عندما تتراكم الأوجاع تتوه أوجاع كبيرة في الزحام، وكثرة الآلام تُخفي آلاما شديدة لايلتفت إليها كثيرون، وعندما تفوح رائحة الموت تخفي معها معاناة الأحياء أو العائدين من الموت والباحثين عن فرص للنجاة والحياة بشكل طبيعي لايحمل كثيرًا من أثر الحرب.
منذ طوفان الأقصى في أكتوبر 2023 تفاقمت المأساة والمعاناة في قطاع غزة، دمار واسع قضى على كل مظاهر الحياة، ضحايا بالآلاف مابين قتيل وجريح، ونازحون لايسعفهم الوقت للفرار من شبح القصف الأسود، ووسط كل ذلك غابت معاناة عاشها كثيرون ولازالوا يعانون.
من دفتر المأساة التقطت “البوابة نيوز” ورقة تحمل في طياتها الكثير من الألم الذي يعيشه ضحايا الحروق في قطاع غزة، والوجع الذي عاشوه بدءًا من الإصابة واحتراق جلودهم جراء القصف، وصولًا إلى عمليات "كشط الجلد" و"ترقيع" الأماكن المصابة، وذلك كله في غياب المسكنات الكافية، ليحيا هؤلاء تجربة طويلة "بين ألمين"، أما من لم تتوفر له فرص العلاج أو تأخر إنقاذه فكان في عداد الأموات.
أسرة "عبد الجواد".. عودة للحياة بأجساد مشوهة
تحكي يارا عبد الجواد 26 سنة "صيدلانية"، تفاصيل المأساة التي مرت بها أسرتها بعد قصف منزلهم في شارع العشرين بمخيم النصيرات للاجئين الفلسطينيين بقطاع غزة، ولحقت بها وبعائلتها إصابات خطيرة وحروق استدعت إجراء عمليات جراحية بدون مسكنات، أدت إلى استشهاد شقيقتها.
عن يوم المأساة في 31 أكتوبر 2023 الساعة الواحدة ظهرا، تقول يارا: " قبل دقائق قليلة من وقوع الكارثة داهمتنا الأسئلة حول أحوال سكان غزة تحت القصف، كيف يعيش المصابون وأهالي الشهداء، ومتى ينتهي العدوان، إلى آخره من الأسئلة، قبل أن يقطع حديثنا صواريخ العدو الإسرائيلي".
كان أبي غائبا عن منزلنا، وعاد يوم المأساة وتناولنا الغداء وبعد قليل هم أبي إلى أحد الغرف ليأخذ قسطا من الراحة، وما هي إلا ثواني معدودة حتى بات ما كنا نسأل عنهم أصبح مصيرنا يشبههم حيث قصف منزلنا بأربعة صواريخ، وانتقلت حياتنا من المنزل إلى المستشفى بعد الحروق والجروح التي طالتنا جميعا ولم تترك أحدا سالما.
استشهد أبي على الفور، ولم تصمد شقيقتي "سهاد" إلا أسبوعين لتلحق به في 15 نوفمبر 2023 وبدأنا رحلتنا في أروقة المستشفيات حتى نهاية شهر مارس 2024 بينما لم يتعافى شقيقي "عاهد" إلا بعد عام كامل داخل المستشفى لإجراء العمليات الجراحية المختلفة.
بعدما قصف منزلنا تحول الوضع تماما وأصبحت الغرفة كومة من التراب، اختلطت أصواتنا بالدخان الكثيف والروائح الكريهة التي احتلت المكان إلى حد الاختناق، وبقينا تحت الأنقاض لمدة قاربت العشر دقائق، لتشتعل النيران من حولنا وطالتنا جميعا.
وأكملت يارا؛ نقلنا إلى مستشفى الأقصى لكن المفاجأة أنه لا يوجد قسم متخصص في معالجة الحروق، بعدما شخصت حالتي عاهد وسهاد بالخطيرة، ليضطروا للتحويل إلى المستشفى الأوروبي في مدينة رفح بجنوب قطاع غزة.
وأوضحت أنها مكثت ليلة بمستشفى الأقصى أجرت خلالها عملية تنظيف للجروح والحروق ولكن الأطباء أخبروها بأن حالتها صعبة وخطيرة، ولابد من تحويلها إلى المستشفى الأوروبي في رفح لتلحق بـ"عاهد" و"سهاد".
واجتمع شمل الأشقاء الثلاثة في المستشفى الأوروبي حيث قسم خاص لعلاج جراحهم، تحت إشراف أطباء من جنسيات أوروبية لتكشف عن مفاجأة ثانية، وهي عدم وجود مسكنات في ظل الوضع المزري للمستشفى نظرا للعدد الكبير من الجرحى والمرضى وهو أمر يفوق طاقة المستشفى بالكامل مع تواضع الإمكانيات الطبية وتوقف الإمدادات على الرغم أن العدوان الإسرائيلي لم يكن مر عليه شهرا واحدا.
وقالت إن العمليات التي كانت تجرى لها كانت تحتاج إلى تخدير كامل "بنج" ولكن نظرا للصعوبات السالف ذكرها كانت العملية تجرى بتخدير نصفي.
عاهد.. حروق بنسبة 45%.. و3 عمليات ترقيع فاشلة
المأساة الكبرى كانت لـ"عاهد عبد الجواد" 20 عامًا، حيث تقول "يارا" أخي عاهد احترق جانبه الأيمن بالكامل من رأسه إلى أخمص قدميه، وتشوه وجهه وأنفه، ووصلت حروق يده إلى العظام وكانت أكثر الأجزاء في جسده تأثرا بالحرق، حيث توقفت الشرايين والأوردة عن ضخ الدماء إلى أجزاء ذراعه، نظرا للإصابة البالغة وكانت حروقه من الدرجة الثالثة، ومنع في الأسبوع الأول من إصابته من الأكل والشرب، نظرا لخطورة حالته.
تكمل يارا: كانت يد عاهد على شفا البتر إلا أن الطبيب تمكن من معالجة هذا الوضع المآساوي ليعود الأمر إلى طبيعته بعض الشئ وينقذ ذراعه وكأنه أحياها مرة أخرى، وما زاد الطين بلة هو عدم انتظام المتابعة الطبية لحالته المتدهورة في الأساس، إلى جانب أن كثرة عدد المرضى في المستشقى نتج عنه عجز الأطباء عن متابعة كل المرضى لذا كانوا يستعينون بالممرضين والممرضات ليتابعوا حالته، والأمر الأكثر خطورة هو نقل العدوى من مريض لآخر بسبب استخدام نفس الأدوات الطبية في أكثر من حالة.
ونتيجة لكل هذه العوامل ظهر الدود على جروح عاهد، وتسبب في تأخير شفاءه والتئام الجروح، ونظرا للخطورة الكبيرة لحالته الصحية كانت تتم متابعة حالته داخل غرفة العمليات وليس في الغرف التي تضم مرضى آخرين.
تم تحويل عاهد إلى مصر ومكث بها 10 أيام فقط قبل أن يسافر إلى تركيا لاستكمال رحلة علاجه، وفور وصوله أجريت له عمليات ترقيع للجلد، وتدهورت حالته ليدخل غرفة العناية المركزة وبعد أربعة أيام كانت المفاجأة غير السعيدة بفشل عملية ترقيع الجلد في كافة المناطق.
أجريت تحاليل وفحوصات شاملة ليكتشفوا أنه أصيب ببكتيريا وصلت إلى الدم إسمها "سيبسيس" التي تسببت في عدم التئام الجروح أو التصاق الجلد على المكان المحروق، ما أدى إلى فشل العملية، خاصة وأن أهم أسباب نجاح عمليات الترقيع هو ضرورة أن تجرى بعد الإصابة مباشرة.
رغم سوء حالته الصحية نتيجة الحروق إلا أن البكتيريا خرجت من جسده، ورغم خروج هذه البكتريا إلا أن عمليات الترقيع التي أجريت فيما بعد لم تنجح بالشكل الكامل، ولذا انتهت رحلته مع العمليات الجراحية وخرج من المستشفى، وبدأت متابعه حالته في المنزل.
وتظل حالته صعبة إلى اليوم، حيث لا يستطيع تحريك يده أو أصابعه بالشكل الطبيعي ويتردد بشكل يومي على أحد مراكز العلاج الطبيعي أملا في استعادة كامل عافيته.
سهاد.. حروق بنسبة 55% أصابتها ببكتريا قاتلة
تواصل "يارا" تفاصيل مأساة أسرتها: كانت إصابة شقيقتي "سهاد" خطيرة، وصلت نسبة الحروق إلى 55%، لذلك كانت حالتها هي الأولى بالرعاية ؛ لذا وضعت في غرفة العناية المركزة بالمستسفى الأوروبي، على أن تبقى 24 ساعة تحت الملاحظة.
وأضافت أن الأطباء أخبروها في البداية أن حالتها مستقرة إلى حد ما إلا أنه مع مرور الوقت بدأ الوضع يزداد سوءا، بسبب المواد التي أصابتها وتؤكد "يارا" أن منزلهم قصف بـ"الفسفور" الذي لا يظهر خطورته في بداية الإصابة وإنما مع مرور الوقت تظهر آثاره الخطيرة على جسد الإنسان المصاب.
وتفاقمت الحالة الصحية لسهاد وأضحت الحالة الأخطر بين العائلة، بعد إصابتها ببكتيريا "سيبسيس" التي تصيب الدم وفقدت كل السوائل الموجودة في جسدها وتعطلت وظائف أعضائها ما أدى في النهاية إلى استشهادها بعد أسبوعين فقط من دخولها غرفة العناية المركزة.
مأساة يارا وطفلتيها مع الحروق.. "ترقيع" في غياب المسكنات
تحكي يارا عن رحلتها وطفلتيها منذ الإصابة حتى العلاج، فتقول: كانت إصابتي من الدرجة الثالثة، بنسبة تصل إلى 20% من مساحة الجسم، وتركزت الإصابة في قدمي ويدي"، مضيفة أن نجلتها "تيا" عمرها عامين وقت تعرضنا للقصف، أصيبت أيضا بحروق من الدرجة الثالثة بقدمها، وتسببت في بتر الإصبع الصغير لقدمها، إلى جانب لارا نجلتها الأخرى التي كانت يبلغ عمرها آنذاك خمس سنوات، أصيبت بحروق من الدرجة الثالثة في جبينها".
وتستجمع يارا قواها في محاولة لرواية ذكريات مؤلمة ومأساوية بعد قصفها بالفسفور، وأوضحت أن كلهن أجرين عمليات ترقيع للجلد والتي تجرى عن طريق أخذ جلد من منطقة غير مصابة في الجسد، وتنقله إلى المنطقة المحروقة.
وواصلت والدموع تغالبها “الأطباء رأوا أن إصابتي لارا وتيا، لا تستدعي وجودهما في المستشفى، بينما كان الوضع مختلفا تماما مع يارا حيث أخبرها الأطباء بأنها تحتاج إلى إجراء عملية ترقيع للجلد ولكن يلزم لها جهاز غير متوفر في قطاع غزة، وموجود في مصر، لكن يسبقها إجراء عملية إزالة كل الجلد الميت، لابد أن تجرى في أسرع وقت، ووسط كل هذه الصعوبات فإن قدمي مهدد بالبتر إذا تأخر ”كشط الجلد"، لذا اضطررت للدخول إلى العملية على مسئوليتي الشخصية.
في الثانية عشر مساء دلفت إلى غرفة العمليات حتى الرابعة فجرا، وكان الألم شديد جدا للدرجة التي لم يجدى معه تلقي أي مسكنات مثل المورفين أو الكتامين، ولم أستطع النوم بسبب الآلام الكبيرة التي كنت أعاني منها.
بعد انتهاء العملية، مر طبيب إسباني واستفسر عن آلامي فأخبرته بأني أجرت عملية للتو لإزالة الجلد الميت، ما أثار غضبه متسائلا كيف تجري عملية "كشط الجلد" الآن قبل أن يأتي الجهاز الخاص بها من مصر، ولابد أن تجرى العملية الأخرى "الجرافت" بعدها مباشرة، لتبدأ العملية الثانية بعد أربعة ساعات فقط من انتهاء الأولى وفي تمام الثامنة صباحا، حتى غروب شمس نفس اليوم.
تيا.. عمليات بدون مسكنات
وأما عن البنت الثانية "تيا" فحينما رآها الأطباء في مستشفى شهداء الأقصى، أكدوا أن حالتها مستقرة والحروق بسيطة ولا تستدعى البقاء، رغم أن حالتها كانت صعبة جدا، إلا أنهم كانوا يحاولون إخراج أكبر قدر ممكن من المصابين حتى يتثنى لهم علاج الحالات الأكثر خطورة والتي لا يمكنها الانتظار، إلى جانب أسباب أخرى بالطبع هو عدم وجود إمدادات طبية قادرة على تلبية احتياجات المرضى والمصابين.
خلال الأيام التالية، كانت تتردد "تيا" على المستشفى للحصول على متابعة طبية للجروح والحروق، في ظل عدم وجود تعقيم كامل يحفظها ويحميها من أي مضاعفات يمكن أن تلحق بها إلى جانب إصابتها، بدأت تظهر التهابات حادة على قدمها المحروق ليتحول لونها إلى الزرقة، وهو الأمر الذي فتح الاحتمالات أمام إمكانية اللجوء إلى بتر قدمها.
ونتيجة للمضاعفات التي لحقت بـ"تيا" وتدهور حالتها طالب الأطباء في مستشفى شهداء الأقصى بضرورة الذهاب بها إلى المستشفى الأوروبي، وكان ذلك بعد شهر من الإصابة أي في نهاية نوفمبر 2023، وفي هذا الوقت كنت أتواجد في نفس المستشفى، وحولت “تيا” على الفور إلى غرفة العمليات وبعد خروجها وجد الطبيب أنها تحتاج إلى بتر الإصبع الصغير في قدمها المصاب، بعد وصول الحرق إلى العظام ولم يتبقى أي أمل في شفائه، بينما باقي المناطق المصابة في قدمها أجريت لها عمليات ترقيع للجلد.
أجرت "تيا" نحو 5 عمليات تكللت جميعا بالنجاح، ولكن المأساة هي بعد انتهاء العملية الجراحية حيث لا يوجد أي مسكن للطفة البالغة من العمر 3 سنوات.
الخروج من غزة
لم تستكمل "تيا" العمليات لأن إسمها كان في كشوف المغادرين لقطاع غزة إلى مصر من أجل السفر إلى تركيا لاستكمال علاجها.
وأدرج أيضا عاهد ولم يكن إسمي أو “لارا” في كشوف الخارجين من معبر رفح، لكننا صاحبنا عاهد بسيارة الإسعاف وأخبرني بعض الفلسطينيين بأن السلطات المصرية لن تقبل خروجي من غزة طالما إسمي غير مدرج في الكشوف، إلا أن السلطات المصرية سمحت لي بالخروج أنا وتيا، وأدرجنا معا كمصابين وخرجنا من غزة إلى القاهرة ومكثنا في مستشفى السلام التخصصي.
خلال تواجدي في مستشفى السلام التخصصي أجريت عملية بتر لجزء من إصبعي، وعملية ترقيع للجلد في منتصف شهر مارس الماضي.
وعند وصول “تيا” إلى مصر حاول الأطباء إجراء العملية المتبقية لها إلا أن العائلة رفضت خوفا عليها من أن تنتقل إلى تركيا وهي في حالة لا تسمح لها بذلك بعد إجراء العملية، وبالفعل كان هذا الاختيار الأصوب، حيث أجرت العملية وتوقفت عن الحركة حتى بدأت بالعلاج الطبيعي.
رولا الدرة.. الحروق أتلفت الأعصاب.. وجرعة مسكن واحدة في اليوم
مأساة أخرى ترويها رولا الدرة "صحفية" حيث تقول: إنها كانت تسكن في مدينة غزة، وبعد اندلاع الحرب نزحت هي وعائلتها إلى مخيم المغازي للاجئين الفلسطينيين، ومنه إلى دير البلح وسط القطاع حيث شهدت بداية المأساة التي تحيا فيها إلى اليوم.
وصلنا منزل تحت الإنشاء في دير البلح، يفتقر لأدنى احتياجات المعيشة فلا يوجد به شباك أو باب أو حمام فحاولنا إغلاقه بالنايلون “أحد أنواع البلاستيك” مع أخوتي وأمي، كانت المعيشة غاية في الصعوبة حيث كنا نطبخ على الحطب ونقطع مسافات بعيدة للحصول على مياه وبأسعار مرتفعة تلبي احتياجاتنا في التنظيف والشرب والطبخ، وأما عن الخبز فكان الحصول عليه أمر بالغ الصعوبة وكثيرا ما نفشل في إيجاده من الأساس.
كانت أيامنا مزيج بين التعب والإرهاق والرعب الذي نعيشه كل ثانية جراء أصوات الانفجارات والقصف الإسرائيلي.
وعن يوم المأساة، تقول “الدرة” إنه في تمام الثانية عشر ليلا يوم السابع من فبراير 2024 كنا نيام وفجأة وجدت نفسي أطير في الهواء ببطء شديد ولم أسقط على الأرض بسرعة، وكانت الحرارة مرتفعة من حوالي رغم أننا في فصل الشتاء.
سقطت من الدور الثاني إلى الأرض وكانت تحت رأسي فرشة اسفنجية لم أعرف أنني تضررت كثيرا حيث شعرت بتعب قليل، فالبيت كان في أرض خالية ولم يكن أحد معي، حتى جاء شاب نحوي واقترب مني وفجأة صرخ من هول ما رأى.
لم أستطع النظر إلى جسدي وما حل به، ولكن النار حولي نشبت في الفرشة الاسنفجية التي أجلس عليها، فدعوت الله ألا تطالني النيران فابتعدت عنها بالجلوس على مصطبة كانت بالجوار وبعد ذلك غبت عن الوعي.
بقيت وسط آلامي ولكن ما زاد من المأساة هي استشهاد أمي وزوجي الصحفي نافذ عبد الجواد، وابني الوحيد محمد، وبقيت وحيدة أواجه آلامي وعذاب الفراق، بينما أخي الثاني أصيب في رأسه إلى جانب حروق شديدة في وجهه وجسمه، وما زال في العناية المركزة.
كانت مآساتي مضاعفة حيث استشهد أخي وابنه، قبل ثلاثة أيام من إصابتي، ليلحق بزوجته وأولاده الصغار الذين استشهدوا قبل عدة أشهر.
نقلت إلى المستشفى شهداء الاقصى وبدأت أستفيق من غيبوبتي ووجدتهم يمزقون ملابسي وأنا ممدة على الأرض، وغبت عن الوعي مجددا ولم أستيقظ إلا وأنا في غرفة مع إخوتي المصابين أيضا.
علمت بعدها أنه تم عمل العديد من العمليات لي في نفس الوقت، حيث كنت أعاني من كسور في كل جسدي وبطني مفتوحة واقتطعوا جزء من الأمعاء الدقيقة إلى جانب عمليات كثيرة في المثانة وتمزق في الفخذ وتضرر في الأعصاب وحروق في وجهي ويدي وقدماي.
مازلت أعاني من تأثير هذه الإصابات إلى الآن رغم مرور كل هذه الشهور، وحولني الأطباء إلى العناية المركزة، وحينها أخبروا عائلتي أن إصاباتي خطيرة ولن أنجو منها ولكن رحمة الله أوسع ونجوت.
وعلى مدار شهر كامل من السابع من فبراير 2024 حتى السابع من مارس كنت أدخل يوميا إلى غرفة العمليات لمداواة الحروق في جسدي، وكانت غرفة بسيطة، ولكثرة عدد المصابين كنا في قسم الولادة، والمرضى معظمهم في الممرات، في ظل نقص شديد في المسكنات، حتى أن المتوفر منها كان مفعوله ضعيفا، كنت أتناول جرعة مسكنة واحدة في اليوم، لا تكفي لمواجهة آلامي.
كان وجهي وقدماي ورجلي ملفوفة بضمادات حتى أنني ذات يوم حينما كنت في غرفة العمليات استيفظت ووجدت الأطباء يمسكون بمشارط لكشط جلدي والدماء تخرج بغزارة من جسدي، فصرخت من هول ما رأيت وأعطوني جرعة ثانية من المسكنات وبقيت على هذا الحال ثلاثين يوما في صباح التاسعة ينادون علي إسمي لأسمع الجملة المعتادة "يالا عمليات".
غادرت إلى مصر عبر الخروج من معبر رفح في 27 مارس 2024، وبعدها تم تحويلي لمستشفى شبراهور في محافظة الدقهلية ثم حولت إلى مستشفى المنصورة الدولي.
ظللت أتواصل مع المصابين في مستشفى شهداء الأقصى، وعلمت أن العمليات أصبحت تجرى بدون مسكنات جراء العجز الكبير في المواد الطبية.
لازلت أعاني من آثار الحروق، وهي ظاهرة على اليدين والقدمين، ولم يتم التعافي بشكل كامل، أصبحت غير قادرة على المشي، وأتحرك بمساعدة الكرسي المتحرك، نتيجة الحروق وتضرر الأعصاب.
ترقيع جلد الرأس.. هل يعيد ضفائر "كنزي" ؟
الطفلة "كنزي" ذات الأربعة أعوام، انطبقت عليها مقولة "العودة من الموت" حرفيا، بعد استعادتها من ثلاجة حفظ الموتى، حيث ظنوا أنها توفيت.
تحكي والدتها يسرا الخيري حكايتها فتقول: كنا نسكن في مخيم جباليا، ونزحنا سيرا على الأقدام في الساعة الخامسة فجرا تحت القصف.
نزحت يسرا وعائلتها مرة أخرى إلى منزل في دير البلح، وفي 21 أكتوبر 2023 في حوالي الساعة الثالثة عصرا قصف منزلهم وتهدم فوق رؤوسهم، وصمت آذانهم وانسحب الأكسجين من الجو وانتشر الغبار الأسود وسط الركام وكانت تمسك بطفلتها لينا بينما كانت كنزي مع والدها في الحديقة خارج المنزل.
أصبت في وجهي إصابات شديدة وخرجت من تحت الأنقاض معي لينا، بحثا عن أختي وتركت معها الطفلة ذات الأربعة أشهر حيث انشغلت بالبحث عن كنزي وفي هذه الأثناء رأيت أخي وقد خرج من تحت حائط سقط فوقه وطلب مني التوجه فورا إلى الإسعاف بعدما رأى وجههي، ولكني أخبرته بأني أبحث عن كنزي ليقول أنها استشهدت ولكن قلب الأم لم يصدق ما قاله وكنت على يقين أنها لازالت تنبض بالحياة.
وبالفعل بحثت عنها تحت الركام لأجدها غارقة في دمائها حيث أصيبت بكسر في الحوض والفخذ والرأس والذراع وانفجار في المثانة، ولكني حملتها وسلمتها إلى رجال الإسعاف وطلبت منهم أن استعيدها على قيد الحياة.
توجهت بعد ذلك إلى مستشفى شهداء الأقصى ليبدأ الأطباء في استخراج الشظية التي أصبت بها فوق عيني اليسرى مباشرة "بدون أي مسكنات"، وكان الجرح غائرا وتسبب في تشويه وجهي.
وبعد أيام قليلة أخبرتني أختي أن والدي استشهد قائلة "بابا استشهد مماتش من الكانسر مات شهيد"، استقبلنا جميعا الخبر ولم نذرف دمعة واحدة بعدما مررنا بمآس وآلام ومعاناة لا حد لها، حيث لا يملك الإنسان في غزة ترف الحزن وبات الاستشهاد متوقعا في أي وقت.
المفاجأة كانت مع كنزي التي ظن الأطباء أنها استشهدت لتدخل إلى مشرحة الموتى، ولكن قلبي أخبرني أنها لم تغادرنا، وبالفعل توجهنا إلى ثلاجات الموتى لنخرجها ولازال تنبض بالحياة.
قبل وصولها إلى ثلاجات الموتى خضعت كنزي لعملية جراحية لعلاج المثانة، واستوجب الجرح العميق في رأسها إجراء عملية ترقيع للجلد ولكن قبل ذلك لابد من خروجها من غزة الغير مجهزة لإجراء مثل هذه العمليات لتتضاعف المأساة بين انتظار الخروج والصبر على الآلام وسط نقص حاد في المستلزمات الطبية والمسكنات.
خرجت كنزي بصحبة والدها من معبر رفح إلى مجمع الإسماعيلية الطبي، يوم 17 نوفمبر 2023 لتستكمل علاجها، وحولت إلى تركيا في 20 ديسمبر 2023 وبدأت رحلة ترقيع الجلد لمداواة الجرح العميق في الرأس الذي يكشف عظام مخها.
أجريت عملية ترقيع الجلد لكنزي في يناير 2024 بأخذ قطعة كبيرة من فخذها الأيسر ترقع المنطقة الغائرة في رأسها، ليصل عدد العمليات التي أجرتها إلى 12 عملية خلال أربع شهور.
طبيب بمستشفى الشفاء.. "كشط الجلد" الأشد ألما
للحديث عن الألم الذي يعيشه مصابو الحروق في غزة، يقول الدكتور محمود مهاني أخصائي جراحة التجميل في غزة، إن النقص في المستلزمات الطبية يتسبب في إجراء بعض العمليات بجرعات تخدير غير مناسبة للألم.
وأضاف في تصريحات خاصة لـ"البوابة نيوز" عبر تطبيق “واتس آب” نظرا لتواجده في غزة، أن إجراء عمليات ترقيع الجلد لا يمكن بتخدير كامل، ولكن بتخدير موضعي، وبعد العملية تستمر الصعوبات نظرا لنقص المسكنات خاصة مع اشتداد الألم على المريض لأن كشط الجلد يأتي بمناطق بها "نهايات عصبية" ما يضاعف الآلام.
وروى الدكتور مهاني قصة أصعب عملية أجراها في ظل العدوان بالقول إنه أجرى عملية ترقيع للجلد لفتاة تدعى براء عمرها ٢٦ عاما، استمرت شهرا في العناية المركزة، حيث كانت تعاني من حروق بالأطراف السفلية.
وأكمل: "الحروق تسببت في موت الأنسجة والجلد وصديد كان يخرج منه" مضيفا "لم أكن على دراية بالحالة ولكن وضعت تحت الأمر الواقع وأجريت لها عملية تنظيفات للحالة ومتابعة وبعد شهرين تم إجراء عملية ترقيع جلدي للفخذين".
أستاذ طب نفسي: المصابون عرضة للانتحار والتنمر
لا تقتصر أضرار الحروق على الأذى الجسدي وإنما أثرها يمتد إلى الأذى النفسي وهو أمر أشد إيلاما من كل الأوجاع الجسدية، وفي هذا السياق يقول الدكتور إبراهيم مجدي أستاذ الطب النفسي، إن الأطفال في غزة معرضين لاضطرابات نفسية، فبعدما شاهدوا من أهوال وفقدوا أحبائهم يتعرضون لكوابيس ويتملكهم الخوف والفزع ويميلون إلى العزلة وعدم النوم، وهي أعراض مزمنة.
وأضاف الدكتور إبراهيم مجدي في تصريحات لـ"البوابة" أن مصابي الحروق عرضة للتنمر، إلى جانب نظرات من الخوف والشفقة لدى المحيطين بهم وهو أمر يؤلمهم نفسيا.
وأشار أستاذ الطب النفسي، إلى أن هذا النوع من الآلام يمكن مواجهتها عن طريق ما يعرف بـ"العلاج التحفيزي ومحاولات الدمج داخل المجتمع مرة أخرى".
وأكد مجدي أنه حينما يتعرض مصابي الحروق للتنمر فإنهم عرضة أكثر للانتحار، لذا يجب أن يتناولوا مضادات للاكتئاب وأدوية منومة، بالإضافة إلى ضرورة اللجوء لما يسمى بـ"العلاج بالفضفضة" أو "العلاج الجمعي" وهو أن يجتمع طبيب نفسي بعدد من المصابين وكلا منهم يروي عن آلامه.
الصحة العالمية: الحروق تغير مجرى الحياة
وأكدت منظمة الصحة العالمية أن إصابات الحروق، من بين الإصابات التي تغير مجرى الحياة إلى جانب إصابات النخاع الشوكي والإصابات الدماغية الرضحية، بحسب التقرير الصادر في سبتمبر 2024.
"سيبسيس".. بكتيريا أنهت حياة "سهاد" وهددت "عاهد"
بكتيريا "سيبسيس" هي بكتيريا شديدة الخطورة يطلق عليها "الإنتان" أو "تعفن الدم" وبحسب موقع منظمة الصحة العالمية فإنه واحد من أكثر الأسباب شيوعًا للوفاة في جميع أنحاء العالم.
وكشف تقرير الصحة العالمية المنشور على الموقع الإليكتروني للمنظمة في مايو 2024 أنه في عام 2020 أصيب نحو 48،9 مليون شخص بالإنتان وتوفى منهم 11 مليون شخص، وهو ما يمثل نسبة 20٪ من إجمالي الوفيات في العالم.
وأكد التقرير، أن التقديرات تشير إلى وجود 15 مريض من كل 1000 مريض يدخلون المستشفى ممّن يُصابون بالإنتان بوصفه من المضاعفات الناجمة عن حصولهم على الرعاية الصحية، وتزيد تكلفة علاج الإنتان تزيد على 000 32 دولار أمريكي في المتوسط.
وتعتبر بكتيريا "الإنتان" مهددة للحياة وتحدث عندما يكون لدى الجهاز المناعي في الجسم استجابة شديدة للعدوى، مما يسبب خللا وظيفيا في الأعضاء، ويتسبب رد فعل الجسم في تلف أنسجته وأعضائه ويمكن أن يسفر عن الإصابة بصدمة وفشل أعضاء متعددة والوفاة أحيانا، وخصوصا إن لم يُتعرَّف عليه مبكرًا ويُعالج فورًا.
رايتش ووتش: الفسفور الأبيض يسبب معاناة أبدية
في ظل حالات الحروق الخطيرة التي عانى منها المصابون في غزة، أكدت منظمة هيومان رايتس ووتش في تقريرها الصادر في 12 أكتوبر 2023 والمنشور على موقعه الإليكتروني، أن جيش الاحتلال الإسرائيلي استخدم الفسفور الأبيض المحرم دوليا خلال عدوانه على غزة.
وقالت المنظمة الحقوقية الدولية في تقريرها "تحققت هيومن رايتس ووتش من فيديوهات التقطت في لبنان وغزة في 10 و11 أكتوبر 2023 على التوالي، تظهر انفجارات جوية متعددة للفوسفور الأبيض المدفعي فوق ميناء مدينة غزة وموقعين ريفيين على طول الحدود الإسرائيلية-اللبنانية، وأجرت مقابلات مع شخصين وصفا الهجوم على غزة".
وأوضحت هيومان رايتس ووتش أن "الفسفور الأبيض، الذي يمكن استخدامه لوضع العلامات، وإرسال الإشارة، وحجب الرؤية، أو كسلاح لإشعال النيران التي تحرق الأشخاص والأشياء، له تأثير واسع يمكن أن يحرق الناس بشدة ويضرم النار بالمباني، والحقول، وغيرها من الأعيان المدنية في المناطق المجاورة. استخدام الفسفور الأبيض في غزة، وهي إحدى أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، يفاقم المخاطر التي يتعرض لها المدنيون وينتهك الحظر الذي يفرضه القانون الإنساني الدولي على تعريض المدنيين لخطر غير ضروري".
وعن تسبب الفسفور الأبيض في الحروق، تقول لما فقيه، مديرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش: "كل مرة يُستخدم فيها في مناطق مدنية مكتظة، يشكّل الفسفور الأبيض خطرا كبيرا يتمثّل بإحداث حروق مؤلمة ومعاناة مدى الحياة"، مضيفة أن "الفوسفور الأبيض عشوائي بشكل غير قانوني عند انفجاره جوا في مناطق حَضَرية مأهولة، حيث يمكن أن يحرق المنازل ويلحق ضررا فادحا بالمدنيين".
وكشفت المنظمة الدولية أنه في 11 أكتوبر 2023، أجرت مقابلة هاتفية مع شخصين من منطقة الميناء في مدينة غزة، وصفا مشاهدتهما ضربات تتفق مع استخدام الفسفور الأبيض، وكان أحدهما في الشارع حينها، بينما كان الآخر في مبنى إداري قريب.
وتابعت "وصف كلاهما وقوع غارات جوية مستمرة قبل رؤية انفجارات في السماء، أعقبها ما وصفاه بالخطوط البيضاء التي تتجه نحو الأرض، وقدّرا أن الهجوم وقع في وقت ما بين الساعة 11:30 صباحا و1 بعد الظهر".
وقال كلاهما إن الرائحة كانت خانقة، وقال الشخص الذي كان في مكتبه إن الرائحة كانت قوية لدرجة أنه توجه نحو النافذة ليرى ما يحدث ثم صوّر الضربة.
وأشارت هيومن رايتس ووتش إلى أنها الفيديوهات وتحققت من أنها صُوِّرت في ميناء مدينة غزة وحددت الذخائر المستخدمة في الغارة على أنها قذائف فسفور أبيض مدفعية من عيار 155 ملم وتنفجر جوا، وتُظهر فيديوهات أخرى منشورة على وسائل التواصل الاجتماعي وتحققت منها هيومن رايتس ووتش الموقع نفسه، الدخان الأبيض الكثيف ورائحة الثوم من خصائص الفسفور الأبيض.
وقالت المنظمة إن الفوسفور الأبيض يشتعل عند تعرضه لأكسجين الغلاف الجوي ويستمر في الاحتراق حتى يُحرم من الأكسجين أو يُستنفد، ويمكن أن يؤدي تفاعله الكيميائي إلى توليد حرارة شديدة (حوالي 815 درجة مئوية) وضوء ودخان.
وأضافت أنه "عند ملامسته، يمكن للفسفور الأبيض أن يحرق الناس، حراريا وكيميائيا، وصولا إلى العظم لأنه قابل للذوبان بدرجة عالية في الدهون، وبالتالي في اللحم البشري".
إحصائيات الحروق.. إصابات بالجملة وأرقام غائبة
حاولنا التواصل مع أكثر من جهة فلسطينية ودولية للحصول على بيانات موثقة ودقيقة حول إصابات الحروق في قطاع غزة خلال العدوان الإسرائيلي على القطاع الذي بدأ في السابع من أكتوبر 2023 إلا أن المحاولات باءت بالفشل.
وتواصلنا عبر وسائل مختلفة بمسئولين في وزارة الصحة الفلسطينية، ومنظمة أطباء بلا حدود، والهلال الأحمر الفلسطيني إلا أننا لم نتلقى جوابا على تساؤلاتنا بشأن إصابات الحروق.
وكشف أحد المصادر الذي فضل عدم ذكر إسمه أنه فيما يتعلق بحصر حالات الحروق هو أمر صعب للغاية، نظرا إلى أن هذا النوع من الإصابات يدرج بين حصيلة المصابين والشهداء الصادرة من وزارة الصحة الفلسطينية بشكل يومي منذ بداية العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر 2023 لذا فإن حصر حالات الإصابة بالحروق فقط هو أمر صعب، فقد يكون الشخص مصابًا بكسور أو شظايا إلى جانب الحروق.