الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

سامح قاسم يكتب: فرناندو بيسوا والطمأنينة في عالم متشظ

جرافيتي للشاعر البرتغالي
جرافيتي للشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

إن الحديث عن فرناندو بيسوا لا يقتصر على كونه شاعرًا فذًا، بل يتجاوز ذلك إلى محاولة فهم الإنسان في عمق تناقضاته، وصراعه الأزلي مع ذاته ومع العالم من حوله. بيسوا، الذي وُلد في لشبونة عام 1888، لم يكن مجرد كاتب أو شاعر، بل كان عالمًا داخليًا يتجسد في أشخاص متعددي الهويات، عاش كل واحد منهم حياة فكرية ونفسية مستقلة عن الآخر. هذا التعدد الغني للشخصيات التي اختلقها بيسوا كان بمثابة محاولة مستمرة للبحث عن الطمأنينة في عالم متشظٍ.

في عالم بيسوا، الطمأنينة ليست حالة مستقرة أو نهائية، بل هي صراع دائم مع الذات، ومحاولة مستمرة للبحث عن مكان هادئ في زحام الأفكار والمشاعر المتضاربة. يقول بيسوا في إحدى رسائله: "لستُ شيئًا، لن أكون شيئًا، لا أستطيع أن أريد أن أكون شيئًا، مع ذلك أحتوي كل أحلام العالم". هذه الكلمات تحمل في طياتها عمق الأزمة الوجودية التي عانى منها بيسوا طوال حياته؛ فهو يدرك جيدًا حدود قدراته البشرية، ويقبل بها، ومع ذلك، لا يتوقف عن الحلم والسعي إلى ما يتجاوز هذه الحدود.

الطمأنينة، بالنسبة لبيسوا، ليست نتيجة تحصيل الأهداف أو بلوغ الكمال، بل هي القدرة على التعايش مع القلق الوجودي، والتقبل الواعي للقيود التي تفرضها الحياة. بيسوا لا يهرب من هذه القيود، بل يحتضنها، وفي احتضانه لها يجد نوعًا من الطمأنينة، طمأنينة القبول بأن الحياة ليست سوى سلسلة من التناقضات التي يجب أن نتعايش معها.

ما يميز بيسوا عن غيره من الشعراء هو قدرته الفريدة على خلق شخصيات مستقلة تحمل أفكارًا وهويات مختلفة. من خلال هذه الشخصيات المتعددة، لم يكن بيسوا يبحث فقط عن أصوات جديدة، بل كان يسعى أيضًا للبحث عن الطمأنينة الداخلية من خلال التعدد والتنوع.

فالشخصية الأكثر هدوءًا وتفكيرًا فلسفيًا، "ريكاردو رييس"، تجد الطمأنينة في تأمل الطبيعة والتفكير العميق في الحياة والموت. أما "ألبيرتو كاييرو"، فهو يمثل الشخصية الأبسط في نظرتها إلى العالم، حيث يجد الطمأنينة في بساطة الوجود والتعايش مع الطبيعة بدون تعقيدات. في المقابل، "ألفارو دي كامبوس" يمثل الجانب الأكثر اضطرابًا وقلقًا من بيسوا، حيث يعبر عن توتر الحياة الحديثة وصراع الإنسان مع التحولات التكنولوجية والاجتماعية.

من خلال هذا التعدد في الشخصيات، كان بيسوا يسعى للهروب من قيود الذات الواحدة، وللبحث عن الطمأنينة من خلال التوازن بين هذه الشخصيات المختلفة. كان يدرك أن الإنسان ليس كيانًا ثابتًا، بل هو مجموعة من الهويات المتعددة التي تتغير وتتشكل مع مرور الزمن. في هذا السياق، يعبر بيسوا عن حالة من الطمأنينة المتجددة، حيث يجد السلام الداخلي في قدرة الإنسان على التجدد والتكيف مع مختلف جوانب الحياة.

بيسوا كان شاعرًا وجوديًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. كان يعيش في صراع دائم مع الأسئلة الكبرى التي تطرحها الحياة، ولم يكن يبحث عن إجابات نهائية، بل كان يجد الطمأنينة في مواجهة هذه الأسئلة والتعايش معها. بالنسبة له، الغموض ليس شيئًا يجب الخوف منه، بل هو جزء لا يتجزأ من جمال الحياة، ومن خلال تقبل هذا الغموض يمكن للإنسان أن يجد نوعًا من الطمأنينة.

الطمأنينة، بالنسبة لبيسوا، لا تأتي من محاولة حل التناقضات أو إيجاد تفسير نهائي لكل شيء، بل تأتي من القدرة على العيش مع هذه التناقضات، والتأقلم مع الغموض. بيسوا كان يدرك أن الحياة مليئة بالتناقضات التي لا يمكن التوفيق بينها، وأن الطمأنينة لا تأتي من محاولة تجاوز هذه التناقضات، بل من التعايش معها والقبول بأنها جزء من طبيعة الحياة.

الفن كان بالنسبة لبيسوا وسيلة للبحث عن الطمأنينة، ليس فقط كأداة للتعبير عن القلق والاضطراب الداخلي، بل كوسيلة للتصالح مع الذات والعالم. في إحدى رسائله يقول: "الفن هو الهروب الوحيد من هذا العالم الفوضوي". بالنسبة له، الفن لم يكن مجرد وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار، بل كان أيضًا وسيلة للتجاوز، للتغلب على قيود الواقع، وللبحث عن نوع من السلام الداخلي.

بيسوا كان يجد الطمأنينة في عملية الكتابة نفسها، في القدرة على خلق عوالم جديدة من خلال الكلمات، وفي القدرة على التواصل مع جوانب مختلفة من ذاته ومن العالم من حوله. الكتابة كانت بالنسبة له وسيلة للهروب من الواقع، ولكنها كانت أيضًا وسيلة للعودة إلى الذات، وللبحث عن الطمأنينة من خلال هذا الحوار الداخلي المستمر.

الطمأنينة، لم تكن تأتي من محاولته حل الألغاز أو الإجابة على الأسئلة الكبرى، بل من قدرته على تقبل الحياة كما هي، بكل ما فيها من تناقضات وغموض. كان يدرك أن الحياة ليست رحلة نحو هدف معين، بل هي سلسلة من التجارب التي يجب عيشها بوعي وتقبل. وفي هذا السياق، كان يجد الطمأنينة في التفكير العميق، وفي القدرة على النظر إلى الحياة من زوايا متعددة.

الموت كان موضوعًا حاضرًا في شعر بيسوا، ليس كمصدر للخوف، بل كجزء من دورة الحياة التي يجب تقبلها والعيش معها. بيسوا كان يرى في الموت نوعًا من الطمأنينة، نوعًا من الراحة من القلق والمعاناة التي ترافق الحياة.

بيسوا كان يؤمن بأن الموت هو جزء طبيعي من الحياة، وأن الطمأنينة تأتي من القدرة على تقبل هذه الحقيقة. كان يدرك أن الحياة والموت هما جزآن من دورة واحدة، وأن الطمأنينة الحقيقية تأتي من القدرة على العيش مع هذه الدورة، بدون خوف أو قلق. بالنسبة له، الموت لم يكن نهاية، بل كان انتقالًا إلى حالة أخرى من الوجود، حالة من الطمأنينة والسلام.