تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
لا شك أننا نعيش مناخ الارتباك في أوج تجلياته، ولم تعد الإجابات قادرة على ملاحقة الأسئلة الغائمة والمرتبكة والحائرة في كل الأحوال، فجفاف المعلومات يخنقها والمكاشفة تخاصمها والشفافية لا تقيم في رحابها، وقد يكون هذا واحداً من أعراض المراحل الانتقالية، التي من المفترض أنها موقوتة بالانتقال إلى مرحلة الاستقرار بعد أن يسترد المجتمع وعيه وينتبه أن الثورة استثناء لتصحيح عوار لكنها لا يمكن أن تكون نسق حياة مستداما، وإلا لصارت فوضى لا يحكمها قانون أو قواعد تنظم تضارب المصالح، أو تكبح جماح التناحر والتصارع، خاصة في مجتمعات ما زالت مخاصمة للتعليم ومن ثم الثقافة، وما زالت تجزع من الفنون والآداب، وتكره الجسد و“,”تعلب“,” المرأة ثم تتلصص عليها تشتهيها وتلعنها.
ما نعيشه في مناخ الارتباك لم يكن وليد لحظة، بل كان ينمو خلف أسوار نظم قامعة توالت علينا منذ أن داعبتنا إرهاصات الدولة القومية الحديثة قبل قرنين حين تواصلنا أو اقتحمتنا رياح الغرب، عبر قافلة الطهطاوي ورفاقه وطموحات محمد علي، وربما قبلها بقليل مع الصدمة الحضارية التي أحدثتها الحملة الفرنسية، ومعها استعرت الحرب بين التقليد والحداثة، فضلاً عن صراعات القوى الدولية آنئذ وهوس الفرنجة بالحضارة المصرية القديمة، وإستراتيجية الموقع القدري لمصر الذي كان يحسب مفتاح الشرقين الأقصى والأدنى، لكننا كنا كمن يضع رقعة جديدة لرتق ثوب عتيق.
كانت مصطلحات الدولة الحديثة تحتل موقعاً متقدماً في أدبيات وجدل النخب السياسية وكذلك التيارات السياسية والفلسفية التي تلمس الغرب إرهاصاتها فيما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وفعَّلها ما بين الحربين العالميتين وبعدهما، لكن الشارع كان يعيش منغلقاً على موروث فرضه حكامه منفصل عن هذا وربما متحصناً به في مواجهة رياح الخروج العاتية، لا يملك ترف منازلة السياسة أو تعاطيها، بل اعتبر من يدخل في دائرتها مريض “,”عنده فكر“,”، والعياذ بالله.
كانت الديمقراطية واحدة من المصطلحات الوافدة، بينما كانت الأبوة تهيمن على كل مناحي الحياة، من الوالي على قمة هرم السلطة، إلى الأب والجد في البيت، مروراً برجل الدين والعمدة، وصاحب العمل ومالك الإقطاعية، كانت المعارضة عصب الوافد، والطاعة سمة الداخل الذي يعتبر غيابها دليل تفسخ المجتمع في الثقافة السائدة، وبين الوافد والداخل كانت المصالح ترسم خريطة الصراع.
حتى اللحظة ما زالت الديمقراطية، المنظومة والحياة، عضواً مزروعاً في جسد يرفضه ويكاد يلفظه، لذلك لم نختبرها إنما امتطيت كآلية لإدارة صراع ضيق لا وطن يتسع للجميع، جردت من المضمون واختزلت في “,”الصندوق“,” الذي هو منتج لحياة، أو قل هو حرف في جملة ممتدة إذا انفصل عنها لا يعطي معنى.
الصندوق يعبر عن تفاعلات لحظة بعينها، وتبقى نتائجة مرتهنة ببقائها، وتستمد مشروعيتها من التزام الأطراف كافة بشروط العقد الاجتماعي الذي تم التوقيع عليه من جموع الناخبين، عبر الصندوق، والفائز النهائي، وهو أمر عرفه العالم المتحضر بعدما اكتشف حاجته لمواجهة الفوضى وصراع المصالح إلى الاتفاق على العيش تحت قوانين مشتركة وإيجاد آلية لفرض القوانين عن طريق سلطة حاكمة، كما رصد الفيلسوف الإنجليزى توماس هوبز (1588 ـ 1679)، فكانت الحكومة والحاكم، وفي المقابل جاء البرلمان تعبيراً عن الرقابة الشعبية على أداء السلطة الحاكمة، وجاء القضاء ليحقق العدالة وفق منظومة القوانين التي أقرها البرلمان والتزمت بها الحكومة، في تكاملية تضبط توازن المجتمع وتمنع شطط أحدهم أو تغوله، وفي هذا العقد يعطي الشعب توكيلاً مشروطاً للحاكم ليدير الوطن ويرعى مصالحه تأسيساً على مبادئ المساواة والعدالة.
فماذا لو اختلت هذه المعادلة، تقاعس البرلمان أو أقصى القضاء أو تجبر الحاكم، أو استقوى على الأمة بما يعد إخلالاً بشروط العقد التي التزم بها، هنا وبحسب جون لوك (1632 ـ 1704) أحد أبرز المؤسسين لنظرية العقد الاجتماعي، حق للفرد وللشعب مقاومة السلطة الغاشمة انطلاقا من مبدأ الدفاع عن النفس.
ويذهب جان جاك روسو (1712 ـ 1778) في هذا الصدد إلى أن الحاكم بكونه طرفاً في العقد حال إخلاله بشروطه، جاز عزله.
فإذا انتقلنا من السرد إلى الأرض، نجد أنفسنا أمام مشهد مرتبك، سلطة حاكمة تختزل الديمقراطية في الصندوق في لحظة بعينها، وترفض أن تحتكم إليه مجدداً لحسم حالة الرفض العارم والمتصاعد والمنذر بانفجار، وبرلمان غائب ومجلس يعاني من العوار لا يمكن أن يحسب برلماناً ليس فقط بحسب أحكام المحكمة الدستورية ببطلان تشكيله، لكن لأن ثلثه معين من قبل الحاكم (90 عضواً)، ما يفقده صلاحية الرقابة الحقيقية، وقضاء محاصر ومستهدف.
الأمر يتجاوز الارتباك إلى نذر احتراب يعيد للأذهان تجارب النظم التي قفزت على السلطة عبر صندوق لا تؤمن به، وتعاملت معه باعتباره نقطة في آخر سطر العلاقة المتوازنة بين الحاكم والمحكوم، واختزلت حلم الوطن في أيديولوجية راديكالية تحركها شهوة السيطرة والإقصاء. فكانت النتائج كارثية، هتلر والنازية نموذج، وموسوليني وفاشيته ليس ببعيد.
يعمق من الأزمة عندنا تحالف الفساد مع زعم الحلم الديني وتوظيفهما لتفكيك الوطن واستنزافه، واللعب على الذهنية العامة بعد أن خربتها منظومات التعليم والثقافة وغير قليل من الإعلام عبر عقود ممتدة، وعبر سيطرة ممنهجة تضرب أساساتها بسرعة وإصرار، لولا بقية من عقول ما زالت تحتمي بمصريتها وتزود عنها.
ويبقى الرهان على الإبداع المصري التلقائي المبهر الذي لا يموت، وربما كانت “,”تمرد“,” إحدى تجلياته، والتي قد تعيد ترتيب الواقع المصري وتفتح الطريق لإيجاد معادلة موضوعية للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، مؤسسة على خبرات وتجارب العالم المتحضر في مواجهة التفافات أعداء الحياة والعدالة والمساواة والتعدد والتنوع وكل ما هو مصري، والساعون لإعادة إنتاج الدولة الدينية بمسميات مخاتلة مفارقة ومعادية لحركة التاريخ.