يقول الأب البروفسور باسم الراعي التاريخ دعوةٌ مفتوحة ونقرأ لحظاته إذا ما انفتحنا عليه، فتتحوّل إلى فرصةٍ للالتزام.
فهكذا إذا أردنا أن نقرأ تزامن الصوم، هذا العام، في وقتٍ واحدٍ في الكنائس المسيحيّة شرقيّة وغربيّة مع صوم رمضان في الإسلام، لا بدّ من أن نرى فيه فرصةً تاريخيّة.
إنّه زمنٌ معطى لإظهار التزامٍ في قلب عالمٍ نعيش فيه، يحتاج إلى لحظة معنى، تأتي إليه وهو في سيره الذي لا يتوقّف.
إنّ عدم التوقّف هو سمة عالمنا، بما يحمله هذا النمط من تبعات. وصف لوك فاري (Luc Ferry) هذه النزعة في كتابه "الابتكار الهدام" (L’innovation derstructrice)، معتبرًا أنّ الابتكار هدّامٌ لأنّه يمثّل "قطيعةً لا تتوقّف مع كلّ أشكال التراث والإرث والتقليد".
كذلك رأى هارتموت روزا (Hartmut Rosa)، في كتابه "لماذا تحتاج الديموقراطيّة إلى الدين؟" أنّ عالمنا يعيش على "ثباتٍ ديناميكيٍّ... بحيث أنّ المجتمع يكون معاصرًا إذا كان في حال عدم ثبات، إلّا الثبات الديناميكيّ، أي بتعلّقه بشكلٍ منهجيٍّ وبنيويٍّ بنمو مستمرٍّ لينتج نفسه ويبلغ الاستقرار المؤسساتيّ".
الدين يُرْجِع لنا المعنى
يسير العالم وراء تطوّره؛ وفي مسيره هذا يترك وراءه كلّ ما وراءه. غير أنّ تبعات ما يتركه تشير إلى أنّه يحمل معه "رَجْعَ" ما كان! يقول روزا إنّ هذا "الرَجْعَ" هو من رسالة الدين الذي يردّد في العالم صدى المعنى، اذ نشعر من جديدٍ بالأشياء والأفكار. يكفي في عيش الرَجْعِ أن يكون الإنسان في الها هُنَا، حاضرًا للشيء، لا يقوى السيطرة عليه أو التحكّم به، كما تريد حضارتنا المعاصرة من القطيعة وعدم الثبات. في الرَّجْعِ اختبار الصلة والعلاقة، اختابر أنّني على اتصال، وهذا الاتصال المتفاعل يصير تحوّلاً، لا إلى الشيء بل معه.
إذًا الدين يُرْجِع لنا المعنى، وهذه هي رسالته الحقيقة، لا أن يحكم العالم، بل أن "يرشد" هذا العالم، بالمعنى الأصيل للكلمة، أي يدلّه.
فهذه الهداية في الدين هي اختبارٌ عميقٌ للوجود، لا مجرّد عقائد جامدةً تستأثر بالوجود. ولعلّ هذا المعنى الذي تخفيه كلمة الشريعة مثلًا، فهي ليست مجرّد فرائض وأحكام، بل هي أصلًا سبيلًا يسير فيه الإنسان صوب المعنى. يعمل الدين على دفق الرَّجْعِ في الإنسان حتى يهتدي إلى الحقيقة في ذاته.
يقوم هذا المعنى في قلب فهم الصوم في المسيحيّة كما في الإسلام. كتب فيلوكسانُس المنبجي الأنطاكيّ، أحد لاهوتيي المسيحيّة الكبار من القرن السادس الميلاديّ في الصوم: "صُمْ، حتّى ترى!" الصوم زمن بحثٍ عن الأساسيّ والجوهريّ، فالنظر سبرٌ يوصل إلى أصل الأشياء وعمق الوجود. الصوم بهذا المعنى مساعدٌ على التحرّر الداخلي، حتى يفوز الإنسان بنظرةٍ جديدةٍ لحياته والعالم والأشياء.
و هكذا يكتشف دعوته إلى الحقيقة حيث لا يختلف المعنى العميق للصوم هذا في المسيحيّة عن معناه الأساسيّ في الإسلام. عبّر البروفسور أحمد كريمي، أستاذ العلوم الإسلاميّة في جامعة مونستر الألمانية عن هذه المعنى للصوم في الإسلام، في كتابٍ مشتركٍ مع الاب أنسلم غرون بعنوان: "في قلب الروحانيّة"، بالقول: "يُفهم الصوم في رمضان على أنّه نقدٌ دقيقٌ لموقفنا المعتاد في الحياة. ليس هو نقدا نظريّا، بل نقد يتذوّقه المسلمون، إذا جاز التعبير، بجسدهم. فالتبذير والجشع كما الأنانيّة تعتبر مفاهيم محوريّة هنا. من يجد موطنا له في الإسلام، لا بدّ من أن ينظر إلى ذاته نظرةً نقديّة. ليس المقصود هنا التقليل من قيمة الحياة، بل النظر إليها بنورٍ صحيح. فالصوم والتخلّي يعملان كعاملي تصحيحٍ وجوديّ، إلى حدّ أنّ المسلمين يَقْرُبُون بهما من ذواتهم في رمضان، ويتعلّمون فيه شيئًا جديدًا، أي يقومون بأخذ مسافةٍ مع أنفسهم [...] من هنا يبدو الصوم كموقفٍ في الحياة، يقود إلى التفكّر بالجوهريّ".
دعوةً لإظهار ما في الإنسان من عطشٍ وجوع
يحمل الصوم إذاً بعداً روحيّاً عميقاً، يفتح على رّجْعِ صدى المعنى. يحتاج عالمنا اليوم إلى علاماتٍ مماثلةٍ عن حرّيّة إنسانيّة على المستوى الداخلي، تتجلّى من ثمّ في الفعل الإنسانيّ، في قلب عالمٍ موسومٍ بروح الاستهلاك حتى إفناء الذات، في السير وراء إفرازات حضارة الاستهلاك والموقت والزائل. كم يحتاج الإنسان إلى هذه الممارسة رياضةً نفسيّةً روحيّةً للذات من أجل عدم الارتهان لمنطق حضارة هذا العالم!
إنّ تزامن الصومين معًا، هذه العام، يحمل دعوةً إلى إظهار ما في الإنسان من عطشٍ وجوعٍ إلى أكثر من الأمور التي تظهر حينًا وتزول حيناً آخر. هناك في الإنسان توقٌ إلى ما لا يزول، لكنّه يحتاج إلى التحرّر من الذي يزول حتى يبلغ إليه.
من يَصُمْ على هذه الشاكلة، يكون صومه جهاداً أكبر روحيّاً لالتزامٍ تاريخيٍّ أكبر. فالمؤمن لا يجافي العالم بصومه، بل يسكب عليه طابعًا مختلفًا. إنّه يكشف عن الموقف الأساس الذي لا يفلت أحدٌ منه. فالإنسان مهما بلغ، يبقى فقيرا إلى المعنى في حياته، ويبقى عطشان للشركة، بحسب قول المعلّم إيكهارت. يجيب الدين على ذلك لا ببرامج كبيرةٍ ومعقّدة، بل باندفاعة قلب، بعدما يكون هذا القلب قد التمس أنْ لا شيء يساوي ما بلغ على المستوى الداخليّ من الغوص في عشق الحقيقة الجوهريّ الذي يقوت حياته بالمعنى.
عند اليونان، إنّ من يرى يعمل. إنّه انكشاف نور المعنى في قلب عالمنا. يحمل الإنسان على العيش بطريقةٍ جديدة، مخالفةٍ لمنطق حضارة هذا العالم. يقول هارموت روزا عن واحدةٍ من نتائج الحضارة القائمة على "الثبات الديناميكيّ" إنّه "عندما تعيشون في الهشاشة وتسمعون: ˀنعم، علينا أن نتخطّى، ونتحسّنˁ وأنّ الفرد هو المسؤول، والآخر يكون لديه اقتناع مغاير ، ويرى شيئا آخر، ويحبّ بشكلٍ آخر ويؤمن بشكلٍ آخر يصير هذا الآخر ببساطةٍ عائقا لا بدّ من إسكاته." من يكتشف المعنى لا بدّ من يتوق إلى الشراكة، لأنّ المعنى الذي يقرّب الإنسان من ذاته، لا يمكن أن يفصله عن الآخر. من الشهادات المؤثّرة في هذا السياق تَشَارك الطعام والشراب وأوقات الإفطار. فتناول الطعام هو مأدبةٌ أخويّة، لا مناسبةً ذاتيّةً كلّ يأكل لذاته. وتكتمل الشركة في الحمد الذي يجعل الإنسان يرفع ذاته من جديد بالشكر. فالحرّيّة الحقيقة ما هي إلّا مشاركةٌ وحمد.
أن نصوم معًا في هذه السنة، مسلمين ومسيحيّين، هذا يعني في ما يعنيه أن نسير معاً، ونجهد معاً، كلٌّ في تقليده مسيرةً روحيّةً عميقةً، مسيرة تحرّرٍ داخليّ، تجعلنا نخرج من حدود ذواتنا الضيقة لننفتح على نور الحقيقة الذي يمدّنا بالمعنى، فنتشارك الوجود معاً بأنوار الحقيقة، ونرفع ذواتنا بالشكر الذي هو أصل الوجود، حيث نختبر بالصوم أنّ كلّ شيءٍ هو في النهاية عطيّة، فنكون بذلك شهود المعنى في التاريخ، معه لا ضدّه.
.