كان لبلدةٍ من بلادِ المسلمين قديمًا عادةٌ لا تنقطع عنها أبدًا، وديدنٌ لا تَنْفَكُ عنها قطُّ، وهي أنهم لا يأتيهم أميرٌ جديدٌ ولا يولى عليهم واليًا جديدًا إلا وكان أول ما يستهلُ من عملِه وولايتِه إذا دخل بلدهم أن يصعد المنبر فيخطبَ فيهم خطبةً يَبِينُ فيها عن نفسه ونسبه وعن خُطَطِه المستقبلية للعمل وسيرته وطريقته التي ينتوي أن يسلكها معهم، وطريقة سياسته للأمور، وكيف سينسج على منوال أحوالهم في مدة ولايته عليهم.
ومرة عُيَّنَ عليهم أميرٌ جديدٌ وجاء الرجلُ لا يعلمُ شيئًا عن عادتهم تلك ولا يدري شيئًا عن خطتهم ذاك وإذا بهم يأخذونه "من الدارِ إلى النارِ" كما يقال، ووجد الرجلُ نفسه فجأةً وقد أٌقْعِدَ على المنبر ولم يكُ قطُ قد مارس الخطابة في حياته، وإذا به يُفَاجَأ أن عليه أن يخطبَ خطبةً عظيمةً تليقُ به وتليق بمن يسمعون، وتتسمُ بالإيجازِ والبيانِ في آنٍ، وصاحبُنا هذا كما تعلمون أمضى عمره كله ولم يخطب خطبةً واحدةً ولا في أحلامه.
وللمنبرِ من الرهبةِ والهيبةِ ما لا يعرفها إلا من مارسها، خاصة إذا كان الخطيبُ مستشعرًا شرفَ الكلمةِ وأمانةَ الموقفِ ومسؤوليةَ البيانِ، فَعُقِدَ لسانُ الرجلِ عن الكلامِ وارتجَ عليه، وقد أخذته الرهبةُ فعَقَدَتْ لسانَه عن الكلامِ فما نبسَ ببنتِ شفةٍ، وقد يَبُسَ فمُه، وتحجَّرَ لسانُه وقد التصقَ في سقفِ حنكِهِ، وظل مدةً طويلةً على المنبرِ يحاولُ أن يستجمعَ نفسَه لينطقَ بكلمةٍ واحدةٍ فما استطاع أن يقاومَ ذلك الرهابَ الذي تملَّك منه فأخرسه وأسكته.
فلما يأسَ الرجلُ من أمرِ نفسِه واعتلاه الحرج فأقعده، وأغرقه العرقُ حتى ألجمه نزل.
فلما نزل انحلتْ عقدةٌ من لسانِه ليَبيِنَ عن نفسه قائلًا: "أنتم إلى أميرٍ فعَّالٍ أحوجَ منكم إلى أميرٍ قوَّال".
ثم أنشأ قائلًا:
فإنْ لا أكنْ فيكم خطيبًا.. بسيفي إذا جدَّ الوغى لخطيبُ.
وكان بعضُ الأعرابِ حاضرًا فقال: لو قالها وهو على المنبرِ ثمَّ نزلَ لكان أفصحَ العرب.
وقال آخر: إن اعتذاره أبلغُ من خطابةِ غيره.
وقال ثالثٌ: واللهِ ما علا ذلك المنبر أخطبَ منه في كلماتِه تلك.
نعم، ما أسهلَ الكلامَ والوعودَ البراقةَ ولكن ما أصعبَ العملَ والصدقَ في الوعدِ.
فالخطابةٌ - لمن يعرفها- صنعةٌ يتقنها العَاِلمُ والجاهلُ، والوعودُ البراقةُ يسهل على كلِ أحد أن يطلقها ولكن القضيةَ كلَ القضيةِ في تحقيقِ تلك الوعود.
كلُ الناس يقدرُ على أن يّعِدَ، وكلُ الناسِ يستطيعُ أن يطلقَ الأمانيَ الكاذباتِ أو الصادقاتِ كما يشاء ولكنَّ المحكَ على العمل والإنجاز.
وكلٌ يدَّعي وصلًا بليلى.. وليلى لا تقرُ لهم بذاكَ
إذا اتصلتْ دموعٌ بالجفونِ.. تبينَ منْ بكى ممنْ تباكى
نعم، لسنا في حاجةٍ – والحالةُ هذه – إلى خطيبٍ مفوهٍ يحسنُ ترتيب الحروفِ، وتنميق الكلماتِ، ودغدغةِ المشاعرِ وإطلاق الوعودِ التي لا يمكنُ تحقيقها، بقدر ما نحنُ بحاجةٍ إلى من يجيدُ العملَ ويَجِدُّ فيه.
نعم، نحنُ "إلى أميرٍ فعَّالٍ أحوجَ منَّا إلى أميرٍ قوَّالٍ".
ولئنْ لم يكنْ فينا خطيبًا... فسيفُه إذا جدَّ الوغى لخطيبُ
ومرة عُيَّنَ عليهم أميرٌ جديدٌ وجاء الرجلُ لا يعلمُ شيئًا عن عادتهم تلك ولا يدري شيئًا عن خطتهم ذاك وإذا بهم يأخذونه "من الدارِ إلى النارِ" كما يقال، ووجد الرجلُ نفسه فجأةً وقد أٌقْعِدَ على المنبر ولم يكُ قطُ قد مارس الخطابة في حياته، وإذا به يُفَاجَأ أن عليه أن يخطبَ خطبةً عظيمةً تليقُ به وتليق بمن يسمعون، وتتسمُ بالإيجازِ والبيانِ في آنٍ، وصاحبُنا هذا كما تعلمون أمضى عمره كله ولم يخطب خطبةً واحدةً ولا في أحلامه.
وللمنبرِ من الرهبةِ والهيبةِ ما لا يعرفها إلا من مارسها، خاصة إذا كان الخطيبُ مستشعرًا شرفَ الكلمةِ وأمانةَ الموقفِ ومسؤوليةَ البيانِ، فَعُقِدَ لسانُ الرجلِ عن الكلامِ وارتجَ عليه، وقد أخذته الرهبةُ فعَقَدَتْ لسانَه عن الكلامِ فما نبسَ ببنتِ شفةٍ، وقد يَبُسَ فمُه، وتحجَّرَ لسانُه وقد التصقَ في سقفِ حنكِهِ، وظل مدةً طويلةً على المنبرِ يحاولُ أن يستجمعَ نفسَه لينطقَ بكلمةٍ واحدةٍ فما استطاع أن يقاومَ ذلك الرهابَ الذي تملَّك منه فأخرسه وأسكته.
فلما يأسَ الرجلُ من أمرِ نفسِه واعتلاه الحرج فأقعده، وأغرقه العرقُ حتى ألجمه نزل.
فلما نزل انحلتْ عقدةٌ من لسانِه ليَبيِنَ عن نفسه قائلًا: "أنتم إلى أميرٍ فعَّالٍ أحوجَ منكم إلى أميرٍ قوَّال".
ثم أنشأ قائلًا:
فإنْ لا أكنْ فيكم خطيبًا.. بسيفي إذا جدَّ الوغى لخطيبُ.
وكان بعضُ الأعرابِ حاضرًا فقال: لو قالها وهو على المنبرِ ثمَّ نزلَ لكان أفصحَ العرب.
وقال آخر: إن اعتذاره أبلغُ من خطابةِ غيره.
وقال ثالثٌ: واللهِ ما علا ذلك المنبر أخطبَ منه في كلماتِه تلك.
نعم، ما أسهلَ الكلامَ والوعودَ البراقةَ ولكن ما أصعبَ العملَ والصدقَ في الوعدِ.
فالخطابةٌ - لمن يعرفها- صنعةٌ يتقنها العَاِلمُ والجاهلُ، والوعودُ البراقةُ يسهل على كلِ أحد أن يطلقها ولكن القضيةَ كلَ القضيةِ في تحقيقِ تلك الوعود.
كلُ الناس يقدرُ على أن يّعِدَ، وكلُ الناسِ يستطيعُ أن يطلقَ الأمانيَ الكاذباتِ أو الصادقاتِ كما يشاء ولكنَّ المحكَ على العمل والإنجاز.
وكلٌ يدَّعي وصلًا بليلى.. وليلى لا تقرُ لهم بذاكَ
إذا اتصلتْ دموعٌ بالجفونِ.. تبينَ منْ بكى ممنْ تباكى
نعم، لسنا في حاجةٍ – والحالةُ هذه – إلى خطيبٍ مفوهٍ يحسنُ ترتيب الحروفِ، وتنميق الكلماتِ، ودغدغةِ المشاعرِ وإطلاق الوعودِ التي لا يمكنُ تحقيقها، بقدر ما نحنُ بحاجةٍ إلى من يجيدُ العملَ ويَجِدُّ فيه.
نعم، نحنُ "إلى أميرٍ فعَّالٍ أحوجَ منَّا إلى أميرٍ قوَّالٍ".
ولئنْ لم يكنْ فينا خطيبًا... فسيفُه إذا جدَّ الوغى لخطيبُ