للكلمات سلطان يخلب العقل، التنغيم والرنين والتشكيل، العلو والانخفاض. ثيابٌ ترتديها الكلمات فتنزع المستمع من مسكنه ومقعده، وتحتله بسحرها، من هنا تتجسد خطورة ودور الشخصيات الكارزماتية مثل الزعيم، والواعظ، والخطيب في مجتمعٍ "السماع" فيه مسلة تخترق الكيان، لأن القراءة والبحث والتدقيق وكل أدوات التيقن مدفونة في "مقابر" الماضي الغابر، لذلك، وللأسف الشديد، فتلك الشخصيات التي سلم لها الشعب "أذنيه" استغلت ذلك أسوأ استغلال؛ فتحايلت وكذبت حتى دمرت وعيه تدميرًا شاملًا.
ويرى علماء الأنثروبولوجيا أن الثقافة الشفاهية السمعية هي ثقافة الإنسان البدائي، لأنها تعبر عن الأمية وسبقت بالطبع مرحلة التطور التي عرفها الإنسان بالتدوين، والعجيب أن نظل أسرى لهذه الثقافة حتى الآن، فنغرق في تمجيد ثقافة "الودان" والقيل والقال، مع أننا الذين أدركنا خطورة ذلك وعبرنا عنه بالمثل العبقري: “الزن على الودان أمرّ من السحر”، وأسباب ذلك واضحة كالشمس، أهمها غياب الاستقلالية الفردية الفكرية، والتلذذ الآمن بالذوبان في القطيع، والنوم العميق في ظل دفئه.
وإذا عدنا للأمثلة التي ما زال أثرها باقيًا، تجد الزعيم معشوق الملايين الذي لم ينتصر في حربٍ واحدة، حقق كل مجده وتاريخه على خطبه الحماسية الرنانة المدهشة، لقد أعلن أنه سوف يرمي العدو التاريخي في البحر، ورغم أن تقديرات عدد الشهداء المصريين في حرب يونيو 1967 تتراوح بين 10،000 و15،000 شهيدًا أو مفقودًا، كما تم أسر 4،338 جنديًا مصريًا.
وتشير بعض المصادر إلى أن عدد الشهداء المصريين قد يكون أعلى من ذلك، حيث يقدر بعض المؤرخين أن عدد القتلى قد يصل إلى 20،000 شهيدًا، إلا أن قوة حضوره الطاغي وحروبه الكلامية غسلت يده من دماء الآلاف، وبدلًا من محاكمته ما زال تمجيده قائمًا حتى الآن، ويعده الكثيرون بطلًا.
إن لعنة الكارزماتيين وقوة لسانهم تقيد عقول القطعان، فهناك واعظ شهير قدم آلاف التأملات ونصب نفسه حكمًا وقاضيًا على الأشخاص والأفكار، أزاح علماء ومتخصصين ليبقى نحو خمسين عامًا بمفرده أمام الميكروفون، يتحدث في كل شيء ويجيب عن كل الأسئلة، هذا الحضور الطاغي جعل صوته يتسلل في دماء ووعي أتباعه الذين قدسوه لدرجة العبادة وأحبوه حبًا أعمى، بل حبًا أسود من الليل البهيم. فيعجزون تمامًا عن إدراك أنه إنسان له سلبيات، تجدهم يذكرون عظاته عن المحبة ولا يرون قسوته التي بلا مثيل في معاقبة أي مخالف شخصي له، فقد أجاد تحويل أي خلاف شخصي إلى خلاف عقائدي، نصب نفسه الدين ذاته، ومنع حتى الصلاة على المخالفين له ولم يحاكم أحدًا من الذين ادعى عليهم، بل اكتفى بكونه الخصم والحكم، وأصدر أحكامًا إلهية لا تُرد، إن صوته المنغم وتلوينه ما زال جاثمًا وحاضرًا بقوة في نفوس عبيده الخاضعين، وحتى كتبه هي تفريغ لمنتج صوته بلا منهج ولا عمق.
هذا المسار في تلوين الصوت سار فيه أيضًا شيخٌ أجاد الوصول إلى الملايين بقوة اللغة العامية الساحرة وبالأداء الحركي والتعبيري، فصار له مريدون، وصار لا يُراجع. هذا الاحتلال للأذان أشد وأقسى وأصعب ألوان استعمار البشر. يا رب، نتخلص منه.
إفيه قبل الوداع
"وداني سبب أحزاني" (فيلم بحبك وأنا كمان)
الأذن تقتل قبل السيف أحيانًا