هذا أهم سؤال الآن ليس للتلاميذ وعائلاتهم فقط، لكن للحكومة واضعة السياسات والوزارات المعنية المنفذة لها.
لا شك أن الثانوية العامة عقبة كبيرة محاطة بخوف أسطوري على مر الزمان لأنها مرتبطة بالمجموع المؤهل لدخول الكليات؛ لكن هذا الخوف لم يفد أحدًا في صناعة مستقبل أفضل للأجيال، فحتى خريجي الكليات النظرية المرموقة لا يجدون عملًا بعد ذلك. وجميع الأطراف في العملية التعليمية متفقون حول ضرورة الاتجاه بالنسبة للمستقبل نحو الاهتمام بالتعليم الفني والمهني والتدريب، وأن القطاعات المرتبطة بالصناعات المختلفة تحتاج أن تحظى بالأولوية خاصة أن هناك نظرة دونية للمجتمع تجاه "الصنايع" التي عانت طويلا من الإهمال وتحتاج إلى عمل مكثف لتغيير النظرة تجاهها.
ولو أموال أولياء الأمور التي ينفقونها على أبنائهم في جامعات خاصة مقابل شهادة لا قيمة لها في سوق العمل اتجهت للإنفاق على التدريب فإن فرصهم في العمل ستتحسن كثيرا وشعورهم بالأمان الاجتماعي أيضا. المجتمع يعاني بشدة من قلة المهارات الفنية والمهنية، ولا يجد من يصلح أجهزة تتعطل، وعندما يعثر على صنايعي جيد يدفع كثيرا من المال لندرته لأن الطلب أكثر من العرض. كما أن العين على الصنايعية من جانب الشركات وأصحاب المشروعات. ولو أردنا أن تخطو مصر خطوات عملاقة في مجال التصنيع وتنويع وزيادة فرص العمل لتسريع وتيرة التنمية فليس أمامنا سوى الاستثمار في هذا القطاع الذي ما زال يحتاج إلى جهود ضخمة وصادقة حتى يعطي النتائج المرجوة.
الكثيرون يتذكرون التجربة الناجحة لمعهد دون بوسكو الذي يفخر بتخريج تقنين في تخصصات بنظام الخمس سنوات في مجال الكهرباء والميكانيكا والاتصالات وغيرها. أيضا مدارس مبارك كول بعد الإعدادية كانت تجربة جيدة. وقد أهلت هذه المدارس عددا كبيرا من الأيدي العاملة المهرة الذين استفادت منهم أسواق الخليج وحتى أوروبا. ولا ندري لماذا تعثرت هذه المدارس أو ربما لم تحظ بالدفع اللازم لمواصلة جهودها والتوسع في التعليم التقني. هناك الآن ضرورة إليها وإلى غيرها، مع تطوير المناهج وإدخال تخصصات أخرى تواكب متطلبات سوق الشغل. وهناك قصص نجاح لدى الشركاء الدوليين في هذا النوع من التعليم المهني مثل كوريا الجنوبية والهند والصين ولا بد من الانفتاح عليها والاستفادة منها.
لدينا في مصر أكثر من نصف طلاب المرحلة الثانوية يلتحقون بالتعليم الفني (من 60 إلى 70%) ويتمتعون بفرص أكبر في التوظيف مقارنة بخريجي التعليم العالي. لكن هل مستواهم يؤهلهم للحصول على تلك الفرص؟ الإجابة بالنفي حتى الآن، حيث ينقصهم التدريب على المهارات؛ وهذا الدور ملقى على عاتق الدولة وأذرعها المختصة بهذا الملف الحيوي وهي ملتزمة بتشجيع التعليم التقني والتدريب المهني وتطويره والتوسع فيه وفقا لمعايير الجودة العالمية وبما يتناسب مع احتياجات سوق العمل. وهذا أيضا سبق ووضعته الدولة في خططها، ومنها الاستراتيجية القومية لمصر 2030 التي بدأت في تنفيذها 2016. وقد طالعتُ اليوم خبرا مفرحا في جريدة الأخبار يفيد بوجود 7 مدارس صنايع في مرسى مطروح، وهذا يؤكد أن الإرادة السياسية متوفرة وهناك وعي بالأزمة وسعى لحلها.
جاء في تقارير صادرة عن مؤسسة فيتش سوليوشنز( Solutions Fitch) حول مخاطر سوق العمل في مصر في الأربع سنوات الأخيرة، من 2019 وحتى 2022، أن مصر تملك عددا كبيرا من الأيدي العاملة مقارنة بجيرانها الإقليميين بسبب عدد سكانها الضخم؛ مع توفر عدد هائل من الخريجين الذين يستكملون مستويات متفاوتة من التعليم. وتلفت إلى وجود عوامل عديدة تحول دون الوصول إلى تعليم جيد، وبالتالي يخرج لسوق العمل سنويا عدد كبير من العمالة غير الماهرة مما يجعل الشركات تعاني نقصا في العمال المتخصصين. وتضطر الشركات أحيانا لاستيراد عمال أجانب بتكلفة أعلى. وترى التقارير أن زيادة فرص العمل ليست حلا كافيا لمشكلة البطالة بل لابد من زيادة مهارات الخريجين، لأن أرباب الأعمال يواجهون صعوبة في ملء الوظائف الشاغرة بسبب نقص المهارات؛ علما بأن القطاع الخاص يوظف أكثر من نصف العاملين في مصر.
تلك المعلومات التي تضمنتها التقارير الدولية ليست جديدة على الحكومة وهي على اطلاع ودراية بها، وحان الوقت لعمل حقيقي وجدي في هذا القطاع بالتعاون بين الحكومة وأرباب الأعمال. قد تكون إدارة منظومة تعليمية بالحجم الذي يزيد على 26 مليون تلميذ في 62 ألف مدرسة حكومية وخاصة، ويضاف إليهم حوالي مليونين من المدرّسين والموظفين، هو أشبه بالمهمة المستحيلة. لكن التحديات قابلة للتحول إلى عناصر نجاح إذا تم الاستثمار على أفضل وجه في التعليم المهني وتخريج عدة ملايين مؤهلين بمهارات تناسب سوق العمل.
إن خريجي التعليم التقني إذا توفروا على مستوى جودة عالية فإنهم سيشكلون علامة فارقة في الحياة الاقتصادية المصرية وسوق العمل وسيلعبون دورا محركا في دفع النمو، وأدوات فاعلة في الحد من الفقر وتحسين مستوى المعيشة لهم ولأسرهم، وتعزيز الحراك الاجتماعي والتماسك الاجتماعي؛ وكلاهما لم يعد يذكره الاقتصاديون ولا الاجتماعيون رغم أهميته في تعزيز الأمل لدى الشباب والشعور بالكرامة والقدرة على التطور.