البابا فرنسيس يدرج 21 قبطيًا قتلوا فى ليبيا عام 2015 فى قائمة شهداء الكنيسة الكاثوليكية أثناء لقائه البابا تواضروس
البابا فرنسيس جمع الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز والرئيس الفلسطينى محمود عباس من فى صلاة من أجل السلام عام 2014
فى مشهد ملؤه الحزن والاحترام، يودّع العالم، السبت، قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، الذى وافته المنية فى ٢١ أبريل ٢٠٢٥ عن عمر ناهز ٨٨ عامًا، بعد مسيرة روحية وإنسانية امتدت لأكثر من عشرين عامًا، خدم خلالها السلام، ودافع عن الفقراء، وجسّد قيم الرحمة والتواضع، فى جنازة مهيبة وحاشدة شارك فيها الآلاف من محبيه وذلك فى حضور واسع من كبار الشخصيات الدينية والسياسية من مختلف أنحاء العالم، بعد فترة بابوية شهدت العديد من القضايا غير المسبوقة من خلال سعيه المتواصل من أجل إجراء إصلاحات داخل الكنيسة الكاثوليكية، والحفاظ فى ذات الوقت على مكانته بين المؤمنين المحافظين.
كان البابا فرنسيس أول بابا يأتى من الأمريكتين أو من النصف الجنوبى للكرة الأرضية، كما كان أول بابا ينتمى إلى الرهبنة اليسوعية على كرسى القديس بطرس، رغم نظرة روما إلى أبناء هذه الرهبنة بعين الحذر والتوجس عبر العصور. كما جاء البابا فرنسيس فى سابقة لم تشهدها الكنيسة منذ نحو ستة قرون، بعدما تنحى البابا بنديكتوس السادس عشر عن حبريته طوعًا.
كان الكاردينال خورخى ماريو بيرجوليو، البابا فرنسيس فيما بعد، القادم من الأرجنتين، قد بلغ العقد السابع من عمره، حينما اعتلى الكرسى الرسولى فى عام ٢٠١٣، وقدّم نفسه على أنه مرشح توافقي، مستقطبًا المحافظين بتمسكه بالآراء التقليدية فى القضايا الجنسية من جهة، والإصلاحيين برؤيته المنفتحة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية من جهة أخرى. كما عُلِّقَت عليه الآمال كى تُضفى خلفيته غير التقليدية روحًا جديدة على الفاتيكان، تبعث فيه الحيوية وتجدد رسالته المقدسة. وتعرضت رياح الإصلاح التى حملها البابا فرنسيس لتيارات مقاومة داخل أروقة الفاتيكان البيروقراطية.
منهج مختلف
أظهر البابا فرنسيس، منذ أن تولى كرسى البابوية، إصرارًا على انتهاج أسلوب مغاير، استهله باستقبال كرادلة الكنيسة بطريقة غير رسمية، واقفًا بين الحاضرين، متخليًا عن الجلوس على الكرسى البابوي. وفى ١٣ مارس عام ٢٠١٣، ظهر البابا فرنسيس من الشرفة المطلّة على ساحة القديس بطرس، متشحًا باللون الأبيض فى تواضع وبساطة، واختار اسمًا جديدًا هو فرنسيس، تيمنًا بالقديس فرنسيس الأسيزي، الواعظ الشهير فى القرن الثالث عشر الميلادي.
وبذلك، اختار البابا فرنسيس التواضع بدلًا من الفخامة ومظاهر البذخ، وتخلى عن استخدام عربات الليموزين البابوية، وحرص على مشاركة الكرادلة فى رحلاتهم بالحافلة. كما اختار طريقًا أخلاقيًا لرعيته من مؤمنى الكنيسة الكاثوليكية، التى تضم نحو ١.٢ مليار مؤمن، قائلًا: "كم أودّ أن تكون الكنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء".
حرص بيرجوليو على ترسيخ صورة الرجل المتواضع، مبتعدًا عن مظاهر البذخ التى تصاحب المناصب الكنسية الرفيعة، وكان يختار السفر فى الدرجة الاقتصادية غالبًا، وفضّل ارتداء ثوب الكهنوت الأسود، بدلًا من الألوان القرمزية والأرجوانية التى ترمز إلى رتبته داخل الكنيسة.
وُلِد خورخى ماريو بيرجوليو فى العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس فى ١٧ ديسمبر عام ١٩٣٦، وكان الابن البكر بين خمسة أبناء، فر والداه من وطنهما إيطاليا هربًا من ويلات الفاشية. وكان شغوفًا برقصة التانجو، كما كان مشجعًا لنادى كرة القدم المحلي، سان لورينزو.
وكادت نوبة التهاب رئوى حادة أن تودى بحياته، لولا نجاته بأعجوبة فى أعقاب جراحة لاستئصال جزء من رئته، الأمر الذى جعله عرضة لمخاطر العدوى طيلة حياته. وفى سنوات شيخوخته، عانى من آلام مزمنة فى ركبته اليمنى، واعتبر هذه الآلام "إماتة للجسد".
عمل بيرجوليو فى شبابه كحارس ملهى ليلى وعامل نظافة، قبل أن يُكمل دراسته لاحقًا فى مجال الكيمياء. وعمل فى أحد المصانع المحلية مع إستير باليسترينو، التى كانت مناهضة للحكم العسكرى فى الأرجنتين، وتعرضت للتعذيب، وظل مصير جثتها مجهولًا.
انضم بيرجوليو إلى الرهبنة اليسوعية، ودرس الفلسفة، ثم اتجه إلى تدريس الأدب وعلم النفس، وبعد عشر سنوات من سيامته فى الكهنوت، ارتقى سريعًا فى سلّم الرهبنة حتى أصبح الرئيس الإقليمى للرهبنة اليسوعية فى الأرجنتين عام ١٩٧٣.
لم يكن بيرجوليو على وفاق دائم مع زملائه اليسوعيين، الذين رأى بعضهم أنه لم يُبد اهتماما كافيا بـ"لاهوت التحرير"، وهو تيار فكرى يجمع بين الفكر المسيحى والفكر الماركسى الذى يستهدف مقاومة الظلم، لكنه فضّل اتباع نهج أكثر هدوءًا يستند إلى الدعم الرعوي.
بابا التواضع

رُسم بيرجوليو فى رتبة أسقف معاون لمدينة بوينس آيرس عام ١٩٩٢، ثم تولّى رتبة رئيس الأساقفة. ومنحه البابا يوحنا بولس الثانى رتبة كاردينال فى عام ٢٠٠١، وتولى مهام فى الإدارة الكنسية، المعروفة باسم "الكوريا الرومانية".
حرص البابا فرنسيس فى عظاته على الدفاع بشدة عن العدالة الاجتماعية، منتقدًا الحكومات التى تتقاعس عن الاهتمام بالفئات الأشد فقرًا فى المجتمع. وقال فى إحدى العظات: "نعيش فى أكثر مناطق العالم تفاوتًا، شهدنا أعظم معدلات النمو، لكننا لم نحقق سوى أدنى حد من تقليص البؤس".
سعى البابا فرنسيس، بوصفه الحبر الأعظم بجديّة، إلى معالجة الانقسام الذى استمر ألف عام بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. وفى اعتراف بهذه الجهود، شهد بطريرك القسطنطينية، لأول مرة منذ الانقسام الكبير عام ١٠٥٤، مراسم تنصيب أسقف روما الجديد.
كما تعاون البابا مع طوائف الأنجليكان واللوثريين والميثوديين، ونجح فى إقناع رئيسى إسرائيل وفلسطين بالمشاركة معه فى صلاة من أجل إحلال السلام.

وشدد البابا فرنسيس فى عظة ألقاها، فى أعقاب هجمات كان نفذها تنظيم إسلامى مسلح، على أنه ليس من الإنصاف وصم الإسلام بالعنف، وأضاف: "إن كنت سأتحدث عن العنف الإسلامي، فلابد أن أتحدث أيضًا عن العنف الكاثوليكي".
وعلى الصعيد السياسي، أظهر دعمه لمطالبة الحكومة الأرجنتينية بجزر فوكلاند، وقال فى مناسبة دينية: "نأتى اليوم لنرفع صلواتنا من أجل الذين سقطوا، أبناء الوطن الذين خرجوا دفاعًا عن أرضهم، والمطالبة بما هو حق لهم".
ولعب البابا دورًا جوهريًا فى وساطة دبلوماسية عندما بدأت الحكومة الأمريكية خطواتها نحو تحقيق تقارب تاريخى مع كوبا، وهو دور دبلوماسى بارز من الصعب تخيّل بابا أوروبى يؤدى مثله.
كان البابا فرنسيس متمسكًا بالتقاليد الكاثوليكية فى كثير من تعاليم الكنيسة. ويقول المونسنيور أوزفالدو موستو، الذى زامله فى المعهد الديني، كان البابا "صارمًا جدا، مثل البابا يوحنا بولس الثاني، فيما يخص قضايا القتل الرحيم، وعقوبة الإعدام، والإجهاض، وحق الحياة، وحقوق الإنسان، والكهنوت المتبتل". ورفض بشكل قاطع فكرة سيامة النساء، مشددًا على أن البابا يوحنا بولس الثانى حسم الأمر نهائيًا.
وعقب توليه الكرسى الرسولى فى عام ٢٠١٣، شارك فى مسيرة مناهضة للإجهاض فى روما، مشددًا على ضرورة حماية حق الأجنّة فى الحياة "منذ بداية الحمل". كما ناشد أطباء النساء والتوليد بالاحتكام إلى ضمائرهم، ووجّه رسالة إلى إيرلندا، التى كانت تجرى وقتها استفتاءً بشأن هذه القضية، طالبا من شعبهًا الحفاظ على حقوق الضعفاء. وعلى الرغم من أنه أبدى بعض الانفتاح على فكرة استخدام وسائل منع الحمل للوقاية من الأمراض، إلا أنه أيد تعاليم البابا بولس السادس، الذى حذر من أن هذه الوسائل قد تسهم فى اختزال دور المرأة إلى مجرد أداة لمتعة الرجل.
وفى عام ٢٠١٥، قال البابا فرنسيس أمام حشد فى الفلبين إن استخدام وسائل منع الحمل يعدّ "تدميرًا للأسرة من خلال حرمانها من الأبناء"، ولم يكن مجرد عدم انجاب الأطفال هو ما اعتبره مضرًا، بل تعمّد عدم الإنجاب.
الاعتداء على الأطفال
واجه البابا فرنسيس خلال حبريته تحديًا صعبًا من جهتين: من الذين تعالت أصواتهم تتهمه بعدم التصدى بحزم لقضية الاعتداء على الأطفال، ومن رفض المحافظين الذين رأوا فى طريقته تمييعًا للإيمان، كما كانت مسألة منح المطلقين المتزوجين مجددًا الحق فى تناول القربان المقدس من بين أكثر القرارات إثارة للجدل.
وجعل المحافظون قضية الاعتداءات على الأطفال أداة فى حملتهم الطويلة. وفى أغسطس عام ٢٠١٨، أصدر رئيس الأساقفة كارلو ماريا فيجانو، السفير الرسولى السابق لدى الولايات المتحدة، إعلانًا، تحدّث فيه عن مجموعة التحذيرات التى وُجهت للفاتيكان بخصوص سلوك الكاردينال السابق، توماس مكاريك. وهدد الخلاف الناجم عن ذلك بإغراق الكنيسة فى أزمة كبرى، وفى فبراير ٢٠١٩، جرى تجريد مكاريك من الرتبة الكهنوتية عقب تحقيق أجرته سلطات الفاتيكان.
وخلال تفشى جائحة كوفيد، ألغى البابا فرنسيس لقاءاته الدورية فى ساحة القديس بطرس حفاظًا على الصحة العامة، وتفاديًا لانتشار الفيروس، فى خطوة تعكس نموذجًا بارزا للقيادة الأخلاقية، شدد على أن الحصول على اللقاح يشكل واجبًا عالميًا.
وفى عام ٢٠٢٢، أصبح أول بابا منذ ما يزيد على قرن يترأس مراسم جنازة سلفه، وذلك عقب وفاة البابا بنديكت السادس عشر عن عمر ناهز ٩٥ عامًا.
فى تلك الفترة المرحلة، بدأت مشكلاته الصحية تتفاقم، مما استدعى خضوعه عدة مرات للعلاج فى المستشفى، وعلى الرغم من ذلك، ظل البابا فرنسيس عازمًا على مواصلة مساعيه لترسيخ السلام العالمى وتعزيز الحوار بين الأديان.
وفى عام ٢٠٢٣، زار البابا فرنسيس جنوب السودان، وناشد القادة من أجل إنهاء الصراع. كما دعا إلى إنهاء "الحرب العبثية والشرسة" فى أوكرانيا.. وبعد عام، بدأ رحلة طموحة شملت أربع دول وقارتين، كان من بينها إندونيسيا وبابوا غينيا الجديدة وسنغافورة.
اعتلى خورخى ماريو بيرجوليو كرسى البابوية عازمًا على إحداث تغيير داخل الكنيسة. عيّن البابا فرنسيس ما يزيد على ١٤٠ كاردينالًا من دول غير أوروبية، وترك لمن يخلفه كنيسة تتمتع برؤية عالمية أوسع بكثير مما كانت عليه عندما تولى مهامه.
ولإعطاء مثال على ذلك، كان البابا فرنسيس يجنح إلى البساطة، ولم يسكن فى القصر الرسولى بالفاتيكان، الذى يضم كنيسة سيستين، بل فضّل الإقامة فى المبنى الحديث الذى بناه البابا يوحنا بولس الثانى كدار للضيافة.
كان البابا فرنسيس يؤمن بأن السعى وراء مظاهر البذخ ضرب من الغرور، وقال ذات مرة: "أنظر إلى الطاووس، يبدو جميلًا من الأمام، لكن إذا نظرت إليه من الخلف، ستدرك الحقيقة".
سعى البابا إلى إحداث تغيير فى المؤسسة ذاتها، من خلال تعزيز مهمة الكنيسة التاريخية عبر تجاوز النزاعات الداخلية، والتركيز على الفقراء، وإعادة الكنيسة إلى الشعب. وعقب اختياره بابا الفاتيكان، قال: "علينا أن نحذر من مرض روحى يصيب الكنيسة عندما تنغلق على ذاتها". وأضاف: "لو كان عليّ أن أختار بين كنيسة جريحة تخرج إلى العالم، وكنيسة مريضة منغلقة على ذاتها، لاخترت الأولى".
العلاقة مع الكنيسة القبطية

يخصص البابا فرنسيس يوم الأربعاء من كل أسبوع، لما يعرف "بالمقابلة العامة"، إذ يطل على ساحة القديس بطرس، للقاء الزوار والمصلين، وإلقاء عظة يتحدث فيها عن قضايا راهنة.
وللمرة الأولى، أتيح للزوار اللقاء بزعيم مسيحى آخر، هو البابا تواضروس الثاني، بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الذى كان يزور روما بمناسبة مرور خمسين عامًا على توقيع إعلان تفاهم تاريخى بين كنيسته والكنيسة الكاثوليكية.
وقبل فرنسيس بحرارة بابا الأقباط فى إشارة إلى الصداقة التى تربطهما قبل أن يفسح له المجال بالتحدث أمام الآلاف من المؤمنين. وقال "الصديق والأخ العزيز تواضروس، أشكرك بصدق على التزامك بالصداقة المتنامية بين الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية". وكان هذا هو اللقاء الثالث بين الزعيمين الدينيين بعد الزيارة الأولى لرئيس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلى روما عام ٢٠١٣ وزيارة للبابا عام ٢٠١٧ إلى مصر.
وخلال الزيارة، أعلن البابا فرنسيس إدراج ٢١ قبطيًا قتلوا فى ليبيا عام ٢٠١٥ على يد "تنظيم الدولة الإسلامية"، ضمن شهداء الكنيسة الكاثوليكية، "كعلامة على الشراكة بين الكنيستين"، وذلك بعد أن قدم البابا تواضروس للبابا فرنسيس أجزاء من البذلات البرتقالية التى كان الضحايا يرتدونها عند مقتلهم فى صندوق خشبى مصمم على الطراز القبطي، كتبت عليها أسماؤهم. وأهدى البابا فرنسيس لضيفه جزءًا من رفات القديسة كاترين المصرية الإسكندرانية التى تعرضت للتعذيب فى القرن الرابع، وقطع رأسها بالسيف لاعتناقها المسيحية.
وصدر على هامش الزيارة كتاب عن الدائرة الفاتيكانية لتعزيز وحدة المسيحيين، بمناسبة الذكرى الخمسين للقاء البابا بولس السادس وبابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية شنودة الثالث. ويتضمن الكتاب وثائق التقارب بين الكنيستين منذ المجمع الفاتيكانى الثانى (١٩٦٢-١٩٦٥)، وقد كتب مقدمة مشتركة له كلّ من البابا فرنسيس والبابا تواضروس الثاني، تطرقا فيها إلى الخطوات التى تحققت خلال نصف قرن من تعزيز العلاقات.
