يُعد تفسير القرآن الكريم عملية معقدة تتأثر بالبيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية لكل مفسر، حيث يختلف المنهج والأسلوب باختلاف المدارس الفكرية والمناخات التاريخية التي نشأ فيها كل مفسر.
انعكس هذا التباين بوضوح عند مقارنة تفاسير علماء المشرق والمغرب العربي، إذ تأثر كلٌّ منهم بواقعه المعرفي ومحيطه الاجتماعي، مما أوجد تباينات في الفهم والتفسير لبعض القضايا المركزية في الإسلام.
يعد الإمام الطبري أحد أبرز مفسري المشرق العربي، حيث اتسم تفسيره بالنقل والرواية والاعتماد على أقوال السلف، متأثرًا ببيئة بغداد التي كانت مركزًا للعلوم النقلية والعقلية في عصره. في المقابل، يمثل ابن عطية الأندلسي المدرسة التفسيرية في المغرب العربي، والتي تميزت بمزج التفسير بالمأثور مع الاجتهاد العقلي، مستفيدةً من المناخ العلمي المتأثر بالفكر الفلسفي في الأندلس.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الفروق المنهجية بين تفسير الطبري وابن عطية من خلال ثلاثة موضوعات رئيسية ذات أهمية كبرى في الفكر الإسلامي: الجهاد، الإمامة، والمرأة. من خلال هذه المقارنة، نسعى إلى فهم تأثير العوامل البيئية والثقافية على تفسير النصوص القرآنية واستكشاف كيفية تشكيل السياقات التاريخية للفهم الديني عبر العصور.
الخصائص العامة لتفسير الطبري وابن عطية
تفسير الطبري
يتسم تفسير الطبري بمنهج الرواية، حيث يعتمد على أقوال السلف والنقل عن الصحابة والتابعين. كان لهذا المنهج دورٌ أساسي في تقديم تفسير يقوم على الموروث الديني ويبتعد عن التأويل الشخصي أو الاجتهاد المستقل، مما جعله مرجعًا أساسياً في التفسير بالمأثور.
اعتمد الطبري على جمع الروايات المختلفة ونقلها بأسانيدها، الأمر الذي وفر للباحثين مادة غنية لمعرفة كيفية فهم السلف للقرآن الكريم.
لم يكن الطبري مجرد ناقل للروايات، بل كان يُحكّم في صحة الأسانيد ويُرجّح بين الأقوال، وهذا يدل على منهج نقدي داخل التفسير بالمأثور. كما أن اعتماده على أقوال الصحابة والتابعين يعكس اهتمامه بتفسير القرآن بالقرآن والسنة، متجنبًا الانحرافات التأويلية التي قد تخرج التفسير عن معناه الأصلي.
يستخدم الطبري الترجيح بين الأقوال، ويميل إلى التفسير بالمأثور. لم يكن الطبري يقتصر على جمع الروايات المختلفة، بل كان يُمارس منهج الترجيح بينها وفق معايير علمية دقيقة. فقد كان يرجّح الرواية الأقرب إلى اللغة العربية والسياق القرآني، وأحيانًا يعتمد على إجماع الصحابة والتابعين عند وجود تعارض بين الروايات. هذا الأسلوب جعله من أكثر المفسرين دقة في تقديم فهم متماسك للآيات.
إضافة إلى ذلك، يبتعد الطبري في تفسيره عن استخدام التأويلات الفلسفية والكلامية التي انتشرت في عصره، مكتفيًا بالاعتماد على النقل الموثوق والتحليل اللغوي. وقد أدى ذلك إلى ترسيخ مدرسته التفسيرية التي تقوم على أساس علم الحديث، مما جعله من أبرز المفسرين الذين حافظوا على منهج السلف.
يعكس تفسير الطبري بيئة بغداد التي كانت مركزًا للعلوم النقلية والعقلية، ويظهر تأثره بعلم الحديث والكلام. كانت بغداد في عصر الطبري مركزًا علميًا مهمًا، حيث ازدهرت علوم الحديث والتفسير والفقه والكلام. أثّر هذا المناخ الثقافي على تفسير الطبري، حيث تبنى أسلوبًا علميًا قائمًا على الجمع والتحليل النقدي للمرويات، مع الإلمام بالنقاشات الفكرية الدائرة في عصره.
كما أن تأثره بعلم الحديث يظهر في طريقته في توثيق الأسانيد وتحليلها، إذ كان يهتم بصحة الروايات قبل الاستشهاد بها، مما أكسب تفسيره موثوقية كبيرة بين العلماء. ورغم انفتاح بغداد على التيارات الفلسفية والكلامية، إلا أن الطبري تجنب إدخالها في تفسيره، وفضل الاقتصار على المنهج النقلي، مع إشارات محدودة إلى القضايا الكلامية عند الحاجة لتوضيح مفهوم معين.
تفسير ابن عطية
يمزج ابن عطية بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، متأثرًا بالمنهج المالكي والأشعري. اعتمد ابن عطية على الجمع بين التفسير النقلي والتفسير العقلي، حيث كان يميل إلى الاستفادة من أقوال الصحابة والتابعين، لكنه في الوقت ذاته لم يكن يتردد في إعمال العقل والترجيح بين الأقوال. كان ذلك انعكاسًا للمنهج الفقهي المالكي، الذي يوازن بين الرواية والاجتهاد، بالإضافة إلى العقيدة الأشعرية التي تبنت منهجًا عقلانيًا معتدلًا في فهم النصوص الدينية.
و كان تأثره بالفقه المالكي ظاهرًا في طريقته في التعامل مع الأحكام الشرعية، حيث كان يفسر الآيات بناءً على أصول المذهب المالكي، مع الحرص على تقديم فهم فقهي متماسك. كما يظهر أثر العقيدة الأشعرية في اهتمامه بتفسير الآيات المتعلقة بالعقيدة، حيث كان يميل إلى التأويل الذي ينسجم مع أسس المذهب الأشعري، بعيدًا عن التفسير الحرفي للنصوص.
يتميز ابن عطية بالدقة اللغوية والاهتمام بالسياق البلاغي. كان ابن عطية شديد العناية باللغة العربية وقواعدها، حيث أولى اهتمامًا كبيرًا بالإعجاز البياني في القرآن، واستعرض المعاني المحتملة للألفاظ والعبارات بدقة. اعتمد في تفسيره على التحليل النحوي والبلاغي، مما ساعده على تقديم فهم أكثر عمقًا للنصوص القرآنية، بعيدًا عن التفسيرات السطحية.
كما كان يهتم بالسياق العام للآية، محاولًا فهم النص ضمن سياقه التاريخي والموضوعي، وهو ما جعله يقترب في بعض المواضع من التفسير التحليلي الحديث. لم يكن يعتمد فقط على التفسير اللفظي، بل كان يبحث في الترابط بين الآيات واستنتاج المعاني وفق سياقاتها المختلفة، مما أضفى على تفسيره طابعًا تحليليًا متقدمًا.
يتأثر ابن عطية بالبيئة الأندلسية التي شهدت تفاعلًا بين العلوم الإسلامية والفكر الفلسفي العقلاني. عاش ابن عطية في بيئة فكرية متطورة حيث كانت الأندلس مركزًا علميًا هامًا يجمع بين العلوم الإسلامية والعلوم العقلية مثل الفلسفة والمنطق. هذا التأثير انعكس في تفسيره، حيث كان أكثر انفتاحًا على التفسيرات العقلانية، مع محاولته التوفيق بين النصوص الشرعية والفكر الفلسفي السائد في عصره.
كما أن وجوده في بيئة شهدت احتكاكًا بين المسلمين والمسيحيين أثر في أسلوبه التفسيري، حيث كان يحرص على تقديم صورة متماسكة للفكر الإسلامي قادرة على مواجهة التحديات الفكرية والدينية. ولذلك، كان يتعامل مع القضايا الجدلية في التفسير بحذر، محاولًا تقديم فهم متزن يجمع بين التراث الإسلامي والوعي الفلسفي العقلاني.
تفسير آيات الجهاد
يفسر الطبري آيات الجهاد من منطلق الروايات النبوية وأقوال الصحابة، حيث يركز على الجانب التشريعي والفقهي، معتبرًا أن الجهاد وسيلة لحماية الإسلام ونشره. من خلال تفسيره لقول الله تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" (الأنفال: 39)، يرى الطبري أن هذه الآية تعبر عن وجوب استمرار الجهاد حتى يتحقق التوحيد التام، وهو ما يتماشى مع فهم الصحابة والتابعين لمفهوم الجهاد في ظل الفتوحات الإسلامية.
يتأثر تفسير الطبري للآيات القتالية بالسياق السياسي والثقافي لعصره، حيث كانت بغداد عاصمة الخلافة العباسية مركزًا للفقه الإسلامي والتنظير السياسي. لهذا، كان الطبري ميالًا إلى تقديم تفسير يتماشى مع السياسات العسكرية للخلافة، مما يظهر في تأكيده على مشروعية القتال ضد المشركين حتى يخضعوا لحكم الإسلام. كما يذكر الطبري في تفسيره لآية "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" (التوبة: 5) أن هذه الآية جاءت كأمر قاطع للقتال بعد انتهاء المهلة التي أُعطيت للمشركين، مستندًا إلى أقوال الصحابة في تحديد نطاق تطبيقها.
كما أن الطبري يعكس في تفسيره النزعة الفقهية المشرقية التي تميل إلى التفصيل في الأحكام، حيث يوضح شروط الجهاد، مثل إذن الإمام، تقسيم الغنائم، وحكم الأسرى، مستندًا إلى الأحاديث النبوية. هذا المنهج يعكس بيئة بغداد العلمية التي كانت تعج بالمذاهب الفقهية المتنافسة، مما جعل الطبري حريصًا على تقديم تفسير متوازن بين مختلف الآراء الفقهية.
علاوة على ذلك، يظهر في تفسير الطبري تأثره بالمفهوم التقليدي للجهاد القائم على المواجهة العسكرية، وهو ما يختلف عن توجهات بعض المفسرين في العصور اللاحقة. وهذا يفسر استخدامه لروايات الصحابة التي تتحدث عن أهمية الجهاد كوسيلة لإعلاء كلمة الله، مستشهدًا بأحاديث مثل "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله"، مما يعكس رؤية واسعة لمفهوم الجهاد تتجاوز كونه مجرد دفاع عن النفس.
يميل ابن عطية إلى تحليل سياق الآيات وربطها بواقع المسلمين في الأندلس، حيث كان الجهاد في زمنه دفاعيًا في الغالب بسبب التهديدات المستمرة من الممالك المسيحية في شمال إسبانيا. في تفسيره لآية "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" (الأنفال: 60)، يركز ابن عطية على أهمية الاستعداد العسكري كوسيلة لردع الأعداء بدلًا من التركيز على الهجوم والفتح، وهو ما يعكس طبيعة الجهاد في الأندلس كصراع للبقاء.
تتضح البيئة الثقافية والاجتماعية للأندلس في تفسير ابن عطية من خلال اهتمامه بالجهاد كأداة دفاعية أكثر من كونه وسيلة لنشر الإسلام. في ظل تراجع الحكم الإسلامي في الأندلس وتزايد الضغوط من الممالك المسيحية، كان ابن عطية أكثر حرصًا على تقديم تفسير ينسجم مع واقع المسلمين هناك. في تفسيره لآية "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم" (الممتحنة: 8)، يشدد على أن التعامل السلمي مع غير المسلمين جائز إذا لم يكن هناك اعتداء مباشر، مما يعكس رؤية أكثر براغماتية للجهاد مقارنةً بالطبري.
كما يظهر تأثر ابن عطية بالمنهج المالكي في تفسيره لأحكام الجهاد، حيث يولي اهتمامًا بمسألة النية والعدالة في القتال. فعند تفسيره لقوله تعالى "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة: 190)، يوضح أن هذه الآية تؤكد على أن القتال يجب أن يكون ردًا على العدوان فقط، وهو ما يتماشى مع الفقه المالكي الذي يضع ضوابط صارمة لاستخدام القوة العسكرية.
إضافة إلى ذلك، يتضح تأثير الفكر الفلسفي السائد في الأندلس في طريقة ابن عطية في تحليل الجهاد من منظور سياسي وأخلاقي. فهو لا يكتفي بذكر الأحكام الفقهية، بل يناقش أبعاد الحرب والسلم في الإسلام من خلال ربطها بمفاهيم العدل والضرورة السياسية. وهذا يعكس انفتاح الفكر الأندلسي على التيارات العقلانية التي كانت منتشرة آنذاك، مما جعله يتبنى تفسيرًا أكثر تأملًا في قضايا الحرب والسلام.
تفسير آيات المرأة
يفسر الطبري آيات المرأة بناءً على المنهج النقلي الذي يعتمد على الروايات الواردة عن الصحابة والتابعين. في تفسيره لقوله تعالى "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض" (النساء: 34)، يذهب إلى أن القوامة تكليف شرعي يجعل الرجل مسؤولًا عن المرأة بسبب تفوقه في القدرة الجسدية والمالية. يعتمد الطبري في ذلك على أقوال السلف التي تعزز فكرة القوامة بمعناها التقليدي، مستشهدًا بالأحاديث النبوية التي توضح مسؤولية الرجل في الإنفاق والرعاية.
يتأثر تفسير الطبري بالسياق الثقافي للمجتمع العباسي الذي كانت تسوده رؤية تقليدية لدور المرأة، حيث كانت القوامة مفهومًا يعكس النظام الاجتماعي القائم. في هذا السياق، يرى الطبري أن القوامة ليست مجرد تفويض للسلطة، بل هي مسؤولية تتطلب من الرجل العدل والإحسان، مما يجعله يفسر القوامة على أنها تكليف وليست تفضيلًا مطلقًا.
كما أن الطبري يفسر آيات الميراث مثل قوله تعالى "للذكر مثل حظ الأنثيين" (النساء: 11) وفق القواعد الفقهية المتبعة، مؤكدًا أن هذا التقسيم قائم على العدل وليس التمييز. يستند في ذلك إلى سياق الأحكام الشرعية التي تلزم الرجل بالنفقة، وبالتالي يرى أن التفاوت في الميراث مبرر بتفاوت المسؤوليات المالية بين الجنسين.
يتبنى ابن عطية تفسيرًا أكثر عقلانيًا لآيات المرأة، حيث يميل إلى إبراز السياق التشريعي والاجتماعي للنصوص. في تفسيره لقوله تعالى "الرجال قوامون على النساء"، يركز على مفهوم القوامة باعتبارها تنظيمًا أسريًا يهدف إلى تحقيق الاستقرار وليس تمييزًا بين الجنسين. يوضح أن القوامة تتعلق بأدوار تكاملية بين الرجل والمرأة، مستندًا إلى تفسير لغوي وبلاغي للمصطلح.
كما يظهر تأثير الفقه المالكي في تفسير ابن عطية لقضايا المرأة، حيث يؤكد على أهمية العدل والموازنة في الأحكام الشرعية. عند تفسيره لآيات الميراث، يشير إلى أن التشريع الإسلامي جاء لتنظيم الحقوق بما يحقق العدالة الاجتماعية، مع التأكيد على أن هذا التقسيم لا يقلل من مكانة المرأة، بل يعكس طبيعة التشريعات التكافلية في الإسلام.
إضافة إلى ذلك، يتضح تأثر ابن عطية بالفكر الفلسفي الأندلسي في تحليله لدور المرأة، حيث يربط الأحكام الشرعية بالسياق الاجتماعي المتغير. في تفسيره لآية الحجاب "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" (النور: 31)، يوضح أن الهدف من التشريع هو تحقيق الحشمة وليس فرض قيود على حركة المرأة، مما يعكس انفتاح الفكر الأندلسي على تأويلات أكثر مرونة لقضايا المرأة.
تفسير آيات الإمامة
يرى الطبري أن الإمامة منصب ديني وسياسي يرتبط بتحقيق الشريعة وإقامة العدل، وهو ما يظهر في تفسيره لآية "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا" (البقرة: 124). يفسر الطبري هذه الآية على أن الإمامة اصطفاء من الله يقتضي الطاعة والاتباع، مستندًا إلى أقوال الصحابة والتابعين.
يتأثر تفسير الطبري للسياق العباسي الذي كان يعطي أهمية كبيرة لمفهوم الخلافة كنظام سياسي ديني. في تفسيره لآية "يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق" (ص: 26)، يبرز الطبري مفهوم الحاكمية المستمدة من الله، مما يعكس النظرة السائدة آنذاك التي تركز على الطاعة للخليفة باعتباره ممثلًا للشرع.
كما يؤكد الطبري على شروط الإمامة، مثل العلم والعدل والقدرة على الحكم، مما يتفق مع الفقه السياسي السائد في بغداد. عند تفسيره لقوله تعالى "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (النساء: 59)، يوضح أن الطاعة لأولي الأمر واجبة ما داموا يحكمون بالشرع، مستشهدًا بأحاديث تدعو لطاعة الحكام.
إضافة إلى ذلك، يظهر في تفسير الطبري تأثره بالخلاف بين الفرق الإسلامية حول الإمامة، حيث يرفض الآراء التي ترى أن الإمامة حكر على فئة معينة، معتبرًا أن المعيار الأساسي هو القدرة على إقامة الدين.
يرى ابن عطية أن مفهوم الإمامة لا يقتصر على الجانب السياسي، بل يمتد ليشمل القيادة الدينية، وهو ما يظهر في تفسيره لآية "إني جاعلك للناس إمامًا"، حيث يشير إلى أن الإمامة مسؤولية عظيمة تتطلب التقوى والعلم.
يتأثر تفسير ابن عطية بالبيئة الأندلسية التي شهدت استقرارًا سياسيًا مختلفًا عن المشرق، مما يجعله أكثر ميلًا إلى التأكيد على الجوانب الأخلاقية والشرعية في الإمامة بدلًا من التركيز على السلطة السياسية. في تفسيره لآية "وأولي الأمر منكم"، يؤكد أن الطاعة للحكام مشروطة بإقامة العدل.
كما يتضح في تفسيره تأثره بالمنهج المالكي، حيث يركز على شروط الإمامة وفق الفقه المالكي، مثل العدل والكفاءة والعلم. في تفسيره لآية "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون" (السجدة: 24)، يشدد على أن الإمامة يجب أن تقوم على الإرشاد والهداية.
إضافة إلى ذلك، يبرز في تفسير ابن عطية اتجاهه إلى تجنب الخلافات السياسية الكبرى التي أثرت على التفسير المشرقي، حيث يقدم فهمًا أكثر عمليًا وواقعيًا لدور الإمام في المجتمع الإسلامي.
الخاتمة
يتبين من خلال هذه الدراسة أن البيئة الثقافية والاجتماعية لكل مفسر لها دور بارز في تشكيل فهمه للنصوص القرآنية. فالطبري، الذي نشأ في بغداد، اعتمد على التفسير بالمأثور وركز على الأحكام الفقهية وفقًا للواقع السياسي والديني في عصره، بينما ابن عطية، المتأثر بالمناخ الأندلسي، دمج بين النقل والعقل ليقدم تفسيرًا أكثر تفاعلًا مع الفكر الفلسفي والاجتهاد المالكي.
كما يظهر الاختلاف جليًا في تفسير آيات الجهاد، حيث مال الطبري إلى رؤية الجهاد كأداة لنشر الإسلام وإقامة الشريعة، بينما ركز ابن عطية على البعد الدفاعي للجهاد، متأثرًا بالظروف التي عاشها المسلمون في الأندلس. أما في قضايا المرأة، فإن تفسير الطبري عكس المفاهيم الفقهية التقليدية التي تؤكد القوامة المطلقة للرجل، في حين أن ابن عطية قدم رؤية أكثر توافقًا مع الاعتبارات الاجتماعية والتشريعية.
أما في قضية الإمامة، فإن تفسير الطبري تأثر بالسياق العباسي الذي كان يعلي من شأن الخلافة الدينية والسياسية، بينما ركز ابن عطية على الشروط الأخلاقية والعلمية للإمام، مما يعكس واقع الأندلس الذي لم يكن يخضع لنظام الخلافة المركزية بنفس الدرجة.
بناءً على هذه الاختلافات، يُوصى بأن يُنظر إلى التفاسير ضمن سياقاتها الزمنية والثقافية لفهم أبعادها بشكل أعمق. كما يُقترح أن تُعزز الدراسات المقارنة بين التفسير المشرقي والمغربي لفهم تطور الفكر الإسلامي عبر العصور والاستفادة من هذا التنوع في تعزيز منهجيات التفسير الحديثة.