لفت نظري تلميذ يدرس بالصف الثالث الإعدادي إلى القصة المقررة عليه في مادة اللغة العربية، وهي قصة "طموح جارية شجر الدر" الفتى التلميذ استنكر بشدة دراسة قصة تحمل عنوان "جارية"، خاصة بعد أن بحث عن الجواري وعرف دورهن وأعمالهن المختلفة في القصور، بل إن القصة نفسها تدين الملك العادل وتقول عنه في صفحة 20: "والملك يا مولاي وراء الستار وخلف الجدران خبير بالجواري وألوان الشراب والترف".
قال التلميذ المراهق في خجل مصطنع: “الجارية يعني شمال”، وتفتتح القصة بدعاء لشجر الدر تقول فيه في صفحة 9: “حكمت عليّ يا رب أن أكون جارية تباع وتشتري”، هل نعلم أولادنا أن نظام الجواري من حكم الله القدري وليس ظلمًا اجتماعيا صنعه الإنسان؟
هذا التلميذ الذكي جعلني أقرأ القصة مجددًا، وهي باختصار تكشف عن دفع شجر الدر لزوجها نجم الدين أيوب لينقلب على شقيقه الملك العادل ويحكم مصر ويتصدى لحملة لويس التاسع، ثم تداري خبر موته حتى ينتصر الجيش وتقتل ابن زوجها توران شاه وتحكم هي ثم تتزوج المملوك ايبك، أي أن الصراع كله على الحكم، وإذا تأملنا أغلب القصص المقررة على أولادنا في مراحل التعليم لوجدنا قصص عنتر بن شداد وعقبة بن نافع وسعد بن وقاص وقطز وبيبرس ومحمود في قصة واسلاماه، وكلها عن فرسان بطولاتهم في السيف والقتل العنيف والصراع علي الحكم، وعندما فتح الله علينا بنموذج امرأة جيدة لم نختار حتشبسوت أو نفرتيتي، بل شجر الدر، والتي يدرس التلاميذ عنها في الصف الثاني الإعدادي بمادة الدراسات الاجتماعية، وكان هذا كافيًا للإشارة لدورها.
في هذا الوقت الذي استمتعت فيه لشكوى التلميذ الفصيح، كنت مستغرقًا في قراءة كتاب "مذكرات مجدي يعقوب جراح خارج السرب" الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، ودون ترتيب مسبق أو قصد، قارنت بين قصة "طموح جارية" وقصة “ملك القلوب”، وما أقسى المقارنة! المذكرات التي كتبها سيمون بيرسين وفيورنا جورمان وترجمها أحمد شافعي، تقدم قدوة علمية فريدة في تاريخ الإنسانية، وهي مصدر لفخر كل مصري. فقلت في نفسي: كيف نقدم لتلميذ إعدادي هذه القصة ونترك قصة مجدي يعقوب، وهي تضم مواقف شيقة ومبادئ وقيم، بل وتحفيزًا على النجاح يحتاجه التلميذ في هذه المرحلة العمرية الخطيرة؟
بالطبع يمكن اختصار المذكرات والانتقاء منها ووضع الأسئلة وإعدادها تربويًا، لتفتح عيون التلاميذ على عالم ممتع من المعلومات الطبية المبسطة بلا تعقيدات، وعن التنقل بين البلدان في بريطانيا وأمريكا ومصر، عن تأسيس مجدي يعقوب أول بنك لصمامات القلب، وكيف أن الجراحة في حقيقتها حالة ذهنية. وعندما قلت إن المذكرات بها مواقف شيقة ومثيرة، قصدت ذلك، والمثال موجود في صفحات الفصل الأول التي تسرد كيفية نقل قلب قبل أن يفسد للحاق بعملية في مستشفى هيرفيلد باستخدام طائرة ثم سيارة شرطة، جاء في صفحة 28: "حل على يعقوب غم عميق قال: انتابني قلق على مريض هيرفيلد الذي يوشك الجراحون أن يفتحوا صدره. وكان بين يدي قلب، ما الذي كنت أملك حقًا أن أفعله؟ بدا أن الخيار الوحيد المتاح هو السفر برًا في رحلة تبلغ ثلاثمائة وستين كيلو مترًا تستغرق في العادة أربع ساعات ونصف الساعة. ولم يكن أمام يعقوب إذ ذاك إلا ثلاث ساعات وخمس عشرة دقيقة قبل أن يفقد العضو صلاحيته للاستعمال".
وهكذا يجد التلميذ نفسه في قلب قصة نجاح وصعود عصرية حديثة، حيث لا جواري ولا مؤامرات، بل متعة ذهنية وعلمية وقدوة حقيقية معاشة لا تشوبها تكهنات ولا خدع وأكاذيب التاريخ، ولا يعني أنني أقدم هذا النموذج كمثال مفروض، فهناك شخصيات عظيمة أخرى نعتز بأنها من معالم حضارتنا يمكن أن يدرسها الطلبة، ويكفي الأجيال التي تشبعت بعنتر وعقبة وعبلة وشجر، هناك أسماء عظيمة مثل الخوارزمي وابن سينا وابن رشد ونجيب محفوظ وأحمد زويل ومحمود سعيد وهدي شعراوي ودولت فهمي واستر ويصا وغيرهم.
لا أدري من يختار تلك القصص، ولكن أخاطب ضمائرهم. كفى جواري وسيوف كفي تمجيد ظاهر وخفى للعنف كفي تثبيت لفكرة أننا لازلنا نحارب الفرنجة والصليبين، نريد أقلامًا ومشارط وريشة ومعامل.