حين يكون الغموض هو سيد الموقف، فتبهرك التفاصيل، وتلتهب الأفكار، وتأخذك الإثارة إلى فك اللغز، فتعكف على ربط الخيوط المتناثرة من أجل فك اللغز. عندها قد تُصاب بالاكتئاب مرة، وتنتصر مرات، لكن الشغف يستمر، فتجوب أرفف المكتبات أو متاجر الكتب الرقمية باحثًا عن لغز آخر. هكذا يحيا عشاق أدب الجريمة، منذ أن انتشرت في العالم حمى "شيرلوك هولمز" المحقق البريطاني الأشهر، وغريمه ومعادله الفرنسي "هيركيول بوارو"، وحتى الألغاز المحلية التي أمتعنا بها العديد من كبار المؤلفين المصريين.
في الحاضر، قد لا تحتفظ الذاكرة الجماعية العربية بالكثير من الأعمال الموجودة لعدة عوامل، حتى صارت هناك العديد من التساؤلات حول شكل أدب الجريمة الموجود حاليًا؛ وما إذا كانت النسبة الأكبر يحتلها الأبطال القادمون من روايات عالمية شهيرة. وكيف دخلت أشكال أخرى من أدب الجريمة المعاصر من المترجمات؟
أيضًا، بعيدًا عن الأعمال القادمة من أوروبا والولايات المتحدة والتي سيطرت على هذا النوع الأدبي لعقود طويلة. ما هي أشكال الجريمة في مجتمعات أخرى، بلدان تبعد عنا آلاف الأميال، مثل آسيا وأمريكا الجنوبية؛ وكذلك ماذا عن أعمال الجريمة العربية؟ هل يكتفي البعض بالتمصير والتعريب أم أن مستوى كتابة أدب الجريمة العربي يبدأ في التحسن؟
لكن السؤال الأهم.. كيف يمكن كتابة "قصة أصلية" مستوحاة من البيئة المصرية أو العربية بعيدًا عن جو الإثارة الغربي. وهل نجح الكتاب في تقديم جريمة ابنة عالمها حقًا؟
حول أدب الجريمة الذي وصفه البعض بـ «غير الراقي»، تتناول «البوابة نيوز» من خلال جولة بين عدد من الناشرين والكتاب، العديد من الأسئلة ووجهات النظر.
شكل الجريمة
"الفكرة في طريقة كتابة العمل، أن يكون "مضفر كويس"، وليس مجرد ملء صفحات. بل أن تأخذك الرواية وتستطيع الاستمرار في القراءة، وفك الضفيرة أو العقد حتى تصل الى نهاية الرواية". بهذه الكلمات يفسر الناشر شريف بكر، مدير "العربي للنشر"، عدم رواج عدد من أشكال أدب الجريمة في مجتمع القراءة المصري.
وأشار إلى أن "أعمال الجريمة معروف عنها أن عدد صفحاتها كثيرة من 400 إلى 600 صفحه، ولابد أن يكون هناك سلاسة، وأن ترتبط بالعمل خلال القراءة وإلا سوف تفتقده في النص".
وقال: "هناك بعض الأعمال التي كانت تُترجم بشكل خاطئ وجاف جدًا، أشبه بالترجمة الحرفية ولا يوجد بها اندماج، وهي لم تنجح لهذا السبب".
ولفت بكر -الذي قام بنشر عدد كبير من أعمال الجريمة المترجمة- إلى أن حرفية الترجمة، وتقديم العمل بشكل يلائم القارئ العربي، ساعد في نشر روايات الجريمة المترجمة في الآونة الأخيرة. وقال: "القراء كانوا يقرأون من 400 إلى 600 صفحة دون خوف، لأن العمل شيق وهذا دليل على نجاح العمل حرفيا، هناك أكثر من رواية جريمة تمت ترجمتها لدار العربي للنشر، وكنا نخشى عدم قبول القارئ لهم ولكن على العكس اكتسبنا حب القارئ وثقته".
أما الكاتبة والمترجمة سارة ممدوح، صاحبة رواية "لا عزاء" التي تقع ضمن أدب الجريمة الاجتماعي، فتشير إلى أن النسبة الأكبر لأعمال الجريمة المنتشرة من مترجمات لروايات عالمية شهيرة، مثل أعمال أجاثا كريستي وآرثر كونان دويل، وهو "نوع من الاستسهال للمترجمين والناشرين" حسب تعبيرها.
تقول: "رغم وجود العديد من الكتاب في الماضي والحاضر، لكن للأسف هناك لدى البعض نوع من أنواع الاستسهال والاعتماد على سمعة هؤلاء الكتاب، حتى وإن اتسمت بعض الروايات بالسذاجة وسطحية الفكرة".
كما تشير الكاتبة نهى داوود إلى أنه لا زالت النسبة الأكبر في أدب الجريمة للمترجمات على الساحة المصرية والعربية ليست فقط الروايات العالمية، مثل أجاثا كريستي وآرثر كونان، وروايات شيرلوك هولمز، وإنما هناك العشرات من الكتاب الأجانب، وعلى رأسهم كتاب الدول الإسكندنافية، مثل النرويج، والسويد، وفنلندا، وأيسلندا "وهذا هو اللون المسيطر على ساحة أدب الجريمة في مصر والعالم العربي"، وفق رؤيتها.
تقول: "أشكال الجريمة تختلف في الغرب عن مجتمعنا الشرقي. ففي الغرب تكون دوافع الجرائم وأساليب تنفيذ الجريمة سببها يعود بشكل كبير إلى شرب الخمر، وتعاطى المخدرات، والسرقة. أما في مجتمعاتنا مازالت جرائم الشرف تأخذ مساحة كبيرة، وأيضا الظروف الاقتصادية تخيم على أجواء دوافع الجريمة، ونحن ككتاب نعكس هذا الواقع في كتابتنا، لذلك أكثر اختلاف يكون في الدوافع بين الغرب والشرق".
وأضافت: في الغرب هناك دول كثيرة مصرح لها بحمل الأسلحة، كما من السهل أن يهربوا بعض المواد التي تساعد على الجرائم، ويتواصلون مع منظمات تسهل عليهم الجرائم، ولكن مازالت مجتمعاتنا الشرقية متحفظة ومحكومة أمنيًا بشكل أكبر".
وتشير المترجمة والناشرة إيزيس عاشور، إلى أنه، في السنوات الخمس الأخيرة كان انتشار أعمال أجاثا كريستي وآرثر كونان دويل يطغى على السوق، وحتى الآن "إلا أنه مع انتشارهم الكبير، صارت هناك حاجة إلى قراءة أعمال جديدة من أدب الجريمة، لذا تجد أدب الجريمة المعاصر من المترجمات يلقى حالة طلب كبيرة".
وأضافت: "بالنسبة لأشكال الجريمة في مجتمعات أخرى، سنجد أدب الجريمة الإسكندنافي لا يزال يلقى رواجًا كبيرًا في العالم بأكمله، نظرًا لأن نسبة الحوادث قليلة في هذا الجزء من العالم، لديهم الطاقة الإبداعية لابتكار ألوان جديدة من الجريمة والروايات البوليسية".
ليس سهلًا
رفض بكر فكرة النظر لأدب الجريمة على أنه مجال سهل "هذا كلام غير صحيح، أدب الجريمة من أصعب أنواع الأدب حتى يُكتب باحترافيه وينجح يحتاج مجهود كبير"، موضحًا أن هناك دولًا مثل فرنسا تحتفي بهذا النوع الأدبي. كما أن كتاب أدب الجريمة في الدول الإسكندنافية -السويد والنرويج والدنمارك- استطاعوا أن ينفردوا بهذه الأعمال، التي صارت تسمى بـ "أعمال اسكندنافيا المظلمة".
وأضاف: "خلال زيارتي لفرنسا، عرفت أن هناك مؤتمر سنوي في مدينة ليون خاص بأدب الجريمة، عندما ينطلق يقلب فرنسا رأسا على عقب. هناك يفترضون أن جريمة حدثت في المدينة، ويعطوا المواطنين أسئلة مركزة عن هذه الجريمة من أجل المشاركة والتفاعل ومعرفة حل اللغز. كما يتم اصطحاب الأطفال من المدارس إلى المتاحف كي يستمروا في البحث عن لغز الجريمة. أيضًا، يتم استضافة كتاب من جميع البلدان مثل كولومبيا، ودول إسكندنافيا، ويتم بيع الكتب والروايات -وهذا هو الأهم- ويتم عمل جلسات خاصة لأنواع مختلفة لأدب الجريمة.
وأشار بكر، الذي ترجم روايات من بقاع مختلفة في العالم، إلى أن فن كتابة الجرائم في العالم له عدة أنواع يتم تطويرها "وهناك أنواع بدأت تقتحم الإطار المصري، وبعض الأنواع بعيدة كل البعد عن مجتمعاتنا. فمثلا مؤخرًا قمت بتحرير 4 روايات لهم علاقة بسوء استخدام الأطفال والمتاجرة بهم على شبكة الانترنت المظلمة، وكيف يوجد بشر مريضة نفسيا تقوم ببيع فيديوهات الأطفال لأغراض جنسية، هذا مثلًا طريق يسير فيه الغرب ويتم تعميقه".
وأضاف: "هناك مثلا جريمة تركز على المحقق النفسي، وغيرها تركز على المحقق السيدة العجوز التي تبلغ من العمر 70 عاما، وهناك الأدب البيئي الخيالي، حيث يتناولون المستقبل حول نمو الشجر مثلا بشكل معين وبعدها قد يبدأ في مهاجمة البشر، وهناك نوع يتناول الفساد، وغيرها يتناول سرقة مقرات مالية، واهناك لذي يتناول قصص للمخابرات. الأهم في كل نوع جريمة نستشعر الاندماج مع القصة، ويسير بنا الشغف لتكملة الرواية ومعرفة ما هو الجديد فيها".
أيضًا، تشير سارة إلى أن أدب الجريمة المنتشر حاليًا -وليس كل المتواجد- قائم على فكرة "من الجاني؟"، وهذا يعني بناء الحبكة في إطار تشويقي تصاعدي لقضية قتل أو سرقة بناء على إخفاء اسم الشخصية التي فعلت الجريمة نفسها "وهذا يُرى على إنه النوع الأكثر شيوعًا بين القراء الشباب، وهم الجمهور المستهدف لبيع هذه الكتب"، كما تقول.
لكن في الواقع، كما ترى سارة، فإن أدب الجريمة هو "بحر من التنويعات، منها التحقيقات البوليسية -وهو النوع الشائع- والقضايا الكونية الغامضة، مثل اختفاء أشخاص والاكتشاف أنهم قد التحقوا بسفينة فضائية مثلا، والانتقام، وهو نوع يتولى فيه الشخص ذو الخصومة البحث والانتقام، والأدب الإجرامي القائم على وجود شخص غير أخلاقي ينفذ جرائم لاعتقاد شخصي".
قصة أصلية
"الجميل أنه أصبح على الساحة المصرية أكثر من كاتب أدب جريمة محترف ومتخصص في أدب الجريمة، مما يجعل أدب الجريمة المحلى يجذب القراء"، كما ترى نهى داوود، والتي تلفت إلى أن القراء برغم قوة أدب الجريمة الأجنبي وربما هو أكثر احترافًا منا، سيظلون لديهم الرغبة في التواجد في بيئة مألوفة بالنسبة لهم. أسماء مألوفة، ومشكلات ودوافع وصراعات قريبة من حياتهم والبيئة الخاصة بهم.
وعن أدب الجريمة المصري، وكيفية الخروج بما يمكن تسميته بـ "قصة أصلية" بعيدة عن النقل أو الاقتباس في الشخصيات أو الأماكن أو حتى تقنيات الجرائم والبحث، يشير مدير العربي للنشر إلى أن "الجريمة في مصر بشعة وصعب كتابتها".
يقول: عندما نتصفح صفحة الحوادث في الصحف، نصاب بالصدمة من بشاعة الجرائم، فيجد الكاتب صعوبة في كتابة ما هو أصعب من الواقع".
يضيف: "ولكن في الفترة الأخيرة، أرى كتاب مصريين مثل يحيى صفوت -على سبيل المثال- يكتب فانتازيا ورعب بشكل كبير، رغم أنهم أكثر المجالات إقبالا في الأدب، وأن أدب الجريمة يشكل صعوبة أكبر لأنه يحتاج إلى حبكة، ولكن الأجيال الجديدة، من وجهة نظري، تكتب الجريمة بشكل مبهر وبها خصوصية شديدة، وأسعد وافتخر أن أقم كدار بنشر أعمالهم بشرط أن تُكتب بشكل احترافي".
وأشار بكر إلى أنه "في الخارج، أرى أنهم في تشوق كبير لترجمة كتابات جريمة مصرية، فهم منبهرون بمصر، وينتظرون ذلك حيث يفتح للمصريين مجالًا للعالمية. ونفتخر -نحن كدار نشر- أننا بدأنا الشرارة الأولى في الاهتمام بأدب الجريمة، ثم بدأت بعدها دور النشر المصرية تهتم بهذا النوع من الأدب".
كما تؤكد إيزيس عاشور أن هناك كتاب مصريون يظهرون الآن على الساحة ولديهم قاعدة قراء عرب كبيرة "لكن أرى أنهم قادرون على إبراز نمط للكتابة والجريمة خاص بهم دون الاعتماد على التمصير والتعريب، بل بعضهم اعتمد على مصادر من جرائم حقيقية حدثت في الوطن العربي".
لكنها لفتت أيضًا إلى أنه "لحين ظهور عدد أكبر من الكتاب العرب يسد حاجة السوق، سيظل الاعتماد على الترجمات جوهريًا".
وترى نهى داوود أن الكتاب المصريين نجحوا في تقديم جرائم محلية بامتياز، سواء في الدوافع أو الأماكن أو طريقة اقتراف الجريمة "ويمكن كتابة القصة الأصلية إذا كان الكاتب يمتلك أصالة وصدق ومعرفة بالمكونات الثقافية الرئيسية التي تسمح له بفهم البيئة المحيطة واستلهام الجرائم منها".
تضيف: "نحن ككتاب لا نخترع الجريمة من الصفر، بل نستوحيها من البيئة المحيطة. أي كاتب لابد وأن يحرص على أنه متابعة الجرائم المحلية، عن طريق متابعة اخبار الحوادث من الصحف، سواء الورقية أو الإلكترونية، أو حتى منصات التواصل الاجتماعي، حتى يستطيع تقديم جريمة للقراء مقنعة.
وترى سارة ممدوح أنه لكتابة قصة جريمة أصلية وليدة البيئة المصرية، هناك عدد من العوامل التي ينبغي للكاتب مراعاتها خلال العمل من أجل أن يوازن الكاتب بين متطلبات القراء وبين حرية إبداعه "فيجب عليه البعد عن المؤثرات المرئية، والكتابة بعد فاصل زمني من رؤية او قراءة عمل جريمة، والاعتماد على خريطة عمل محددة بعدد الكلمات ومؤطرة بإطار زمني؛ فيما يمكن الاستلهام من أحداث وقعت بالفعل وخلق صراع داخلي بين الشخصيات على الخلفية الاجتماعية والواقعية للقصة، وكذلك يمكن استلهام جريمة من التاريخ، ونحن تاريخنا غني بالأحداث. وأيضًا، يمكن الاستلهام من الأساطير لو فكرنا في كتابة جريمة الفانتازيا.
أمّا بالنسبة للأعمال العربية، يشير بكر إلى أن هناك موجه حاليًا للسيدات ممن بدأن في كتابة أعمال للجريمة "هذا الأمر أشعرني بالسعادة، والفخر لأنهم من قرأنا، أعمالهم خالية من النقل أو حتى الاقتباس من الأعمال الأجنبية، مثلهن كأي كاتب عندما يقرأ ماركيز، أو نجيب محفوظ أو طه حسين، أو أي عمل مترجم عالمي، يبدأ بعدها في هضم كل قراءاته لتوسيع أفقه".
وتشير سارة إلى أن بعض الأعمال العربية يقوم كتابها باللجوء لـ "الاستلهام المرئي"، بمعنى مشاهدة الأفلام الأجنبية الناجحة في هذا المجال ثم تطويع الإطار العام للعادات المقبولة في مجتمعنا "لكن هذا يرجع لذائقة القارئ، الذي يبحث عن الإطار البسيط المتعارف عليه، القائم على التشويق".
وتضيف: "لكن لا ننكر أن البعض اتجه لإدخال بعض العناصر الأخرى، مثل الجانب الاجتماعي للشخصيات أو الصراعات الشخصية والنفسية، لكن -من وجهة نظري- لا يزال أمامنا شوط طويل من الجرأة في الإبداع والبعد عن القوالب وعدم القلق من محاولات تغيير عقلية القارئ، وتشجيع الكاتب على الخروج من منطقة الراحة إلى عوالم الاستكشاف.
ولفتت إلى "دخول أنواع معاصرة من الترجمات معتمد على نفس السبب، وهو العكوف على ترجمة الأعمال الأكثر مبيعًا".