتكاك مباشر إلا بضع مرات قليلة بسبب ذلك التنافس المهنى مع زميلى وصديقى
الروزوى وقتها عمرو الجندى، ولما تبدو عليه ملامح الاستاذ عبدالله من حدة وحزم شعرت
لأول مرة طلب فيها مقابلتى بنوع من الريبة (فأنا ابن إرمباح لا بل النهارده) لكنى
وجدت أخا كبيرا ناصحا بحسم ما لبث أن اتبعه بابتسامة.
غادرت صباح الخير إلى جريدة العربى لكن
ظل تعلقى بمدرسة روز اليوسف ولم التق بالأستاذ عبدالله إلا فى عام 2006 عندما ذهبت
إليه طالبا العمل معه كمحرر فى قسم التحقيقات بجريدة "روز اليوسف"
اليومية لن انسى الاستقبال الرقيق وحرصه على تأكيد أنه يذكرنى ويعرفنى جيدا، كان ذلك
من باب الود والحميمية، فوق ذلك كان تعامله مهنيا بدرجة لم أعهدها فى رؤساء تحرير آخرين
عملت معهم فى بعض صحف المعارضة .
أذكر أن أول التحقيقات التى أجريتها كان
حول حركة كفاية وكان بعض أطرافه موجودين بآرائهم ف ذلك التحقيق وقمت بالإعداد
والمشاركة فى ملفات تخص الصحة والزراعة والتعليم والبحث العلمى ولا أذكر أننا
مدحنا وزيرا أو مسئولا ف الحكومة وقتها بل على العكس اصطدمت مع وزير التعليم
العالى والبحث العلمى وقال لى متعاليا روز اليوسف جريدة الحكومة (يعنى بتاعتنا وكان
ردى وقتها معالى الوزير الجريدة ملك الشعب ومش ملك حضرتك وتستطيع ان تسأل فى هذا رئيس
تحريرى) الذى كان عضوا ف الحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم حينها، لكنى كنت واثقا فى
قوة واحترام ومهنية رئيس التحرير الذى أعمل معه، فهو من نشر حوارى مع الدكتور مراد
وهبة دون حذف كلمة واحدة، وكان المفكر الكبير يحلل وينتقد ويهاجم النظام حينها
بهدوئه المعهود.
بعد عامين شجعنى الاستاذ عبدالله كمال
على كتابة المقال، فتح أمامى صفحة الرأي، وكانت تلك هى المرة الأولى اتجاسر فيها
على القلم فأنا ممن تربوا فى مدرسة تؤمن ببناء الصحفى مهنيا وثقافيا ووجدانيا
كمرحلة أولى قبل أن يمضى نحو كتابة اصعب فنون وأشكال الكتابة ألا وهو المقال أو
عمود الرأى.
حافظ عبدالله كمال على روح روز اليوسف وأدارها
بأسلوبه الذى كان مدرسة فى حد ذاته أركانها الكفاءة والالتزام بمعايير المهنة
التزاما صارما لا يعرف معه الوساطة او المحسوبية لكنه فى ذات الوقت يحسن تقدير
الناس وتقييمهم وهو فى ذلك كله يعامل الجميع برقى إنسانى أدركه حتى خصومه اللهم
إلا الحاقدين والأغبياء منهم .
الحاقدون لم يعترفوا ابدا بمهنية وشطارة
عبدالله كمال الصحفية حتى أن بعضهم سخر عندما أجرى امتحانا فى الإملاء واللغة
العربية لمحررى روز اليوسف ولم يطرد الراسبين بل حفزهم على الاهتمام باللغة.
الحاقدون حاولوا إلى آخر لحظة حتى بعد
وفاته ربط مواقفه ومبادئه السياسية بشخوص ورموز نظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك،
وراحوا يمدحونه على ثباته ليس ف المبدأ وإنما فى الانتماء والدفاع عن شخص مبارك
ونجله جمال على وجه الخصوص رغم ان الرجل ومن قبل يناير 2011 وحتى وفاته كان يعلن
انتماءه للحزب الوطنى كمجموعة أفكار ومبادئ، وإيمانه بأن الإصلاح والتطوير
والتحديث لابد وأن يأتى من داخل الدولة وهذا ما نبدو نحن بصدده الآن.
كان ولاؤه للدولة المصرية وليس لمبارك أو
نجله أو أى أحد آخر وحلل حنين الناس أيام حكم الإخوان إلى مبارك أنه حنين إلى
الدولة التى افتقدوها، (أو لم نشعر جميعا بهذا النوع من الحنين فى زمن الخائن).
لا أدعى أننى كنت صديقا أو من المقربين
من الأستاذ عبدالله كمال لكن قدرا من التواصل الإنسانى ظل قائما بيننا، ومع ذلك
ليس هذا هو المهم، فيكفى أن تعامل عبدالله كمال مهنيا وإنسانيا لتحبه وتذكره
بالخير حتى لو لم يذكرك هو فمثله صاروا عملة نادرة فى عالم الصحافة الذى بات يفتقد
جانبا كبيرا من أخلاقياته وإنسانيته .
مات عبدالله كمال وليس مجالا لنفاقه لكن
هذه شهادة صحفى عمل مع هذا الرجل لثلاثة أعوام وعرف كيف كان قبل ان يكون ريئس
تحرير وعضو مجلس شورى وعامله أثناء ذلك حتى قرب وفاته .
عبدالله كمال سنفتقدك جميعا وسيفتقد
خصومك وحسادك آراءك وتحليلاتك وقبلنا وبعدنا سيفتقدك ذلك الركن الذى اعتدت الجلوس
فيه بمقهى فيينا بشارع قصر العينى، وربما ستبكيك الشيشة التى لطالما أحببت دخانها .