تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
جاء آخر عناوين مشهد الدم في أسوان صادما وفاجعا لدرجة لا تقل بأي حال عن فجاعة مشاهد الحرق والقتل وحمل الجثث على عربات "الكارو".
(هدنة مشروطة بين الدابودية والهلالية) وكأننا بصدد الحديث عن حرب عرقية، أو معركة بين دولتين تعادى كل منهما الأخرى، وهذا يعنى بالضرورة أحد أمرين، فإما أن يتم خرق أحد شروط الهدنة لتدق طبول الحرب من جديد، وإما إتمام اتفاق سلام بين الجانبين المتقاتلين.
ولا أدرى من هو صاحب مصطلح الهدنة ومن أين خرج؟ هل هو مسئول التحرير المركزى بإحدى الصحف أو الفضائيات، أم أنه الطرف الذي أشرف على عقد ما سميت هدنة؟ في كلا الحالتين صك هذا المصطلح لم يصدر عن سلامة نية أو حتى جهل بالدلالة اللفظية لا سيما أن الاتفاق الذي جرى بين العائلتين طرفي الشجار لم يحمل شروطا وإنما آليات لوأد الفتنة ووقف حمام الدم والتهدئة بين شباب العائلتين وبعض الإجراءات التي تمنع المزيد من الاستفزاز.
لكن بروز مصطلح الهدنة يبدو متوافقا مع السياق الذي مضت فيه تصريحات بعض الشخصيات النوبية خلال أيام الفتنة، فقد راح بعضهم يتحدث بلسان المتعصب لما يسمى بالعرق النوبي الذي وقع عليه الاضطهاد منذ تهجيره من أرضه عند بناء السد العالي، والمدعى أن أرض أسوان كلها أرضه وأن من دونه من السكان دخلاء غرباء.
بل إن أحدهم قال بملء فيه، إن كل تلك الدماء قد سالت بسبب مشكلات يعانيها النوبيون في تلك المنطقة منذ 115 سنة، هذا النوع من الخطاب قوبل من الطرف الآخر بخطاب ينتصر للعصبية معتزا بالانتماء للقبيلة، ذلك هو أبشع وأخطر ما نواجهه في فتنة أسوان وهو نتاج أمرين لا ثالث لهما، أولهما غياب الدولة الدائم وعدم احتضانها لجميع مواطنيها سواء من جاوروها في السكن قرب مركز الحكم، أو ابتعدوا عنها في الأطراف، والواقع أن هذا الغياب لحضن الدول المركزية عانى منه كل من سكن أطرافها سواء في سيناء أو مطروح أو الوادى الجديد وصولا إلى أطراف الجنوب.
هذا التخلى عن أبناء الوطن من جانب الحكومة المركزية قد يجعل الانتماء إلى العصبية والاعتزاز بالقبيلة يعلو على الانتماء للوطن، فالناس هناك يديرون كل أمورهم بما اتفقوا عليه من عرف وتوارثوه من عادات وتقاليد دون أن يكون للقانون سلطة أو أي نوع من الحضور، بل إن الناس هناك يديرون اقتصادهم وشئون مأكلهم ومشربهم ومسكنهم وصحتهم بأنفسهم حيث لا مجال حتى لانتقاد نقص الإمكانيات لأن الدولة ومجتمع المركز لم يحضر في أي صورة ولو وحدة صحية أو مشروع اقتصادى أو مشروع سكنى.
هذا الغياب لحكومة المركز ترك المجال واسعا لعبث العابثين بنسيج الأمة المصرية، وهؤلاء ثانى الأمرين الذين حملوا إلى مجتمعنا مصطلح الأقليات العرقية والدينية تحت ستار الديمقراطية وحقوق الإنسان، فقد استطاعوا أن يستثمروا الفراغ الذي نتج عن غياب الدولة وأذرعها ليبثوا أفكارا وأكلشيهات تعمل على نقل الشعور بالاعتزاز بالقبيلة والثقافة المحلية إلى آفاق أخرى تحمل دلالات سياسية مركزها الإحساس بالانتماء إلى مجموعة تمثل أقلية مضطهدة بالنسبة لغالبية المجتمع، وهذا الإحساس يدفع أصحابه بطبيعة الحال إلى مزيد من الانطوائية والانغلاق على أنفسهم، ومن ثم الاحساس بأنهم كيان سياسى واجتماعى منفصل عن جسد المجتمع.
قبل سنوات دعا أحد شعراء بادية سيناء إلى تدويل ما أسماه القضية السيناوية، وقد سجن لإطلاقه تلك الدعوة واعترف لى محاميه اليسارى بارتكاب موكله تلك الجريمة بحق الوطن، لكنه قال أيضا إنه لا يستطيع البوح بهذه الحقيقة لاعتبارات كان من بينها النفاق العام للحالة الثقافية والسياسية التي توجب الدفاع عن حرية الرأى والتعبير ولو كانت الدعوة لتمزيق الوطن.
تلك القضية كانت في زمن الرئيس السابق حسنى مبارك، وهى نموذج حى لنفاق النخبة للمصطلحات والأفكار الواردة علينا.
ولا ينبغى في هذا السياق أن ننسى الدور الحيوى الذي لعبه الدكتور سعد الدين إبراهيم، مدير مركز ابن خلدون، في صك مصطلح الأقلية وترسيخه لدى بعض المثقفين والحقوقيين والسياسيين كأحد المصطلحات الدالة على الإيمان بقيم حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية وأقام مؤتمره الشهير حوله الأقليات، وراح يمزق النسيج المصرى بمطواة مبادئه كحقوقى حتى صار المجتمع المصرى من وجهة نظره مكونا من أقليات دينية وعرقية وثقافية، وللأسف سار على نهجه كثيرون، وأصبحنا نجد أصواتا مسيحية تتحدث عن ملايين المسيحيين المصريين كأقلية دينية ناسين أن عائلات كثيرة وكبيرة بها مواطنون مسلمون ومسيحيون.
إذا كان هذا هو الحال مع المسيحيين فما بالك إذا بالبدو والنوبيين؟ وقد تلازم مع ظهور مصطلح الأقليات في مصر صك بعض المصطلحات الغريبة في التعامل مع مشكلات المصريين النوبيين الناتجة عن التهجير، منها على سبيل المثال لا الحصر، حق العودة إلى أرض الوطن، القضية النوبية.
وقد التقيت فنانين ومطربين يفضلون تقديم أنفسهم كمطربين نوبيين خاصة في الحفلات التي كانوا يدعون لها في المنتديات العربية بالدول الأوروبية دون أن يذكروا كلمة مصر.
ما جرى في أسوان ليس سوى صدى لغياب الدولة وترهات الحقوقيين والمثقفين الذين يبادرون لاتهامك بالتخلف والرجعية إذا قاومت ترهاتهم.
لا أظنني بحاجة لشرح النسيج المصري المتماسك والمتميز بطيف ألوانه المتعددة التي تصنع الهوية المصرية، لكنني بحاجة إلى التنبيه لضرورة مقاومة إهمال الدولة وما فرضه بعض الحقوقيين والمثقفين من مصطلحات خداعة تخفى سكاكين الغدر بين أحرف كلماتها، ولا ينبغي أن يسمح لها بالتجول حرة دون محاسبة أو مراقبة، فعندما يتعلق الأمر بوحدة الوجدان المصرى لا مجال للحديث عن حرية الرأى إلا إذا أردناها حرية لإشعال الفتن.